صراع الوعي مع سلطة الخوارزميات (قراءة في كتاب دانيال كوهين)
عبد الرحمان الغندور
ملاحظة لا بد منها:
أنشر هذا المقال التقديمي لكتاب يبدو لي ذا أهمية معرفية وبيداغوجية، وأنا أعرف مسبقا محدودية التفاعل معه، فالذي لا يستطيع قراءته كاملا بوعي نقدي أعفيه من ” الجمجمة ” و” الإعجاب المجاني” والتعليق المستنسخ. فأنا لا استجدي هذه التفاعلات العابرة. ولكنني أرغب في من سيقرؤونه كاملا، وهم أقلية في جميع الحالات، أن يعملوا على إغناء مضمونه بالتحليل والنقد، وأن يتقاسموه على صفحاتهم ليصل الى من يعنيهم الأمر من الآباء والأمهات، ونساء ورجال التعليم ومختلف الفاعلات والفاعلين التربويين والجمعويين والثقافيين.
انتهيت مؤخرا من قراءة كتاب “الإنسان الرقمي والحضارة القادمة” لمؤلفه الكاتب دانيال كوهين، التونسي المولد والفرنسي الجنسية.
وجدت في هذا الكتاب إجابات على الكثير من الإشكاليات التي ما فتئت أناقشها منذ بداية القرن الحالي، من خلال اشتغالي بشبكة القراءة بالمغرب، أو من خلال مختلف أنشطتي الثقافية والسياسية.
ورغم أني أعرف محدودية القراءة لدى الكثيرين، وغول الهيمنة التكنولوجية التي تمارسها المنصات والقنوات وجميع وسائل التواصل، ورغم أن الانحدار الجارف يبدو قدرا لا مهرب منه، فإن كل هذا لا يغيب دورنا كمثقفين وفاعلين ثقافيين واجتماعيين وسياسيين، من ضرورة التعرف على مضامين هذا الكتاب والدعوة لقراءته واستخلاص الخلاصات العميقة التي يدعو اليها.
ولهذا، أدعو صديقاتي وأصدقائي، في شبكة القراءة، ومختلف جمعيات الطفولة والشباب، كما أدعو نساء ورجال التعليم، والفاعلات والفاعلين في الحقول الثقافية والسياسية والاجتماعية، المؤمنات والمؤمنين بضرورة التغيير الى ما هو أفضل. أدعوهم إلى قراءة هذا الكتاب بعقلية نقدية تسعى إلى امتلاك رؤية شمولية لما هو كائن واستشرافية لما ينبغي أن يكون.
وأعرف مسبقا أن دعوتي هذه لن تنال الكثير من الإعجاب والتقاسم والتشارك، لنفس الأسباب التي يرصدها الكتاب، ولكن مسؤوليتي المعرفية والأخلاقية تحتم علي عدم السكون والسكوت أمام المخاطر التي تهدد وجودنا المغربي كجزء من التهديدات الشمولية التي تهدد الوجود الإنساني عموما، ولذلك أضع هذه القراءة المركزة لهذا الكتاب من باب المسؤولية والوفاء للمواقف المبدئية.
يتناول المفكر دانيال كوهين في كتابه “الإنسان الرقمي والحضارة القادمة” بعمق التحول الجذري الذي تحدثه الثورة الرقمية، مشيراً إلى أن هذه الثورة لم تحقق مجرد تطور اقتصادي، بل أحدثت تغييرات عميقة ومخادعة في صميم الهوية الإنسانية وطريقة عيشنا. فهو يرى أن جوهر التحدي الجديد يكمن في سيادة الخوارزميات التي باتت تتحكم ليس فقط في تدفق المعلومات، بل وفي تشكيل إدراكنا للعالم ولمحيطنا ولذواتنا. فالمنصات الرقمية، التي تبدو مجانية ومتاحة للجميع، لا تبيع منتجاً مادياً بالمعنى التقليدي، بل هي في الحقيقة تبيع انتباهنا البشري، وهو المورد الأكثر تحقيقا للربح في عصر الوفرة الرقمية. ومن خلال جمع البيانات الهائلة عنا وتحليلها عبر خوارزميات متطورة، تُنشئ هذه المنصات نماذج دقيقة لسلوكنا وتفضيلاتنا، مما يسمح لها بتوقع اختياراتنا والتأثير فيها. إن الإنسان، بهذا المعنى، يتحول إلى “إنسان مبرمج” يعيش تحت وطأة التوجيه المستمر لهذه الآليات، حيث يتم تصفية المحتوى الذي يتلقاه بعناية فائقة ليتوافق مع ما يُحتمل أن يحافظ على تفاعله المستمر مع الشاشة، فتتشكل ما يسميها كوهين “غرف الصدى” أو “الفقاعات المعرفية” التي تعزز معتقداته القائمة وتغلق عليه مسارات التفكير المخالف أو المختلف. وهذا التضييق على نطاق التعرض للأفكار يؤدي إلى تفتيت الرؤية المشتركة للعالم، مما يساهم في تفاقم الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، بوسائل التفاهة والرداءة والضحالة، ويجعل من الصعب على الأفراد والمجتمعات التوصل إلى سرد أو معنى مشترك لوجودهم. كما أن البحث المستمر عن الاعتراف الرقمي عبر “الإعجابات” و”المشاركات”، بل تسولها البئيس من طرف المستخدمين، يخلق شكلاً جديداً من التبعية، حيث تصبح الهوية الفردية رهينة للتقييمات الخوارزمية، مما يؤدي إلى قلق مستمر حول الذات الظاهرة على الإنترنت، وتآكل في قيمة الوجود غير المرقمن أو غير المسجل. وبالتالي، نخلص إلى أن أكبر تحدٍّ في الحضارة القادمة ليس تقنياً، بل هو التحدي الإنساني: كيف يمكننا استعادة سيطرتنا على هوياتنا وعقولنا من سلطة الخوارزميات، وإعادة بناء قِيمنا الاجتماعية في عالم لم تعد قيمة الانسان فيه هي المحور المركزي، بل أصبح الانتباه والبيانات واللايكات والمشاركات هي الوقود الجديد.
إن التعمق في الآثار الاجتماعية للاستقطاب الرقمي الذي تسببه الخوارزميات، كما يستكشفه دانيال كوهين، يكشف عن عملية تآكل مزدوجة تؤثر على النسيج الاجتماعي والسياسي والديمقراطي للمجتمعات. فالخوارزميات، المصممة أساساً لتحقيق أقصى قدر من التفاعل على المنصات الرقمية، تعطي الأولوية للمحتوى الذي يثير المشاعر القوية – سواء كانت الغضب، أو التأييد الشديد، أو السخط – بدلاً من المحتوى المعقد أو المتوازن. وهذا يصب الزيت على نار الانقسام المجتمعي بطريقتين رئيسيتين:
أولاً، يعمل نظام المنصات بمختلف أنواعها، على اعتقال الأفراد داخل بيئات معلوماتية معقمة، حيث لا يتعرضون إلا للآراء والتحليلات التي تؤكد معتقداتهم القائمة مسبقاً. وهذا الاعتقال المعرفي يقلل من القدرة على التعاطف وفهم وجهات النظر المخالفة، إذ يصبح الطرف الآخر مجرد صورة كاريكاتورية يتم تداولها داخل الفقاعة، بدلاً من كونه مواطناً يحمل وجهة نظر مختلفة.
ثانياً، تساهم هذه الخوارزميات في تفتيت الهوية الجماعية التقليدية. ففي السابق، كانت المؤسسات الوسيطة مثل النقابات والأحزاب السياسية والجمعيات ووسائل الإعلام التقليدية توفر إطاراً مشتركاً للمناقشة وتوحيداً للأهداف الاجتماعية الكبرى، مما يسمح للناس بالرغم من خلافاتهم، بالتعايش والعمل ضمن فضاء عام واحد. لكن الإنترنت، عبر آليات التخصيص الخوارزمي، يدفع الناس للتقوقع داخل هويات جزئية ومتطرفة، تعتمد على اهتمامات فردية أو مظالم متخصصة. هذا التفتيت يضعف القدرة على بناء الثقة المجتمعية والتفاوض السياسي الفعال، حيث يصبح الحوار الوطني المشترك صعب المنال. فبدلاً من النقاش الذي يسعى للحلول الوسطى، يصبح التفاعل الرقمي ساحة معركة للاستهداف العاطفي، بالتبخيس أو التمجيد، وإثبات الذات داخل المجموعة الصغيرة المعزولة. والنتيجة هي مجتمع يزداد فيه سوء الفهم المتبادل، وتصبح فيه القرارات السياسية والاقتصادية أكثر صعوبة في ظل غياب أرضية مشتركة يمكن الانطلاق منها، مما يهدد في النهاية استقرار الأنظمة الديمقراطية القائمة على الحوار والتسامح.
إن مواجهة التدهور الاجتماعي الذي تسببه الخوارزميات، وهو التدهور الذي يهدد التماسك المجتمعي، تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة المستويات، وحسب تحليل دانيال كوهين، تبدأ بتنظيم سلطة التكنولوجيا وتنتهي بالوعي الذاتي للمستخدم.
فمن الناحية القانونية والتنظيمية، أصبح من الضروري تفتيت الاحتكار الذي تفرضه هذه الخوارزميات على مسارات انتباهنا، وذلك بفرض قوانين تلزم الشركات بـ”شفافية الخوارزميات”، أي الكشف عن المبادئ الأساسية التي يتم بموجبها اختيار المحتوى وتضخيمه أو تبخيسه، للتأكد من أنها لا تعمل بشكل منهجي على تعزيز التطرف أو التضليل. ولا بد من مراجعة الوضع القانوني لهذه المنصات، بالانتقال من معاملتها كمجرد “وسطاء” محايدين إلى تحميلها مسؤولية النشر عما تضخمه أو تبخسه خوارزمياتها من خطاب كراهية أو محتوى ضار، مما يدفعها إلى تصميم آليات أكثر اعتدالاً. كما يجب تشجيع سياسات تضمن نوعاً من الحياد الرقمي، بحيث يتعرض المستخدمون بشكل إجباري أو شبه إجباري لمجموعة متنوعة من وجهات النظر خارج فقاعاتهم المريحة. وبالتوازي مع هذا التنظيم، يصبح التعليم هو الحصن الدفاعي الأول على مستوى الفرد، من خلال دمج التربية الإعلامية والرقمية بشكل أساسي في المناهج، لتعليم الأفراد كيف تعمل هذه الآليات وكيف يتم التلاعب بانتباههم، مما يمنحهم “مناعة ذاتية” ضد التضليل. وينبغي على المجتمع أيضاً أن يعزز قيمة المواطنة المشتركة في الفضاءات غير الرقمية، كالمؤسسات التعليمية والمدنية، لضمان وجود أرضية مشتركة للحوار والتلاقي الإنساني بعيدا عن الشاشات، ومنطق التخصيص الخوارزمي. وأخيراً، يكمن جزء كبير من الحل في مسؤولية المستخدم الذاتية؛ فالحل ليس تقنياً فقط، بل هو سلوكي بالدرجة الأولى، يتطلب من الأفراد ممارسة “نظام غذائي معلوماتي متوازن”، واستعادة السيطرة على وقتهم وانتباههم، والبحث بوعي عن تنوع الآراء، مدركين أن الحفاظ على الثقة الاجتماعية هو أثمن ما يملكون، وأن هذه الثقة تستحق التدخل والجهد الواعي لمقاومة الإغراءات الخوارزمية.
وفي الوقت الذي نستمر في استهلاك وقتنا في نقاشات حول اصلاح التعليم وتعميمه، ومحاربة الهدر المدرسي، وتحقيق مدرسة الريادة بدون ريادة، وإعادة النظر في البرامج والمناهج…الخ في هذا الوقت يغيب عن أذهاننا أن مسؤولية المدارس والمؤسسات التعليمية اليوم تتجلى في الدور المحوري والحاسم في تشكيل المناعة الرقمية والاجتماعية التي يحتاجها الأفراد لمواجهة الآثار السلبية للخوارزميات والاستقطاب الناتج عنها. هذا الدور يتجاوز مجرد تدريس مهارات استخدام الحاسوب ليصبح جزءاً أصيلاً من التربية المدنية في العصر الجديد. فالمدارس هي المكان الأمثل لزرع أسس الوعي النقدي؛ يجب أن يتعلم التلاميذ والطلاب كيف لا يستهلكون المعلومات بشكل سلبي، بل كيف يحللون مصادرها، ويميّزون بين الحقيقة والتضليل، ويدركون أن محركات البحث ومنصات التواصل تقدم لهم محتوى “مقصودا” وليس “محايداً”. وهذا يتطلب تدريس مادة التربية الإعلامية والرقمية، على غرار التربية الإسلامية، والتي تكون قادرة على تفكيك طريقة عمل الخوارزميات وتوضيح كيف يتم التلاعب بالانتباه والإثارة العاطفية لإبقائهم على الشاشة، مما يمنحهم القدرة على مقاومة هذا التلاعب بشكل واعٍ.
إضافة إلى الجانب التقني، تلعب المؤسسات التعليمية دوراً في تعزيز الذكاء الاجتماعي والتعاطف، وهي المهارات التي تهددها وسائل التواصل و”غرف الصدى” الرقمية. يجب أن توفر المدارس مساحات آمنة للتفاعل وجهاً لوجه مع الكتاب والمفكرين الأشخاص الذين يحملون خلفيات وآراء مختلفة، مما يعيد بناء القدرة على الحوار المنتج والاحترام المتبادل، بدلاً من اللجوء إلى التهميش أو الشيطنة التي يسهلها التخفي وراء الشاشات. وهذا يعزز مفهوم المواطنة المشتركة؛ فالطالب لا يتعلم فقط عن مجتمعه المحلي، بل عن كيفية التعايش والتعامل مع الخلافات البناءة كجزء طبيعي وصحي من الحياة الديمقراطية. ويجب أن تركز المدارس على تدريس مهارات الشك الصحي والبحث عن الأدلة المضادة، وتشجيع الطلاب على الخروج بوعي من “فقاعاتهم” المعلوماتية للبحث عن وجهات نظر مغايرة، ليس بهدف تبنيها، بل بهدف فهمها. وفي نهاية المطاف، تصبح المؤسسة التعليمية بذلك ليست مجرد ناقل للمعلومات، بل هي ورشة عمل لإنتاج “الإنسان الواعي” الذي يدرك قيمة انتباهه وكرامته وهويته، ويرفض أن يكون مجرد مادة خام تستهلكها الخوارزميات.
لا نشك في أن دور الأسرة في استكمال البناء التعليمي والتربوي الذي تبدأه المدارس، يبدو ضروريا، خاصة فيما يتعلق بـالمناعة الرقمية والاجتماعية، وهو لا يقل أهمية عن دور المؤسسات الرسمية، بل هو الحجر الأساس الذي يُبنى عليه وعي الفرد وسلوكياته. فالأسرة هي البيئة الأولى التي تشكل علاقة الطفل بالشاشة والتكنولوجيا، ويجب أن تتحول من مجرد “مُراقب للاستخدام” إلى “شريك في الوعي”. هذا الدور يتمحور:
أولاً حول تحديد قواعد الاستخدام الواعية؛ فالأمر لا يتعلق بالمنع التام، بل بوضع حدود واضحة ومناطق خالية من الأجهزة، مثل أوقات الوجبات أو الغرف المشتركة، لضمان وجود مساحة للحوار والتفاعل البشري المباشر. وهذا يعيد تأسيس قيمة التفاعل غير المرقمن ويزرع مفهوم أن الحياة الغنية لا تحدث فقط عبر الشاشات.
ثانياً، على الأسرة أن تمارس دور المحاور والمناقش حول المحتوى الرقمي. يجب على الآباء أن يصبحوا مستمعين نشطين، يسألون أبناءهم عن المحتوى الذي يشاهدونه، وما هي القواعد الخوارزمية التي توجهه إليهم، ويشجعونهم على طرح الأسئلة النقدية حول مدى مصداقية أو حيادية المعلومات التي يتلقونها. هذا الحوار العائلي المفتوح يحوّل تجربة الإنترنت من استهلاك سلبي إلى فرصة تعليمية نقدية.
ثالثاً، تقع على عاتق الأسرة مسؤولية ترسيخ القيم الإنسانية والتعاطف لمواجهة الاستقطاب الرقمي؛ ففي عالم يسهل فيه التنمر والخلافات الحادة عبر الإنترنت، يجب أن تكون الأسرة هي الملاذ الذي يعلّم كيفية معالجة الخلافات بعيداً عن منطق الإقصاء أو الردود العاطفية السريعة التي تحث عليها الخوارزميات. ينبغي على الآباء أن يكونوا نموذجاً في التعامل باحترام مع الآراء المختلفة، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع المحيط، لتعليم الأبناء أن التعايش مع التنوع هو أساس التماسك الاجتماعي. وهكذا، تصبح الأسرة هي المدرسة المصغرة التي تنقل المفاهيم النظرية التي تعلمها الطالب في الفصل إلى ممارسة سلوكية ومعيشية يومية، فتُحصّن الفرد ضد سيل المؤثرات الرقمية وتضمن بقاء هويته متجذرة في العالم الحقيقي والقيم الإنسانية الثابتة.
