المرجعيات الشعرية والأساليب التعبيرية والأبعاد الدلالية في مجموعة “وجد لا ينتهي”

المرجعيات الشعرية والأساليب التعبيرية والأبعاد الدلالية في مجموعة “وجد لا ينتهي”

عبد النبي بزاز

يتميز ديوان “وجْد لا ينتهي” للشاعرة المغربية فطنة بن ضالي بالعديد من الموضوعات الزاخرة بأبعادها الدلالية، وعناصرها البلاغية والجمالية والإيقاعية، كما أنها تتنوع على مستوى الشكل والبناء الشعري بين ما هو عمودي (قصيدة ظمأ، وعهد الهوى، وعيناك) بينما تظل بقية النصوص خارج النظام العمودي بخلق نسق لا يخلو من مسحة إيقاعية، وتعابير بلاغية جمالية.

فإيقاع باقي النصوص غير العمودية إما داخلي يتمثل في تجانس وتناغم حروف مثل  الشين والجيم في قول الشاعرة: “بين الشجن والشجا” ص 25، أو التاء والقاف في: “ورحلات احتراق واشتياق” ص 45، وحرف الراء: “الأركان ترتوي من عطر/ صبرك تزهر …تثمر … تحييك مع كل شروق ”  ص 67، الذي يضفي تكراره داخل المقاطع الشعرية رنة تدرأ عنها رتابة نثرية غير مستساغة. وخارجي يتجلى في حرف الياء التي تختتم بها جمل من نص ” على الهامش ” : ” كما سرق الليل خطاي / وهيأ منفاي . ” ص 23، وحرف الميم في قصيدة “حين تعود”: “ومن هيام …/ في اليقظة والمنام …/ تقاسيم سجع الحمام” ص 27، والنون في “أنت فيض” حيث تقول: “ولا لونتك بالألوان … أبحث عنك في كل الأكوان، / وفي ذوات الإنسان. ” ص 39. وتتضمن نصوص المجموعة أيضا عناصر بلاغية من طباق، في مثل : ” في اليقظة والمنام ” ص 27، وفي: ” من وله  بصباحاتك/ ومساءاتك ” ص35 ، وجناس في قولها : ” فالنُّور والنَّوْر” ص59 ، واستعارة في العديد من النصوص مثل  في : “تزهر قوافله” ص 31، و: “يقطر الحنين على ربى الورد” ص 46، والتشبيه الذي ورد في الكثير من العبارات، مقترنا بأداة: “كالصباح المشرق / كالأشواق المسافرة ”  ص 23، و منفصلا عنها : “ووجهك غيث قدسي ” ص31، عناصر تضفي على النصوص سمة جمالية لما تفتحه من  آفاق بميزات أكثر سعة وعمقا وتنويعا. كما تضم صورا شعرية  ذات َنفَس مجازي غني بزخم من استعارات تمنح المتن الشعري دلالات أكثر عمقا وجمالية من خلال عبارات ومقاطع غزيرة المعين، لا يخفت توهجها، ولا تنطفىء شعلة  إشعاعها  كما نقرأ في نص “دون تعليق”: “أغرق … في ربيع عينيك …/ تجرفني سيول الغواية / لموطن / تزهر قوافله / بألوان زهر البرتقال” ص31، في استعارة الربيع للعينين، والإزهار للقوافل بصيغ مترابطة ومتكاملة داخل نسق تعبيري يتقاطع فيه الدلالي بالبلاغي الجمالي. فالغواية تجرف سيولها العاتية الشاعرة  نحو مكان رحلة تغمر قوافله نضارة تتجلى وتتمظهر في الإزها ر والتفتح ، وتخضر الأسئلة ، ويينع التاريخ: “تخضر أسئلتي بينع تاريخي” ص 36، فاخضرار أسئلة الشاعرة بفعل ينع ونضارة تاريخها يمد جسر تواصل تتفاعل فيه الأسئلة بالتاريخ. وقطرات الحنين المتساقطة على ربى العمر : ” يقطر الحنين على ربى العمر ” ص 46، في إطلاق لعنان تصور نابع عن رؤى خيالية تفتح وتؤسس لأفق يعج بألوان  قراءة موسومة بالسعة والانفتاح، فيسرق الليل الخطى  : ” كما سرق الليل خطاي ” ص23، وتغدو للحنين ردهات : “تتجمع على ردهات الحنين ” ص25 . صور تتوالى ، تتعاقب فتخلق امتدادات حبلى بضروب ألعشق، وأشكال الوله والِوجْد من القصائد الأولى للديوان إلى الأخيرة : ” ويجتاحني البعد فتهب عواصف / الصمت القاتل ” ص 66، فالبعد في إهابه غير المحدد والفضفاض يجتاح كيان الشاعرة بما يرسمه من آفاق يهز معها الصمت المطبق مظاهر السكون، ويرج أركانه، ويزعزع صروحه. وإلى جانب الصور الشعرية الوفيرة والتي تزخر بها ثنايا الديوان، ويصعب الإحاطة بأهم جوانبها وأبعادها هناك تيمات عديدة من بينها ما هو رومانسي يغرف من معجم عناصر طبيعة أخاذة: ” يبيت الشذا بالزهر والروض عامر” ص 21، وفي قولها: “في عينيك تزهر الرياحين” ص 45، وأيضا في: “تفتحت وروده ” ص 50، وكذلك حين تقول : ” فيزهر الياسمين / بالصدق واليقين ” ص 53، هذا المعجم المكون من مفردات ك (الشذا، الزهر، الروض، الرياحين، ورود، يزهر، الياسمين) والتي تؤسس لنزعة رومانسية تثري متن الديوان بما تضفيه على نسيجه من جمالية العبارة، وبعد الدلالة. والتيمة النوستالجية  الناضحة شوقا وحنينا، مثل ما ورد في نص “رباعيات الذكرى” حيث الحنين للقرية عبر الشجر (أركان)، ونباتات كالدفلى والزرع، وطيور مثل الحمام  والسنونو: “في قريتي كل شيء حر / أشجار” الأركان” والدفلى / والزرع والحمام / والحجر … لا يبرح مكانه… طيور السنونو تجوب المكان” ص60، ما يخلفه ذلك من حسرة وأسى على انصرام تلك الأيام بفيض ووهج ذكرياتها: “كل شيء مضى / مضى … من هنا: / الطفولة والنور / الربيع والعنفوان… في الحقول/ يخضر المكان / ويعود الربيع / وأنت الأرض / وارت الغيوم / وجهك أمي ” ص67، فيتم استرجاع زمن كالطفولة ، وفصل كالربيع، والأم التي خلف فقدانها جرحا غائرا في فؤاد الشاعرة التي ظلت أسيرة ذكراها الراسخة في ذاكرتها ووجدانها، وظل وجهها ينبعث أمامها في كل زمن وحين: ” وجهك المضيء يتراءى / حينما يتنفس الصبح / في الحقل ” ص 61، هذا الوجه المضيء الذي تحجبه الغيوم: ” فتحجب الغيوم وجهك” ص 63، لتخلص إلى إقرائها سلام السقيا الذي عسى أن يطفىء ظمأها، ويروي عطشها: “سلام السقيا إليك / سلام عليك” ص 64. والموضوع الديني المستوحى من النص القرآني كما في قصة موسى عليه السلام  وما ورد في سورة الشعراء، حيث أوحي له أن يضرب البحر بعصاه فينقسم إلى قسمين: “يفلق البحر لموسى” ص 54، كما ذكر المهدي الذي ارتبط اسمه بسياقات عقدية مختلفة: “ويغمر المهدي بالابتهالات ” ص  54.

ووردت في المجموعة كذلك تعابير منزاحة عن النمط الشعري المألوف والمتبع في مثل التواصل مع الليل عبر تقديم وعود: “ووعدت الليل أن أجيبه” ص29، وتطويق الوجود لكيان الإنسان: ” يسورني وجودك  / في خلد البقاء. ” ص 38، ليكسب دوام الخلد والبقاء. والنهل من معاجم مختلفة منها ما يعبر عن أحاسيس جوانية كالِوجْد والصبابة والصب: “يا جار لي في الوجد والصبابة … تساوى فيها /عهد الخل والصب” ص47، والحزن والشجن كما في قولها : ” والشجو من حرقة في القلب والعلل / وجد وسهدد ذاب القلب في علن” ص 17، والسقم والهجر والجوى الذي يكوي الضلوع: “والشوق يحرق جاهدا ويعيد / والسقم من هجر نصيب والجوى / يكوي الضلوع … ” ص 18.

فديوان ” ِوجْد لا ينتهي ” يمتح من مرجعيات معجمية لغوية ودينية عقدية لخلق نصوص يتمازج فيها الوجداني بالجمالي عبر خيوط رفيعة من تقاطع وتماه تجسدها عبارات ينصهر في بوتقتها العشق والتوق، الأسى والغبطة ، الشوق والحسرة لتشكيل مدونة شعرية غنية بجمالية صورها، وتنوع إيقاعاتها وأشكالها، وعمق أبعادها ودلالاتها . _

____________________________________________ 

*وجد …لا ينتهي (شعر)، د. فطنة بن ضالي ـ مطبعة بلال ـ فاس 2022، ترجمه إلى الأمازيغية حسن أمدوغ.

شارك هذا الموضوع

عبد النبي البزاز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!