الاحتفالية قيمة فكرية وجمالية مضافة

الاحتفالية قيمة فكرية وجمالية مضافة

د. عبدالكريم برشيد

فاتحة الكلام

            في يوم من تلك الأيام التي مضت، جزئيا وشكليا، ومن غير أن تمضي بشكل كامل،  جاءت هذه الاحتفالية إلى الوجود، وكان هذا المجيء  حدثا استثناىيا حدث بفعل قوة ما، ولقد حدث ذلك الحدث في الواقع وفي التاريخ معا، وكان هذا الحدث حدثا واقعيا وتاريخيا، لأن فواعل بشرية عاقلة أحدثته، ولأن عوامل بيئية ومناخية وجغرافية ساعدت على حدوثه، ولأن سياقات موضوعية كثيرة، بعضها ظاهر وأكثرها خفي، ساهمت في أن يحدث هذا الحدث،  والذي جاء في وقته، استجابة لصوت الحياة ولصوت التاريخ ولصوت العقل، ولهذا فقد كان من حقنا أن نقول اليوم، تماما كما قلنا بالأمس، بان ظهور هذه الاحتفالية كان حدثا شرعيا، وإن هذه الاحتفالية، بفنها وعلمها وفكرها وصناعاتها الإبداعية المختلفة، تنتمي كلها إلى الواقع، وبهذا فقد كانت في الواقع حركة فكرية وجمالية وأخلاقية واقعية، وهي واقعة وقعت في تاريخ  الفكر والإبداع في التاريخ، مما يعني أنها ظاهرة تاربخية، وهذه الحقيقية البسيطة اليوم،  هل يمكن أن يختلف حولها اثنان عاقلان؟

وهل يصح أن ننكر وجود هذا الموجود، وأن نقول بأنه غير موجود، فقط لأنه لا يوافق هوانا، ولا يذهب نفس مذهبنا في التفكير وفي المذهبية السياسية أو في المذهبية الأخلاقية؟

وهل يصح أن نتنكر للتاريخ ولقوة التاريخ ولمنطق التاريخ وهو الحق والحقيقة، بل هو أصدق كل الحقائق على الإطلاق؟

يقول العارفون من أهل العلم والحكمة، لكي نفهم التاريخ ينبغي أن نفهم الإنسان، وهذا ما ظلت الاحتفالية تؤكد عليه دائما، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا، وإن هذا الذي نسميه التاريخ، ماذا يمكن أن يكون سوى إنه صناعة إنسانية؟

هو صناعة جميلة، مع وجود الإنسان الجميل، وذلك في الزمان الجميل وفي المناخ الثقافي والحضاري الجميل، وهو صناعة رديئة مع وجود الإنسان الرديء، وذلك في الأزمان الرديئة وفي السياقات الفكرية الرديئة..

وبالنسبة للذين حاربوا الحقيقة الاحتفالية، وحاربوا اجتهاد الاحتفاليين، وحاربوا تجربة وتجريب الرواد الاحتفاليين، نقول لهم ما يلي:

غدا سيكون يوما آخر، وسوف يسألكم مولانا التاريخ السؤال التالي:

ــ أنتم الذين عاصرتم الاحتفالية، واقتسمتم معها نفس زمنها ونفس أسئلتها ونفس قضاياها، ماذا تعرفون عنها؟

لقد كنتم معها، على نفس المركبة الزمانية والجغرافية، فماذا رأيتم؟ وماذا سمعتم؟ وماذا قرأتم؟ وماذا فهمتم؟ وماذا أضفتم؟

ستقولون بأنكم كنتم حاضرين في زمن الاحتفالية، وما هو دليلكم على على هذا الحضور الغائب أو هذا الغياب الحاضر؟

 السؤال الاحتفالي أخطر ما في الاحتفالية

فهذه الاحتفالية، وكما يعلم الجميع، كانت في التاريخ شاهدة على التاريخ، وكانت حضورا متجددا، وكانت حراكا، وكانت جراة، وكانت نقدا، وكانت صرخة، وكانت كشفا، وكانت فضحا، وكانت تحديا، وكانت شغبا، وكانت سفرا، وكانت معرفة، وكانت وجهة نظر، فأين وجهة نظركم أنتم؟

ولقد كانت أسىئلة حارقة، وكانت مسائل فكرية وجمالية أيضا، فاين هي أسئلتكم ومسائلكم أنتم؟

وهذا الواقع الاحتفالي اليوم، والذي لا يمكن أن يرتفع إلا بسلطة المعرفة وبقوة الحقيقية، هل يمكن أن يأتي زمن من الأزمان، نجد في الناس من يخبرنا بأن هذه الاحتفالية لم يكن لها وجود، وأنها مجرد وهم واهمين أو أنها مجرد حلم حالمين أو أنها مجرد عبور عايزين، مثل سحابة عابرة؟

وهذه الاحتفالية، أليست معرفة، أو هي فقط درجة في سلم المعرفة، أو هي طريق من طرق المعرفة، أو هي حب وعشق المعرفة؟

وهل يجوز أن نخاصم هذه المعرفة وأهلها، وهي في درجة الصدق والمصداقية، وهي في درجة الجهاد والاجتهاد، وهي في درجة البحث الصادق عن الحق والحقيقة، وأن نمنع الناس من عشق هذه المعرفة، وهي فقط طموح مشروع، من أجل أن تقبض على جمر الحقيقة، ومن أجل أن تقترب من الجمال ومن الكمال ومن الإنسان ومن الإنسانية، ومن الحباة ومن الحيوبة، ومن المدينة، ومن الإبداع وروح الإبداع؟

بالتاكيد لا يمكن

ولعل أخطر ما في هذه الاحتفالية هي أسئلتها الجديدة والمتجددة بكل تأكيد، والتي هي أسئلة حية وواقعية ومسؤولة وتاريخية، وهي أسىئلة غير استعراضية، لأنها تعبير صادق عن قضايا وجودية حقيقة، وليست مجرد ترف فكري أو مجرد استعراض معلومات لا علم فيها ولا حكمة فيها.

وتعقيبا على ما يكتبه الاحتفالي الرائد والمؤسس، وفي إحدى تغريداته الصادقة، يقول ذ. عبد المجيد فنيش، الكاتب والشاعر والباحث الاحتفالي الكبير الكلمة التالية:

(حفظكم الله تعالى وبارك فيكم؛ أستاذنا الباذخ الكريم في تطريز أبهى المعاني في بديع المباني.

نعم سيدي؛ لقد بادت كل الأيديولوجيات؛ و….. ؛ و ظلت الاحتفالية شامخة.

لكم كل الشكر والامتنان على ما أفنيتم من عمر ومن جهد؛ من أجل أن نعيش مثل هاته اللحظة التي سمقت فيها بيارق الاحتفال).

وقبل هذا التاريخ بأربعبن سنة، نجد نفس هذا الاحتفالي، الرائد والمؤسس عبد المجيد فنيش، وفي دورية أيام قرطاج المسرحية – الجمهور، ـ وفي دورتها الثالثة 1987 يقول ما يلي:

(عندما رسم عبد الكريم برشيد معالم الاحتفالية، قامت ضجة في المسرح العربي، بين مؤيد ورافض ومفتوح.. والذين ساندوا الاحتفالية أكدوا على أن مسرحهم ـ قبل ظهور الاحتفالية كان احتفاليا، والذين رفضوها قالوا إن برشيد لم يأت بجديد، وأنهم يمارسون الاحتفالية، وكما يفهمونها، من دون الحاجة إلى تنظير يضبطها، إضافة إلى هذين الفريقين هناك طبعا من لهم اختيارات مسرحية تبتعد كل البعد عن الاختيار الاحتفالي).

 الاحتفالية متجددة ولكنها غير جديدة

وهذه الاحتفالية ليست جديدة حتى تأتي بالجديد، فهي إحساس إنساني جميل ونبيل، وهي بهذا قديمة قدم الإنسان، وهي قديمة قدم الحياة، وهي قديمة قدم التاريخ، وهي أساسا رؤية إنسانية، فيها جمال وكمال، وفيها فعل وانفعال، وفيها حضور يعاكس الوحدة والانعزال، ونحن في هذه الاحتفالية لم نكتشف ما لم يكن معروفا، ولا نحن من اكتشف النار، ولا نحن من اخترع العجلة، لأننا نؤمن بأن دورنا في الحياة هو أن نحيا، وأن نستمتع بجمالبات الحياة، وأن نعرف بأن الفرح الصادق لا يمكن أن يكون إلا في يوم العيد الصادق، ولسنا نحن من أوجد هذا اليوم الاستثنائي في تاريخ الإنسان والإنسانية.

وفي جزء صغير من هذه الاحتفالية حضر المسرح، ولم يثبت إطلاقا أن هذه الاحتفالية قد قالت أو كتبت يوما، بأنها مسرح جديد، هي مسرح مسرحي وكفى، وما ثبت أبدا أن من أهدافها البحث عن المسرح الجديد، أو أنها قد قامت من أجل إيجاد الجديد في المسرح المغربي والعربي، وما كان يهمنا دائما، في هذه الاحتفالية القديمة، ليس هو الجديد، والذي هو فعل نسبي، يفيد بأن جديدنا في المسرح المغربي والعربي هو قديم بالنسبة للمسرح الأوروبي، ولقد حرصنا على ألا تكون رؤيتنا الأفكار والأشياء جامدة وساكنة، واقتنعنا بأن كل جديد هذا اليوم، مصيره أن يصبح في يوم من الأيام قديما، وما يهم الاحتفالية والاحفاليين هو المسرح الأصيل، أي المسرح الذي يشبه نفسه، والمسرح الذي يؤسس نفسه، والمسرح الذي يؤسس زمنه، والمسرح الذي يؤسس لغته، والمسرح الذي يؤسس معجمه،  والذي لا يقتبس تجربة لم يعشها، والذي لا يختلس رؤية ليست رؤيته، وما كان يهمنا أكثر، عند تأسيس هذه الاحتفالية، هو إيجاد مسرح آخر، مسرح له ذاكرة مستقبلية، وله مرجعية في الزمن الآتي، وله ممكناته المستقبلية الآتية مع القادم من الأيام والأعوام، والتي مفترض أنها سوف تكون أغنى وأعلى مما لهذا المسرح في الماضي، وهو بهذا مسرح آخر مختلف ومخالف، مسرح له جذور أخرى تشده إلى الأرض، وتشده إلى تربة هذه الأرض، والذي هو أساسا فعل تأسيس، أو هو عادة تأسيس، وليس مجرد فعل (جديد) يقوم على تدوير المتلاشيات المسرحية القديمة، وبهذا فهو عل خلق لمسرح آخر برؤية أخرى، وبمقومات فكرية أخرى، وبجماليات فنية أخرى، وبتقنيات وبآليات أخرى.

ومنذ (البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي) أكدت هذه الاحتفالبة على أن من لا يملك القديم، لا يحق له الحديث عن الجديد، ولا عن فعل التجديد، ويجدد ماذا؟

هم يطلبون من هذه الاحتفالية الجديد، وذلك في مسرح عربي لا قديم فيه، وكله جديد، وبهذا فقد استبدل الاحتفاليون مفهوم الجديد بمفهوم آخر هو مفهوم التأسيس، ولقد عملوا فعلا على تاسيس مسرح آخر، مسرح سوف يصبح مع توالي الأيام والأعوام قديما، وفي ذلك الوقت يكون من حقنا أن نجدده، وهذا ما جعل الاحتفاليين ينتقلون من درجة تأسيس الاحتفالية أولا، إلى درجة تجديدها بعد ذلك، وبهذا فقد كان من حقهم أن يسموا هذه الاحتفالية المغربية والعربية، والموجودة اليوم في درجة التأسيس وإعادة التأسيس،  باسم (الاحتفالية المتجددة).

المسرح الاحتفالي من التفرج إلى التعييد

هذه الاحتفالية ليست جديدة إذن، ولكنها مختلفة بكل تأكيد، ولقد شكلت في تاريخ المسرح المغربي والعربي والدولي إضافة نوعية حقيقية، ولقد عاكست في هذا المسرح الكائن والموجود، بحثا عن ذلك المسرح الآخر الممكن الموجود، ولقد حملت معها إضافات فكرية وجمالية وأخلاقية كثيرة جدا، وقد ظهرت في مسرح كان يقوم على التلقي السلبي، وأصبحت في تجربتها وتجريبها يقوم على الاحتفال، وفرق كبير جدا بين مسرح يقوم على العرض والاستعراض ومسرح آخر يقوم على الاحتفال وعلى التعييد. وعلى الفعل وعلى الفاعلية، وعلى المشاركة والاقتسام، ألپس في هذا إضافة وتغيير حقيقيين؟

ومسرح كان يحكي حياة الموتى، وأصبح يحيي أعياد الناس الأحياء، ماذا يمكن أن نقول عنه، أليس مسرحا مختلفا؟

ومسرح كان يستظهر المكتوب في النص المسرحي، بطريقة آلية، وأصبح في الفعل الاحتفالي حياة وحيوية، تستوجبهما الحالة الاحتفالية الحية الآن هنا، ماذا يمكن أن نقول عنه؟

ومسرح كان يقوم على الذاكرة، ثم أصبح يقوم على الإبداع الحي،  وعلى الارتجال العاقل، أليس شكلا آخر من أشكال التمسرح؟

ومسرح كان يشبه الواقع، في كلياته وجزئياته، وكان يستنسخ الواقع كما هو واقع، وذلك باسم الواقعية، ثم أصبح في الاحتفالية مسرحا يعتمد على الحقيقة الشعرية، وذلك باسم شعرية الحياة وباسم شعرية الوجود وباسم شعرية اللحظة الاحتفالية العيدية، مثل هذا المسرح، ألا يستحق أن يكون قيمة إضافية أخرى للمسارح العالمية الموجودة؟

ومسرح كان عماليا عند العمال، وكان بورجوازيا عند البورجوازيين، وكان يمينيا عند اليمينيين، وكان يساريا عند اليساريين، وأصبح في الاحتفالية مسرحا إنسانيا وكونيا، أليس في هذا قيمة إضافية؟

ومسرح مغربي وعربي كان مسرحا فئويا محدودا في خطابه وفي لغاته وفي توجهاته، ثم أصبح في الاحتفالية مسرحا أكثر إنسانية وأكثر حيوية وأكثر حرية وأكثر مدنية وأكثر جمالية، ماذا يمكن أن نقول عنه؟

ومسرح كان (يتعامل) مع التراث، من خلال رموزه وأقنعته، وانتقل إلى مسرح يحيا التراث، في الحياة اليومية، بكل فنون هذه الحياة، ويحيا اللحظة الحية الآن، في غير انفصالها عن الماضي الذي كان، أليس في هذا ثورة على مسرح عربي ظل يمسرح التراث، بدل أن يقرأه، أو بدل أن يعيد قراءته، في ضوء حيوية الحياة.

وفي (البيان الثاني لجماعة المسرح الاحتفالي) والذي صدر سنة 1980 من مدينة تطوان يمكن ان نقرا ما يلي:

(فى المسرح التقليدى تقدم الأحداث للمتفرج. وقد تكون هذه الأحداث مدهشة. لأنها مخالفة لما هو “حقيقى” ولكنه لا يملك أمامها (الجمهور) إلا الصمت. لماذا؟ لأن الخشبة عالم والصالة عالم آخر. وبين الإثنين مسافات مكانية وزمانية كبيرة. هناك عالمان. يتوازيان، ولكنهما أبدا لا يلتقيان. أما بالنسبة إلى المسرح الاحتفالى فليس هناك غير عالم واحد. هو هذا الفضاء الذى نعيش بداخله’ وغير زمن واحد. وهو (الآن) ومكان واحد هو (هنا) . ان ما نشاهده لآ يمكن أبدا أن ينفصل عنا، إنه صورتنا كما تظهر في المرآة. وهل يعقل أن يتفرج الإنسان على حياته هو، من غير أن يفعل أى شىء؟ من هنا تنبع ضرورة القول بمعايشة الإبداع . وذلك عوض (التفرج على الإبداع).

في مسرح الاحتفالية نحبا حياتنا إذن، وفي غير المسرح الاحتفالي نكتفي بأن نتفرج على حياة الآخرين، وأن تكون هذه الحياة معاقبة في علبة مضاءة وحدها داخل الظلام، ولقد تعودنا أن نسميها (العلبة الإيطالية).

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!