منجنيق تحت رماد الفراغ
عبد الرحيم التوراني
عرفت نهاية الأسبوع، المصادفة لتاريخ الأحد 13 مارس 2022، أحداث شغب وعنف دامية، خلال المباراة التي جمعت نادي الجيش الملكي (من الرباط)، ونادي المغرب الفاسي، (من مدينة فاس كما يدل اسمه)، وذلك برسم منافسات الدور 16 لإقصائيات كأس العرش. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات توثق لمجريات تفشي العنف ومدى احتدامه، وتظهر هجوم جماعات من أنصار الفريق العسكري، أرغمت رجال الأمن على التراجع، قبل أن تتجه هذه الجماعات المسلحة بالحجارة والعصي والسكاكين، صوب الاعتداء على جماهير نادي المغرب الفاسي.
وحسب بيان صادر عن المديرية العامة للأمن الوطني، فإن أحداث الشغب بـ”ملعب الأمير مولاي عبد الله” في العاصمة، خلفت عشرات الإصابات المتفاوتة الخطورة بين أفراد الأمن والجمهور، مع إلحاق خسائر مادية بالعديد من مرافق ملعب الأمير مولاي عبد الله، وإضرام النار، وتكسير 33 مركبة وناقلة، تتنوع ما بين مركبات تابعة للشرطة وسيارات أخرى في ملك الخواص…”. وذكر البلاغ أنه تم توقيف 160 شخصا، بينهم 90 قاصرا، وتقديم 70 من هؤلاء إلى المحكمة بتهم “ارتكاب أعمال الشغب المرتبطة بالرياضة، وحيازة أسلحة بيضاء، والسكر العلني البين والتراشق بالحجارة المقرون بإلحاق خسائر مادية بممتلكات خاصة وعامة، وإضرام النار عمدا في سيارة”.
لم تمض ثلاثة أيام، أي بحلول يوم الأربعاء 16 مارس 2022، حتى اندلعت أعمال شغب وعنف مماثل لما جرى في العاصمة وغير بعيد عنها، في بلدة المنصورية المحاذية لمدينة المحمدية، وذلك بين جمهوري نادي المنصورية والنادي المكناسي، في مباراة جمعتهما برسم الدورة 23 من بطولة المغرب لقسم الهواة. إذ تم التراشق بالكراسي والمقذوفات، واقتحام المشجعين لأرضية الملعب لتتوقف المباراة مدة من الزمن.
ليست هذه الأحداث، المتسمة بمنسوب عالِ من درجات الشغب والعنف، جديدة على الساحة الرياضية في المغرب، ولكنها تحصل بعد حوالي أسبوعين من قرار حكومي قضى بإعادة فتح الملاعب الرياضية بوجه الجمهور، بعد عامين من إغلاقها ضمن تدابير احترازية فرضها انتشار وباء كورونا.
لكن الأذهان استعادت قصصا خطيرة وأحداثا مشابهة لما حصل، وقعت في الأعوام الماضية بين أسوار ملاعب الكرة بالمغرب، بشكل واسع النطاق، بعضها أسفرت عن ضحايا. كما استعاد آخرون، من الأجيال السابقة، كيف كانت تجري مباريات الكرة في ظروف مدنية وسلمية، وكيف كانت أعداد كبيرة من الجمهور الرياضي تتجه لحضور مباريات الكرة في حلل متأنقة، وكأنهم ذاهبون لحفل أو لسهرة فنية، بل حتى مباريات “الديربي” بين أبرز وأشهر فريقين في البلاد، أي الغريمين، الوداد والرجاء بالدار البيضاء، كانت غالبا ما تتم في أجواء حماسية عالية من دون إفراط في تعصب أعمى، إذ في نهاية المباراة تهيمن الروح الرياضية. بينما كانت أعمال الشغب الناتج عن الكرة أحداثا نادرة ومحدودة، وكان الغضب في الغالب لا يتجاوز الاحتجاج ضد حكم المباراة بصيحات: “وااا “لارْبيطْ” (الحكم) يا مسخوط الوالدين!”. هذا في زمن كانت فيه الملاعب الأوروبية تسجل تصاعد أعمال شغب وغليان مثير بدوريات كرة القدم.
لقد باتت الكرة بمثابة “أفيون الشعوب” كما يحلو لكثيرين وصفها، إلا أن الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو، في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل”، يذهب أبعد من ذلك، عندما يشبه كرة القدم بكونها “مرآة العالم”، التي تنعكس على صفحتها قصص المجد والاستغلال، وحكايات الحب والبؤس، ويتبدّى فيها الصراع بين الحرية والخوف، وأن “العالم اليوم يبدو وكأنه ملعب عملاق يستضيف مباراة نهائية، ولكن من دون جمهور. المدن من دون أهلها تكون كئيبة مظلمة، وكذلك الملاعب التي تغيب عنها أصوات جماهيرها. صيحاتهم عند الفوز، والشتائم عند الخسارة، والدموع في الحالتَين. عندما تدور الكرة فإنّ العالم كلّه يدور”.
لذلك انتبه النظام في المغرب مبكرا غداة الاستقلال، إلى أهمية رياضة كرة القدم، فأحكم السيطرة على تسيير أنديتها الكبرى. وعملت الدولة على “مخزنة الكرة”، حين حرصت باستمرار على تعيين وزراء وأمنيين وشخصيات موالية للقصر في تسيير أندية الكرة، بل إن رئاسة الجامعة الملكية لكرة القدم (فيدرالية الكرة) آلت مرات لجنرالات وضباط من الجيش المغربي، مثل الكولونيل المهدي بلمجدوب، والكولونيل إدريس باموس، والكولونيل ماجور حسين الزموري، والجنرال دوكور دارمي حسني بن سليمان، وهذا الأخير شغل أيضا لسنوات منصب رئاسة اللجنة الأولمبية المغربية. أما رئيس فيدرالية كرة القدم الحالي (فوزي لقجع) فهو من مسيري حزب القصر (الأصالة والمعاصرة)، وعضو بحكومة عزيز أخنوش الحالية.
كما أن ميزانيات كبيرة تصرف بالمليارات على لعبة كرة القدم في المغرب، نكتفي بذكر أن منتخب المغرب يعد أغنى منتخب في أفريقيا، لكنه لا يحقق النتائج التي يسعى إليها المسؤولون، بغاية امتصاص الغضب الجماهيري وإلهاء الشباب. ولا يجب أن ننسى أن المغرب تقدم خمس مرات بملف ترشيحه لاحتضان نهائيات مونديال الكرة، وسيكون ترشيحه لنهائيات 2030 هو السادس. هذا هو ما عناه حقا إدواردو غاليانو في حديثه عن كرة القدم “التي توجّه، عادة، من قبل رجال أعمال وسياسيين يستخدمون كرة القدم كمنجنيق دعائي للوصول إلى الصدارة”.
في العهد الجديد تولت أمر الكرة شخصيات معروفة بولائها للسلطات، وليس من الصدف أن يضم البرلمان الحالي عددا من النواب، غير معروف من قبل اهتمامهم بالسياسة، بل هم من رؤساء ومسيري الأندية الوطنية في كرة القدم، فباسم حزب “الأصالة والمعاصرة” صعد إلى مجلس النواب كل من سعيد الناصري، رئيس نادي الوداد، وهشام آيت منا، رئيس فريق شباب المحمدية، ونور الدين البيضي، رئيس فريق يوسفية برشيد. أما باسم حزب التجمع الوطني للأحرار فنجد محمد بودريقة الرئيس السابق لفريق الرجاء الرياضي، وحسن الدرهم، رئيس فريق شباب المسيرة بمدينة العيون، وإسماعيل الزيتوني، رئيس فريق أولمبيك الدشيرة، ومحمد هوار، رئيس فريق مولودية وجدة. وباسم حزب الاستقلال نجد حكيم بنعبد الله، رئيس نهضة بركان. وباسم حزب الاتحاد الدستوري محمد جودار، النائب الثاني لرئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم. وهذه الأحزاب هي التي تكون اليوم الحكومة والأغلبية.
بعد انتشار ظاهرة “الألتراس”، أصبح أغلب متزعميها تحت إشراف وتأطير مباشر من ضباط ولايات الأمن، قبل أن تتعدد فصائلها ويحدث التمرد، لترفع جماهير أكثر من “ألتراس” بمختلف المدن، لافتات وأهازيج ثائرة، تمتح من معين شعارات المعارضة الرافضة لسياسة الحكومة والنظام. وكان لافتا أن إحدى جمعيات “الألتراس” المشجعة لنادي الرجاء البيضاوي، رفعت “تيفو” حول “الغرفة 101″، التي تحيل على أشهر رواية للبريطاني جورج أرويل (1984)، ورقم الغرفة، كما في الرواية، هو لزنزانة تعذيب سجناء سياسيين.
ما يعني أن الاستخفاف بمستوى جمهور الكرة ليس حقيقة مطلقة، وأنهم ليسوا مرضى نفسيين من نزلاء “جناح 36” بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، كما يصورهم البعض، بعدما تبين أن جمعيات “الألتراس” تحتضن أفرادا متعلمين وذوي مستوى ثقافي ووعي سياسي معين. لكن الأهزوجة التي طبقت الآفاق وتحدثت عنها نشرات الأخبار في تلفزيونات العالم، هي التي أبدعتها جماهير الرجاء وحولتها إلى نشيد رسمي لها، أهزوجة “في بلادي ظلموني” التي تنتقد سياسة الدولة والمسؤولين وتهميشهم للشباب. وسبقتها شعارات أخرى مماثلة، يرددها الجمهور وهو في شوارع المدينة قبل وصوله إلى الملعب (ما بغاوْنا نقْراوْ.. ما بغاونا نوْعاوْ../ أي: لا يريدون لنا أن نتعلم، لا يريدون لنا أن نمتلك الوعي..).
وإلى جانب القضايا المحلية اهتمت جماهير الكرة بالمغرب بالقضية الفلسطينية، ورفعت شعار “رجاوي فلسطيني”، حتى صار للفريق المغربي أنصار ومشجعون في قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية.
من التعليقات التي انتشرت إثر أحداث الشغب الأخيرة بالرباط، أن الحكومة أعادت فتح الملاعب لإلهاء الجمهور، فانفجر الجمهور ضد سياساتها اللاشعبية. وعلق آخرون على صورة مركبة من لقطتين، الأولى توثق لهراوات الأمن يقمعون مظاهرة لحركة المتعاقدين مع وزارة التربية الوطنية، والثانية تظهر رجال أمن مهزومين تحت حجارة جمهور الكرة، وكتب تحت الصورة: (اعتديتم على العلم، فاعتدى عليكم الجهل!).
وكما يعرف جمهور الكرة بالسلوك غير المنضبط، فإنه أيضا يشتهر بسخريته وشتائمه اللاذعة، والنابية أحيانا كثيرة، وفي هذا الصدد نشر مدونون خبرا عن الرئيس الأوكراني الذي طلب مساعدة لوجيستية من جمهور نادي الجيش الملكي لكرة القدم، في حربه ضد الروس.
أغلب المعلقين على ما حدث، هاجموا جمهور الكرة المتسبب في الشغب، بل هناك من رموا بوجه هؤلاء الشباب تهمة الإرهاب، واكتفوا بالتأكيد على تعاطيهم للمخدرات وللكحول، وترويج بيع بطاقات دخول الملعب بالسوق السوداء، وعدوانيتهم ضد رجال الشرطة، مطالبين السلطات الضرب بيد من حديد على مثيري الشغب في كرة القدم، واتخاذ تدابير أكثر صرامة في التعامل معهم، من دون استحضار الأسباب الاجتماعية والسياسية الرئيسية المتصلة بالظاهرة، النابعة من عنف مجتمعي أكبر، في ظل الغلاء وانعدام فرص التشغيل والرشوة والفساد، واتساع الفرق بين طبقات عليا تعيش الغنى الفاحش، وطبقات دنيا تعيش في الإدقاع والبؤس والتفكك الأسري، وانسداد الآفاق، وهي الطبقات التي ينتمي إليها جل مناصري كرة القدم ومثيري الشغب.
أضف إلى هذا تدني وتراجع مستوى التعليم في المغرب بشكل مهول، مع غياب التأطير الجمعوي والحزبي، بعد أن شجعت الدولة الجمعيات الانتهازية في إطار ما يسمى بـ”المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، في حين يقبع المغرب منذ أعوام متتالية بأسفل سلم ترتيب قائمة التنمية البشرية عالميا. وبعدما كانت الدولة تجتهد للاستقطاب الأفقي للفاعلين السياسيين والأطر الحزبية، عملت عموديا على وضع كل الأحزاب تحت مظلتها، بما فيها الأحزاب التي كانت بالأمس في المعارضة الراديكالية، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي بعد أربعة عقود من المعارضة المبدئية تحول إلى حزب مخزني صرف، وانتفت عنه كل مصداقية لدى الجماهير. لذلك ليس مفاجئا أن ينتقل شغب وعنف الملاعب إلى الطرقات والأماكن العامة، حيث تكثر جرائم التحرش ضد النساء، ونشل الهواتف والمحفظات اليدوية، وعدم احترام المرافق العامة.
ألا يوجد أي منفذ للسخط الاجتماعي سوى مدرجات الملاعب؟ لماذا يلجأ الشباب إلى تحويل فضاء اللعب إلى فضاء للاحتجاج وتصريف العنف؟
سؤال يطرحه الباحث المغربي عبد الرحيم ازرويل، ويجيب عنه بعرضه لحقيقة إفلاس الهيئات السياسية، التي من “المفروض فيها التعبير عن مطالب الجماهير وتقنين سخطها” بأسلوب سلمي. إن السبب – في رأيه – كامن في “فراغ الفضاء السياسي، من هيئات تمثيلية تقدم خطابا يتماهى معه “الجمهور”.
لذلك علينا أن نوضح هنا، أكثر، عبارة غاليانو المثيرة: “كرة القدم مرآة العالم”، لأن الأصح هو أنها “مرآة السياسة”. يكفي الاطلاع على كيف تسير شؤون الكرة لمعرفة كيف تمشي وتدور باقي الأمور.