“تخرشيش”: بين الأثر الإعلامي والقيمة الفنية

“تخرشيش”: بين الأثر الإعلامي والقيمة الفنية

جمال الفزازي

           يبدو أن فنون الأداء الفرجوية الاستعراضية مدانة أكثر من سواها حتى تثبت براءتها، فللمسرح ذاكرة ما تزال موشومة بأيادي القمع وتحريم التمثيل أو منع المرأة من اقترافه  أو الدنو  من الطابوهات السياسية والدينية والجنسية.

ولعل مسرحية “تخرشيش”، ومنذ عرضها الأول، بمدينة الحاجب المغربية، أضحت هي الحدث الثقافي الأبرز، لكن، هل كانت حدثا إعلاميا أم واقعة فنية أم جسارة وقحة ضد الوجدان الشعبي العام؟

عرض “تخرشيش” لم تستثره القراءات النقدية المسرحية بل أثير بخطاب إعلامي-تفاعلي، بوسيط مشهد قصير في مقطع فيديو، أثار احتجاجات بلغت حد اتهام الفرجة بإشاعة الفاحشة والفجور، وكثير ممن نشروه لم يروا في العرض- إن شاهدوه-  سوى ذريعة لمساءلة الدولة عن تواطؤها مع خطابه” المخرب للنظام الأسري”، وهو حكم قيمة ذاتي_ انطباعي لا ينبني على قراءة نقدية للعمل الفنيǃ

  نسق مأساوي لنص  غير مكتمل درامياǃ

يمكن قراءة النص باعتباره بنية داخل العرض. ينكشف محكيه الدرامي على فضاء غابوي يحرسه حارس، تهجره زوجته لكونها لم تطق تعنيفه لها، تاركة وراءها بنتين كبرتا في كنفه. نال منه المرض والشقاء ما ناله، فأكسبهما قيم الاستسلام لنزواته مستغلا هشاشتهما وبراءتهما ليغتصب الكبرى وتقع الصغرى في المحظور ذاته بسبب الغيرة، وهو ما أغضب الكبرى، فتقومان بقتله.

بعد ذلك، يظهر عامل بالمياه والغابات للاستفسار عن الأب، وبعد جدال، سيعترفان بالجرم. وإثر سعيه للتبليغ عن الواقعة، تقومان باغتياله هو الآخرǃ

من هنا، يتضح أن محكي النص محكوم بنسق مأساوي غير مكتمل دراميا لأنه بدا ملتبسا على مستوى زمن المحكي، لتداخل بنية المحكي المسترجع- فلاش باك ببنية المحكي الراهن، مما أنتج إرباكا للتلقي، كما أن البناء الدرامي للأحداث في ارتباطها بنمو شخصيتي البنتين يحتاج بعض التجويد، لان قتل الوالد تم بعامل مساعد تمثل في رد فعل الكبرى من غيرة الصغرى، فصرنا لا ندري هل تمت تصفية جسده من باب الانتقام  بسبب غيرة الكبرى التي انتظرت حتى اغتصاب اختها الصغرى  أم بسبب جريمة الاغتصاب ذاتها.

يشير النص إلى أنهما كانتا تتقربان من الوالد بوسيط المشرب والمأكل والجنس والرغبة في التشبع بالحنان الذي حرمتا منه من جهة الأم، لذا، نتساءل:

_متى بدأت البنتان تكتسبان إدراكا بضرورة التمييز بين الجنس وبين حق الحماية الأبوية؟ وكيف أدركتا بأن ما تفعلانه إنما هو فعل مدان دينيا واجتماعيا، خاصة، ونحن ندرك أنهما لم تغادرا الغابة قط، ولم تكن لهما علاقة بالمجتمع والسلطة، اللهم سلطة الأب والغابة؟ لأن الاستماع الى حلقة يتيمة في المذياع (التلفاز؟) لا تكفي لإكسابهما وعيا بالقضية .وهل الوعي تحقق بسبب الألم؟

_ألم يكن بالإمكان تطوير الصراع الدرامي من خلال الاكتفاء بابنة واحدة؟ _أكان لا بد من اغتصاب البنتين معا لنحس بفداحة الجرم؟

_ألا يكفي أن تحمل الكبرى جنينا، مثلا، ليتعمق خط الصراع الدرامي أكثر ونستغني عن الصغرى؟

التشخيص: توفُّق في الإبداع…

توفق التشخيص في إبداع نسق لتحرك الممثلتين عبر متواليات حركية بتصميم كوريغرافي خلاق خاصة في مشهد “إعادة تمثيل الجريمة أمام عامل المياه والغابات”، ولا أخال مسرحا يمكن ان يعرض مشهد “زنا المحارم” بكل هذا التحفظ، وإلا ستنتفي المشهدية الإيحائية وسيحل محلها الخطاب التلفظي، فلا وجود لتشخيص تقريري للاغتصاب أو محاكاة لممارسة جنسية أو تعرية،

 تميزت الممثلتان في ابراز أثر الاغتصاب بالصراخ والتوترات الحركية، والتلفظ المتشنج في انتظار الاشتغال أكثر على حالات الصمت الحاد المرضي حين يتعطل الكلام.

ولعل اختيار اللباس الفضفاض الأبيض للبنتين انطلق من الرؤية الخارجية الاجتماعية إليهما بإلباسهما لباس الطهر والنقاء والبراءة، وليس من زاوية التبئير الداخلي أي ما يفترضه الفضاء الدرامي من لباس يحيل على مكابدة حياة غابوية معفرة بالتراب والدم، ناهيك عن لباس التعري في مكان محتجب عن المجتمع.

أما تشخيص” الوالد ” المميز فقد انبنى على (التوازي) ما بين المظهر الجسدي بخلقته المعيبة والمشوهة، وبين الداخل النفسي المضطرب، وعلى المنطق السببي (اغتصب الوالد ابنتيه بسبب تعرضه للاغتصاب من جهة عمه) مما قد يوحي للمتلقي بالبحث عن التخفيف من وقع صدمة الجرم بمبرر أن الجاني مريض و مختل نفسي .

 توفق ممثل موظف المياه والغابات في تشخيصه وقد تحول من عامل مساعد إلى عامل معيق لرغبة الأختين وإرادتها في الخلاص، لكن خطابه التهكمي الهزلي أسقطه في  التفكه السكيتشي  لاستثارة ضحك الجمهور مما أضعف الأثر الدرامي…

السينوغرافيا: رؤية فنية   لمنجز  الغاب البشري

أرضية بأوراق منثورة وخمائل أشجار وبضع صخور وعين ساقية أو بئر، في اليسار مقصورة حارس الغابة محفوفة بأعمدة عمودية كالقصب المتقاطع، وفي اليمين سياج خشبي كأنه مدخل منزل حارس الغابة أو ممر. أشياء بسيطة تشير إلى مكان منعزل محتجب عن العامة، تهييئا له لمنجز “قانون الغاب” البشري.

تحيط بالغابة عتمة تشير إلى عالم الأسرار والدسائس بعيدا عن الرقباء، توحي لمتاهة اللاوعي حيث تنشط أحلام اليقظة وطقوس السحر والفتنة، ذاك المجال الحيوي لغريزة العدوان والشر. لكن تم حصر فعل الاغتصاب في مقصورة الحراسة المغلقة لإخفاء الجريمة عن الرقيب، وفي نفس الان كشفها بإضاءة المصباح الداخلي(؟)   ورغم كون منطوق النص يشير إلى أن البنتين تربيتا منذ الطفولة المبكرة في المنزل حيث اعتادتا على العبودية الجنسية الطوعية  فان الإخراج همش المنطقة اليمنى من الخشبة

إن تأثيث الركح ببرج مراقبة كما هو معمول به المجال الغابوي، ربما كان سيبرز أكثر أفعال المراقبة والتجسس وكذا تشغيل المنظور فوق/تحت، لفاعليته الدرامية الموحية، كما أن حوض الماء الطيني تداخلت دلالاته: المنبع والبئر والساقية فضلا عن وظيفته الملتبسة بين التخدير وإرواء العطش.

وقد اغتنت السينوغرافيا بإضاءة معبرة عن الحالات النفسية، حينا، ومواقع الأحداث، حينا آخر، لحصر فضاءات اللعب، لكن مصباح عامل المياه والغابات ظل مشغلا أحيانا مع استعمال الإضاءة الشاملة في الركح مما يربك تحديد الزمن وجماليات المنظور ايضا. ولم أجد مبررا لاستعمال البنتين للهاتف والمذياع دونما  إحساس برهاب الوالد و الذي يفترض منعهما من أي اتصال بالعالم الخارجي؟

الموسيقى: موسيقى خلاقة  لكن أين مرجعية الايقاعات  المغربية؟

أما توظيف الموسيقى الإيقاعية الباعثة على الرعب فقد كان جيدا إلى حد كبير، كما في موسيقى أفلام الرعب والقتل التسلسلي، وباستثناء التغني بعيطة “الغابة”، فإن العرض يفتقر للموسيقى ذات المرجعية المغربية.

الإخراج: تقطيع وإعادة بناء

الإخراج: ارتكزت الدراماتورجيا على تقطيع النص وإعادة بنائه عرضيا، وفق رؤيا إخراجية تقوم على عناصر فنية وجمالية أهمها التوازي والتوازن الركحي اعتمادا على رباعي التمثيل كما في مسرحية (فوضى) لنفس المخرجة وكذلك التقابل الضدي على مستوى النوع (ذَكَرَانِ في مقابل أُنْثَيَيْنِ) والقيم (البراءة الطفولية في مقابل الشر).. واللون (إنارة المصباح وبياض اللباس ضد العتمة ومكان المقصورة المغلق)… الخ

 يتأسس الإخراج على درامتورجيا جريئة في مقاربة تيمة زنا المحارم الذي بصم أعمالا درامية كبرى من أوديب سوفوكل إلى هاملت شكسبير وبيت دمى إبسن وغيرها، وذلك بمنظور نقدي واقعي لتعرية الاستثنائي والهامشي اجتماعيا ومواجهة الطابو الجنسي برؤية يشوبها خطاب عبثي يتجلى في دورة الزمن المغلق بتكرار الموسيقى واصوات الغابة وتكرار حدث الاغتصاب والتكرار الحركي المرضي للممثلتين ..الخ

هذا، ويشكل الجسد في عمقه الجنسي بؤرة اشتغال الرؤية الإخراجية في العمل، لكن تعرية الجسد ارتكزت على إبراز علاقة السلطة العمودية: الوالد المختل /الأولاد ، وانتقاد  طابو الأعراف والتدين الشعبي، ولم يجرؤ العرض على مقاربة البعد الجنسي في ارتباطه العضوي بنسق السلط السياسية، إذ لم تحضر مؤسسات الدولة في العرض إلا بعد فوات الأوان، من باب المراقبة لا الوقاية، وهي المسؤولة عن الترخيص للمختلين عقليا/ نفسيا بشغل الوظائف العامة وبناء الأسر، وعن تربية الأولاد صحيا بإكسابهم الحق في التمدرس واللعب، لذلك، يظل طابو السياسة جاثما على كثير من مسرحياتنا التي لا تنحو نحو استغوار العمق الغابوي المعتم في البنيات السياسية المؤطرة لحدود الجسد  والمرض النفسي ؟

 للتوثيق:

مسرحية “تخرشيش لفرقة المسرحيين المتحدين،

أنجزت يوم  18 أكتوبر 2025   بمركب نور الدين بكر الثقافي بالدار البيضاء 

 ” دراماتورجيا وإخراج: مريم الزعيمي، تأليف ومساعد المخرج: عبد الفتاح عشيق، السينوغرافيا والملابس: أسماء هموش، تصميم الكوريغرافيا: كريم النوري، تأليف الموسيقى: ياسر الترجماني، تصميم وتنفيذ الإضاءة: عبد الرزاق آيت باها، الإدارة الفنية: محمد العلمي، إدارة الإنتاج: أمين المربطي، تصميم الكرافيزم: رضا التسولي، الإدارة التقنية: رشيد حياني، التوثيق والإعلام: عبد الرحمان العلمي تقني الديكور: محمد الشاح، المحافظة العامة: حنان مگزاري، تنفيذ الملابس: فاطمة حموشة، تنفيذ الديكور: طارق القرقوحي وبدر العباسي.

شارك هذا الموضوع

جمال الفزازي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!