الاحتفالي في الاحتفالية: اختيار وجودي
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
هل تصدقون هذا؟ أنا ذلك الاحتفالي، العاشق للحياة وللأمن والأمان وللسلم والسلام، والباحث في هذا العالم المأساوي عن لحظة فرح، أنني قد وُلدت ذات يوم من الأيام، في زمن الحرب العالمية الثانية، وتحديداً سنة 1943م، وكان ذلك في مدينة حديثة الولادة اسمها “بركان”. وبالتأكيد، فقد صرخت أثناء الولادة صرختي الأولى، ولست أدري هل فهم أهلي معنى تلك الصرخة التي كان فيها شيء كثير من الإحساس بالخوف والرعب ومن الاحتجاج؟ ولحد هذا اليوم ما زلت أصرخ، خصوصاً في كتاباتي الناطقة والمتكلمة.
دار الزمان دوراته الماكرة، وأصبح ذلك المولود الجديد شاباً، وأصبح ذلك الشاب كاتباً مسرحياً، ووجد نفسه ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ يستعيد خوفه القديم من العالم الخارجي، وذلك من خلال شخصية “الباحث عن دوره” في مسرحية (سالف لونجة)، والذي تخوف من العالم الخارجي قبل الولادة وهو في بطن أمه، وصرخ قائلاً:
“يا الله.. كم أتوق أن أبقى حبيس الأرحام، بلا شموع ولا قنديل، غارقاً في صدر الظلام، حتى ترشد الدنيا وتغير جلدها، فأولد من جديد.. أولد حينها”.
ومتى يمكن أن تبلغ هذه الدنيا سن الرشد؟ ومتى يمكن أن يصبح الإنسان فيها عاقلاً؟ ومتى يمكن أن يتغير هذا الواقع المأساوي في اتجاه الواقع الاحتفالي والعيدي؟ متى؟ أقول: لا أدري ولا أزيد..
وماذا قال صديقي “ابن الرومي” الذي أغلق باب بيته عليه خوفاً من بغداد، وخوفاً مما يمكن أن يأتي به الواقع الذي له كثير من الوقائع ومن المفاجآت غير السارة وغير السعيدة؟ لقد وقف هذا العاشق للحياة والجمال خلف باب بيته وقال: “ألا مَنْ يُريني غيبَ قبل مذهبي.. ومن أين والغايات بعد المذاهب؟”
(أُولدُ أم لا أُولد؟) وأخرج لعالم الناس أو أبقى في عالم الغيب؟ هكذا تساءل “الباحث عن دوره” وهو في بطن أمه مجرد مشروع إنسان، أو مجرد مشروع مواطن إنساني. و(أفتح الباب أو لا أفتحه؟) هكذا تساءل الشاعر الإنسان “ابن الرومي” قبل أن يغامر بالخروج إلى عالم الناس والأشياء، وإلى عالم العلاقات المريضة في المجتمعات المريضة.
ومن حق الاحتفالي أن يتساءل: هل هذا المطلب ممكن؟ مَن يمكن أن يرفض أن يولد في الزمن الذي لم يختره، وأن يجد نفسه مواطناً في الوطن الذي لم يختره، وأن يجد نفسه سجين البيت الذي لم يختره، وأن يكون في طريق الحياة بصحبة صاحب لم يختاره وبرفقة رفيق لم يختره؟ وهل يمكن أن نؤجل ولادتنا إلى يوم آخر قد يأتي أو لا يأتي، وأن ننتظر حتى يدرك الرشد هذا العالم ويصبح أجمل وأكمل؟ ومتى يمكن أن يلحق الرشد والجمال والحق والعدل هذه الدنيا؟ ومتى يمكن أن يغيب الظلم بشكل كلي، وأن يغيب الظلام ويغيب تجار الظلام؟ ومتى تغيب المأساة والمأساوية في مسرح هذا العالم، وأن يبدأ عصر جديد في تاريخ الإنسانية؛ عصر الاحتفال والاحتفالية، عصر العيد والعيدية، وعصر الجمال والجمالية؟
لو افترضنا أنه قد أُعطيتُ حق الاختيار، وقيل لي: اختر من تريد أن تكون، واختر ماذا يمكن أن تكون، واختر أين يمكن أن تكون، فماذا كنت سأختار؟ وفي الجواب أقول: كنت سأختار المغرب وطناً، وأختار الحاج المصطفى أباً، وأختار الشريفة الحاجة فاطمة الوالي أماً، وأختار “للا خدوج لحلو” جدة، وأختار مدينة “بركان” مكان ولادتي، وأختار اللغة العربية لغة أتكلم بها، وأكتب بها، وأصلي بها، وأدعو ربي بها. وأختار المسرح هواية وعشقاً، وأختار بنيونس ومحمد الكبير والحاجة عيشة ومحمد الصغير والحاج علي والحسين وعبد الحفيظ وإدريس ونور الدين إخوتي.. وأختار الحاجة لطيفة لحلو زوجة ورفيقة، وأختار نادية وليلى وفراس ومصطفى أبنائي وبناتي، وأختار حفيداتي ياسمين ورانية وفاتن وغيثة وهبة، وأختار أحفادي علي وأيمن وكريم وعبد السميع.
واليوم أدركت بأنه لا شيء يأتي في غير أوانه، وأن كل ما يحدث في هذا الواقع هو واقعي، وأن شروطه الموضوعية والذاتية هي التي أتت به وليس أنا، وأن كل ما أفعله اليوم قد أملاه عليَّ هذا اليوم، وأن كل ما سوف أفعله غداً سوف يمليه عليَّ الآتي من الأيام والأعوام..
من الحرب المادية إلى الحرب الرمزية
وأنا المواطن المسرحي، فُرِض عليَّ أن أكون “الواحد المتعدد” في هذا العالم المتعدد، وأن أكون القديم المتجدد، وأن أكون أنا الجسد المتمدد في هذا الكون المتمدد في كل الاتجاهات. لقد كُتب عليَّ أن أكون في مسرح الوجود مسرحياً، وأن أكون أنا الكاتب فيه، وأنا المكتوب في آنٍ واحد، وأن أقتسم حياتي وعمري مع كل شخصياتي المسرحية التي تنتمي إلى حقب تاريخية متعددة وثقافات وحضارات ولغات مختلفة.
ومن غير أن أدري، فقد عشت في حياتي الواحدة حياتين اثنتين، متوازيتين ومتداخلتين ومتكاملتين، حتى أصبحت أقول: أنا امرؤ القيس مرة، وأنا الحلاج مرة أخرى، وأنا عنترة، وابن الرومي، والمتنبي، وسقراط، والسندباد، وشمس الدين التبريزي، وجحا، وجحجوح، ويوسف الذي ضيعه إخوته، ويحيى، وابن رشد، والصعلوك، والأمير، والوالي، والبهلول، والزعيم ميم، وفرنكشتاين.. أنا الذي كنت كل الآخرين، واقتحمت أسرارهم، ونطقت بلسانهم، وقلت وكتبت في أكثر من بيان ومسرحية بأن عمراً واحداً في حياة واحدة، وفي زمان واحد، وفي وطن واحد، وفي دنيا واحدة، لا يمكن أن يكفي؛ وبذلك فقد وهبني هذا المسرح الساحر أن أكون مواطناً تاريخياً، وأن يكون لدي انتماء إلى كل المدن والأوطان، وإلى كل الأزمان والثقافات واللغات، وأن أجد نفسي في هذا الكون مواطناً كونياً.
فعلاً، لقد ولدت في زمن الحرب الساخنة، وتربيت وتعلمت وتثقفت في زمن الحرب الباردة، ولكنني حافظت على إنسانيتي وعلى مدنيتي، وقاومت الوحش الذي يختبئ بداخلي والذي أعطيته اسم (قردل) في مسرحية (الناس والحجارة). لقد تعرفت على هذه الحرب من بعيد جداً، أي من خلال الأفلام السينمائية، ورأيت الموت يحصد الأرواح فأرعبني ما رأيت، ووجدت في الناس من يقول لي: “لا تنزعج يا ولدي ولا تخف، فكل ما تراه ما هو إلا تمثيل في تمثيل”. ولكن، قبل تصوير كرنفال الموت هذا، ألم يكن هذا الذي نتفرج عليه حقيقة مرعبة؟
كرهت هذه الحرب حتى ولو كانت مجرد سينما، واقتنعت بأن الجحيم ليس هو الآخر المختلف والمخالف، وأن هذه الأرض ـ مثلها مثل خشبة المسرح ـ يمكن أن تسع الجميع، وأن نقتسم أجمل ما فيها. وعن هذه الحرب كتبت سنة 1975م مسرحية (عطيل والخيل والبارود)، واستحضرت في هذا الزمان الجديد شخصية مسرحية من الزمان القديم، وهو “عطيل الشكسبيري” (أو عطاء الله)، ذلك المغربي الذي كان راعياً للأغنام في جبال الأطلس، والذي كان مخدوعاً في لعبة مسرحية وسيق ـ من حيث لا يدري ـ إلى “فيتنام”، ليجد نفسه متورطاً في حرب عبثية، يقاتل من لا يعرفهم ومن ليس بينه وبينهم عداوة. ولماذا يحارب هذا (العطيل المغربي) شعباً بسيطاً ومستضعفاً كل حلمه أن يحيا حياة آمنة في وطن حر؟
أنا احتفالي، هذا هو قدري. والاحتفالية فيها عقلانية وشاعرية وإنسانية ومدنية وجمالية وحرية؛ أما الحرب فكل ما فيها حمق وجنون، ولا شاعرية فيها، بل هي شريعة الغاب ووحشية لا مدنية فيها. إنني في مسرحيتي ومسرح حياتي لا أبحث إلا عن العلاقات الإنسانية الاحتفالية، وعن المؤسسات والحالات والمقامات الاحتفالية الجميلة.
حرب التحرير هي وحدها الحق والحقيقة
في إطار تجاوب الاحتفالية مع حركات التحرر في العالم، قال الاحتفالي في كتابه (الاحتفالية وهزات العصر): “لقد عاش الاحتفاليون ـ ولو من بعيد ـ ربيع براغ الساخن، وانتفضوا مع المنتفضين احتفاءً بحيوية الحياة وبإنسانية الإنسان وبمدنية المدينة”. ووصلت الاحتفاليين أشياء كثيرة من حرب فيتنام، وكان ضرورياً أن يكونوا في صف الإنسان المستضعف، وأن يغضبوا لغضبه. وقد كانت مسرحية (سالف لونجة) صرخة احتفالية قبل الإعلان عن قيام الاحتفالية رسمياً.
وهذا الاحتفالي هو الذي ألف كتاب (الصعود إلى فلسطين)، والذي دوّن فيه مشاهداته بعد أن قُدّر له أن تطأ قدماه تربة تلك الأرض الطيبة، ويعيش مع الناس احتفالياتهم اليومية، ويقتنع بأن الفرح قد يكون أحياناً “غنيمة حرب”. وفي فلسطين لمستُ بأن الموت لا يمكن أن يكون له المعنى الشائع، خصوصاً عندما يكون في درجة الشهادة، وعندما يكون الشهيد عريساً يُشيّع بالزغاريد.
في مجال الإبداع الفكري والأدبي، فإن هذا الموت الحسي قد يصبح في الدراسات النقدية “موتاً رمزياً”، يتعلق بموت تجربة فكرية أو حركة أدبية. وبخصوص هذا الموت، يطرح الاحتفالي السؤال التالي: ما الذي يموت في الكائنات الحية؟ الجسد أم الروح؟ الإنسان المفكر أم الفكرة؟ المحرك أم الحركة؟ الشخص أم ظله؟ بالتأكيد، لا يمكن أن يكون لهذا الموت معنى العدم، بل هو انتقال من حال إلى حال؛ ولهذا يقول التعبير الإسلامي عن الميت بأنه “انتقل إلى جوار ربه”. ومن ذا الذي يرفض أن يكون في حضرة خالقه ويعود إلى نبع وجوده؟
الروح في الأجساد الحية هي المحرك، وهل يوجد محرك إلا بوجود عربة؟ قد تمضي العربات، ولكن تبقى المحركات في مكان خفي. تمضي الأجساد، ولكن تبقى الطاقة الحيوية المتجددة. والخوف من الموت هو أصل كل فعل، ومنبع التدين والأخلاق والإبداع والتفكير في الخلود؛ فبناء الأهرام ورحلة “جلجامش” بحثاً عن نبتة الخلود لم تكن إلا عشقاً للخلود الرمزي. بهذا الخوف نعرف قيمة الحياة والأشياء.
يؤكد الاحتفالي على أن الاحتفال هو “حضور كامل وشامل” لا غياب فيه، والحياة سفر مؤثث بكثير من “الحضور الغائب” و”الغياب الحاضر”. وبخصوص الحرب، يقول الاحتفالي إن الحرب الوحيدة التي يؤمن بها هي “الحرب الرمزية”؛ الحرب على الفقر والجهل والاستغلال والتخلف. إن الفنون والآداب ليست سوى أشكال لمحاربة الغياب ومقاومة الصمت والتمرد على الموت. عندما نرسم، نحن نتحدى البياض، وعندما نكتب نتحدى الصمت، وعندما نسافر نتحدى الجغرافيا للوصول إلى العوالم الأخرى الممكنة.
أجساد لها ظلال وأجساد بلا ظلال
هذا الإنسان ما هو إلا سلسلة أنفاس متلاحقة، ولعل هذا ما جعل الاحتفالي يقسم مشاهد مسرحياته إلى “أنفاس” متعددة. الموت هو الوجه الثاني للحياة؛ فالحياة أجساد لها ظلال، والموت أجساد بلا ظلال. قد تكون الحياة مجرد نوم فيه أحلام، والموت نوماً طويلاً بلا أحلام، وبذلك تكون أية حياة بلا أحلام أقرب إلى الموت.
نحن والموت ضدان لا يلتقيان؛ فعندما نحضر يغيب الموت، وعندما يحضر الموت لا يلقانا لأننا نكون غائبين. ونحن نتمرن على هذا الموت كل مساء في النوم، والنوم هو “أخو الموت الأصغر”. يقول أبو العلاء المعري:
أرواحُنا مَعَنا وليسَ لنا بها .. عِلْمٌ، فكيفَ إذا حَوَتْها الأقْبُرُ؟
وبحسب رأي الغزالي، فإن النفس جوهر خالد لا يموت. والموت هو أصدق الديمقراطيين في الوجود؛ تتعدد أشكاله وألوانه ولغات الأقوام فيه، والموت واحد. يقول مولانا جلال الدين الرومي: “كل سؤال يوقظ فيك الحيرة، إنما هو نداء من السماء”. وهذا هو حال هذه الأسئلة في هذه الكتابة. ويقول أيضاً: “السكوت في حضرة الجمال عبادة”. نعم، السكوت في حضرة الجمال عبادة، ولكن السكوت أمام القبح خيانة؛ ولهذا اختار الاحتفالي أن ينطق ويكتب ويصرخ نفس صرخة الولادة ما دام قادراً على الصراخ.
