نص سردي من رواية “قتر” للكاتبة لطيفة حليم (3)

نص سردي من رواية “قتر” للكاتبة لطيفة حليم (3)

 لطيفة حليم

 

         وصل عبد القادر التلمساني إلى فاس، وسكن بحي الرميلة بجوار دار سيدي محمد العلمي. طابت معاشرتهما يتسامران. يحدث عبد القادر جاره أنه قبل هجرته هو ورفاقه من تلمسان، كانت رغبتهم أن يدخلوا في طاعة السلطان، لهذا طلبوا حِياطته عن طيب خاطر، وذلك بعد ان انصرف كثير من الأهل والأحباب للبحث عن الذي يتولى أمرهم ويحتمون بحماه، اجتمع الأعيان وأهل الحَّلِ والعِقْدِ والعلماء والأشراف للنظر في شروط الإِمامة، وعَيَّنُوا من يمثلهم، لتقديم البيعة للسلطان، وقد أجابهم بما طلبوا من أجل جمع كلمة المسلمين وحفظهم، خير من أن يستفزهم العدو الكافر ويفرق جماعتهم، وصونا لهم من الهرج والفتن، قطع حديثه سيدي محمد العلمي قائلا:

لم يقدم السلطان الجواب في الحين، رغم أن هواه يميل إليهم، أحال الأمر على العلماء، جاء الجواب بالرفض، ومع الرفض حصل القبول، لأن السلطان تتوفر فيه شروط الإمامة، وعين ابن عمه عاملا على تلمسان.

  يقول له عبد القادر

–  أوصى السلطان بالتعامل بِوُدٍ وسَلام معنا، استقبلنا بالترحيب، ووجدنا في ارض مجاورة ملاذا آمنا، وأهْلا كِراما أوفياء، وحَظينا من المَخْزَنِ بعناية فائقة، فقد سَنَّ لنا السلطان خمسمائة مُدٍ من القمح، ومقدارا من المال يسلم سنويا إلينا، وأصدر توجيهاته لعماله باحترامنا وتوقيرنا، مع إسقاط كل كلفة مَخْزَنِيَّة، فلا نطالب بأية ضريبة أو مَغْرَم أو هدية.

يقول له محمد:

تداولت الأخبار في ضريح مولاي ادريس، أن السلطان وجه رسائل متعددة إلى القياد، يوصيهم فيها برعاية الجيران المهاجرين.

 يتشعب الحديث بينهما إلى الوحدة السياسية والدينية والقيم الأخلاقية والقطع المجاورة، وأشياء كثيرة عرفت منذ عهد المرابطين والموحدين وما قبلهما وما بعدهما، وذلك بحكم الروابط التاريخية واللغوية والمصاهرة وامتداد جبال الأطلس. ينتقل الحديث إلى نسبه العائلي، يفتخر بقرابته التي تمتد إلى الشريف مولاي عبد السلام، وإلى عمه سيدي قدور العلمي. يخبره أن السلطان يعتني بعمه ويطلب كراماته.

يترنح بغنة مكناسية ويردد زجلا كان ينتقل بين عامة الناس عن سيدي قدور العلمي:

اهبيل من يامن في العشرة أولاد ليهود

كيف من خازن في طوقه اعقارب البيد.

يطول السمر بينهما يردد قطع زجل أخرى لسيدي قدور العلمي وهو ما زال يترنح منبطح فوق فرو الغنم المبسوط على الأرض، يخبره ان والده كان يحفظ كثيرا من قطع الزجل عن أخيه ويربط كل قطعة بحدث عاشه سيدي قدور، منها هذه القطعة التي نظمها على إثر غيظ أصابه من صبي كان يرعى الغنم خارج مدينة مكناس.

حصل مرة أن كان سيدي قدور يتجول خارج مدينة مكناس، سمع غناء بصوت ساحر، اقترب من الصوت وإذا به صوت صبي يرعى قطيع الغنم. سأله كم يتقاضى مقابل رعي القطيع أجابه: – نصف فَلس. قال له: -أعطيك فَلسا كاملا وتسكن معي في داري واعلمك حفظ القرآن بقواعد التجويد، دُلني على الذي ترعى له قطيع الغنم. وافق صاحب الغنم بعد ان علم انه الشريف سيدي قدور العلمي.  حفظ الصبي عنه القران بقواعد التجويد. كبر وأصبح شابا يافعا يتردد مع سيدي قدور على ضريح مولاي ادريس بفاس وضريح مولاي إدريس زرهون، وتعرف على الاعيان والوجهاء، وحين شاخ وهرم سيدي قدور، فارق سكنه ولم يتعهده ويرعاه، وخاب ظنه، مما دفع به إلى الخروج للدوار بضواحي مدينة مكناس، مستفسرا عن نسبه. علم انه ابن يهودية، وكتب قصيدته المشهورة:

اهبيل من يامن في العشرة أولاد ليهود

كيف من خازن في طوقه اعقارب البيد.

ومن ذلك اليوم انتقلت شتيمة أولا ليهود الى عامة الناس. وهي شتيمة قدح تلحق بالأطفال المشاغبين الذين لا يتحلون بالأخلاق الحميدة. يغير حديثه يقول له:

يروج بين الأزقة والأسواق وجامع القرويين، أن ملك الكفار أرسل مع مبعوثه رسالة الى السلطان بمدينة مكناس، تتضمن تهديدات مخيفة بأنه سيقصف الموانئ.

لا يعير قوله أي اهتمام. يستعجله لصلاة العصر، يتمهل سيدي محمد في خطواته، يقف تحت -سَقِيفَة- وقد اشتد حَرّ الظَهيرة، يطلب منه بعد أداء الصلاة أن يرافقه لشراء نسخة من -القاموس الـمحيط للفيروز آبادي قبل نفاذها، بخط محمد بن دريس بن محمد العمراوي، ليتمكن من تدبر ما استعصى عليه تفسيره من كتاب الله، لعله يدرك سر إعجاز القرآن، من خلال تعارض اللفظين -فتقنا، نطوي، وهو على علم أن اللفظين يحملان كثيرا من الغي في تفاسير الأولين.  لهذا لا يقتدي في تفسير القرآن بقاموس الفيروز آبادي، لكن يجعله عونا له، يسعى عند تدبره إلى رؤية الصورة الحاصلة في اللفظين، فتقنا، نطوي. يستفيد أحيانا من دروس تلقاها في فقه اللغة عن علماء القرويين، تعلم منهم تفتيت آيات من سور القرآن الكريم، وإعادة لَمِّهَا لفهم العلامات.  بعيدا عن القاموس اللغوي، يهمس:

أعلى السماء، أسفل الأرض.

لا يكف عن رؤية الصورة وإعادة الرؤية، يركبها من جديد:

نطوي السماء

ان السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناها

نطوي، فتقناها.

يركب اللفظ، دون النظر الى تفاسير السلف الصالح.

 يخبر جاره عبد القادر أن محمد العمراوي، بذل جهدا في التفتيت والتركيب، يركز على الصورة عند نسخ -القاموس- يرى الصورة حروفا قبل النسخ. وانه صادفه في أحد الأيام بالقرويين مبتهجا لأن حِرفة النسخ أكسبته مالا حلالا مُحترَماً، ومكانة علمية عالية بين أعيان مدينة فاس، وقد استمر فيها إلى أن عينه السلطان كاتبا خاصا لرسائله.

  يتوقف محمد العلمي عن الحديث وقد رأى صورة القفطان،  بهتت عيناه عجبا من هندام جاره عبد القادر، وهو  يرتدي قفطانا مغربيا قشيبا من نوع المَلْف، مزين بصنعة السْفِيفَة، عندما لاحظ  جاره عبد القادر عجبه، سَوَّى ياقَة قَفْطانه، وأخبره أنه وردت رسالة من السلطان، بخط محمد العمراوي، يأمره فيها أن يعطي لكل واحد من المهاجرين قفطانا من نوع الملف، يدعم سيدي محمد العلمي كلامه بحديث  قريبه زوج اخت زوجته  القاضي محمد بناني انه  حدثه، عن كرم  السلطان أوصى لكل واحد من المهاجرين بما يناسبه من الكَسْوَةِ – قفطانا- وصنع لهم في كل بلد دخلوه مهرجانا، واستقبلهم لوَسَطِ دارِه مرحبا فرحانا بهم في جميع جِهاته، وأماكن مملكته التي لا يدخلها إلَّا الخاصة،  وقد  نالوا من العناية فوق الظن. يتابعان طريقهما. يستأنس محمد العلمي بزجل سيدي قدور العلمي:

ـ مَثْلِي امْعَ لَغْرَامْ اسْفَينَه، ما بين مُوجْ

–  مُوجة اتْحَطْهَا واخرى تَرْفَدْهَا

 ولاَ قْدَرْ رَايَسْ يَرْصَدْهَا.

غَادْيَ في البحر وحدهَا

يردد قطع الزجل وعلى وجهه مسحة حزن قاتمة، فقد بلغه أن عمه سيدي قدور العلمي، لم يعد يركب على دابته للذهاب لصلاة الجمعة بضريح مولاي إدريس زرهون، وبدأ يصلي بجامع الزيتونة بمكناس، وغدر به الصبي راعي الغنم بعد ان أصبح شابا يافعا فقيها يحفظ القرآن بقواعد التجويد، في حين هرم سيدي قدور. يهمس:

الله يكبرنا في طاعته.

يخبره أن السلطان منع الحج هذه السنة عندما علم بانتشارالأوبئة، وقد تعذرعلى أبي القاسم الزياني، الذهاب إلى الديار المقدسة.  يهز رأسه وهو يتذكر وفاة صهره الأخ الكبير لزوجته لَلاالزّين الذي أصيب بهذا الوباء اللعين، وقد كان له عونا في الطريق من تلمسان إلى فاس.

شارك هذا الموضوع

لطيفة حليم

أديبة وروائية كندية وأكاديمية من أصول مغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!