التصور البصري والإبداع الشخصي: لومونوسوف بعيون مصرية
د. خالد العزي
عند الاطلاع على صفحة صديقنا الدكتور أسامة السروي المصري خريج اكاديمية الفنون الجميلة في سانت بطرسبورغ، بعد انتهاء احتفال سمبوزيوم للنحت في مدينة بلغورود الروسية في تشرين الاول من العام 2021، يكتب الفنان بأنه بدأ السمبوزيوم بتاريخ 21 ايلول وانتهى بتاريخ 5 تشرين الأول من العام 2021 في مدينة بلغورود، يقول في نصه بانه أنجز التمثال رقم79 في مسيرته الفنية من الرخام 2 متر، بينما كان يصل 1050 متر، حيث كان النحاتون المصريون القدماء يجسدون تماثيل ملوك الفراعنة في شكل ابى الهول، بما يكسب تلك التماثيل الكثير من معانى القداسة والخلود ورسوخ الكتلة والاستقرار، يقول “في عملي هنا حاولت ان أقدم هذا التكوين الاشبه بابو الهول والهرم المدرج فى نفس الوقت، للتأكيد على رسوخ تلك الشخصية فى التاريخ الانساني، حيث قدم ابداعاته فى مجالات العلوم كالفلك والفيزياء والكيمياء والأدب والموسيقى”، هكذا رأيت العالم الروسي لومونوسوف بعيون مصرية.
الدكتور اسامة السروي فنان مبدع وعبقري استطاع تجسيد فنه وموهبته في الإبداع بواسطة الازميل والمطرقة ليجسد من خلالها صور العظماء في إطار تخليد الذاكرة الانسانية. وقد قلده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين سابقا، وسام “بوشكين” تقديرا لدوره في مد جسور الثقافة بين العالمين العربي والروسي. هو فنان دائم الإبداع ومتعدد المواهب، رسام ونحات وجامع لموسوعات الفن الروسي في عصور مختلفة، وموسوعته أول موسوعة تجمع كم من النحت والرسم والتصوير الروسي في عصور مختلفة مع اللغة العربية. التصور البصري المكاني أو (القدرة المكانية) هي “القدرة على استقبال الصور والتفكير فيها والتعرف على الشكل والفراغ وما يتضمنه من ألوان وخطوط ورسوم، ونقل الأفكار البصرية والمكانية من الذاكرة واستخدامها لبناء المعاني” الذي حاول د.اسامة تجسيده في المنحوتة التي جسدها في المباراة الروسية. وبالرغم من متابعتي لهذا العمل الممتع طوال فترة الأسبوعين التي جسد بهما تمثالا نقشه في صخرة كاملة المعالم للعالم لومونوسوف الذي استوحى لوحته من تمثال أبو الهول في فن مصر القديمة، ويقوم على الإبداع في نقش المنحوتة في طبقة واحدة، في لوحة مفتوحة على عالم التواصل البصري، في عملية تجسيد الفن المصري القديم مع معالم فنون النحت، إبان الحقبة القيصرية التي اشتهرت بتجسيد صورة البورتريه للشخصيات المهمة في روسيا القيصرية.
ولا اعرف كيف تذكرت فجأة قصة قديمة حدثت لنا في القطار أثناء العودة من موسكو نحن طلاب التحضيري في الفصل الثاني في رحلة الى موسكو غير رسمية وغير مرتبة بواسطة قطار الساعة الحادية عشرة ليلا الى مدينة مينسك في بيلاروسيا جمعنا مع بعض. بالطبع كانت سهرة استهزائية من قبل طلاب أجانب وتحديدا اللبنانيين في بداية المعرفة للغة الروسية والثقافة الروسية، فكان الحديث عن العالم الروسي ميخائيل لومونوسوف مؤسس جامعة موسكو الحكومية، الذي جاء من الشمال الروسي ودرس في جامعة سانت بطرسبورغ وسيرته الذاتية هي درس أساسي في دراسة اللغة الروسية التي تشير الى سيرته الذاتية. والحديث طال عن عالم الكيمياء مندلييف مكتشف جدول الكمياء.
فالجدول الذي وضعه العالم الروسي ويسمى بإسمه يحصي فيه كل المواد الاساسية في الكون، حيث بات يعرف الجدول بأبجدية الكيمياء الذي أحدث ثورة علمية في حياة الانسانية قبل قرن ونصف، وصنف كل المواد المعدنية الطبيعية، ويتألف الجدول من 108 عنصر يرتبها الجدول بحسب التسلسل المنطقي للأشياء طبعا الحديث المضحك الغبي ناسب الجميع، كانت العبارات التي يراد تحفيظنا لنا بانه كان فيلسوفا شاعرا كاتبا عالما مخترعا لقد بات الحديث بيننا نحن مجموعة الطلاب في القطار حول أهمية لمونوسف ومندليف الذين جاءا الى موسكو من مناطق الشمال الروسية مشيا على الأقدام، دون الاهتمام لابداعاتهما. طبعا من فتح هذا الموضوع بطريقة هزلية مضحكة، كان صديقنا جميل عواضة الذي كان يحدثنا بتهكم عن رواية المدرسة لهذا العبقري .
كان الهرج والمرج من قبلنا بات يسيطر على العربة في القطار، السبب يعود الى جهلنا وكنا نجعل من كل شي مادة للسخرية والتهكم، فالسؤال الذي بات مضحكا لنا كيف قطعوا كل هذه المسافات في البرد والجليد ليأتوا الى العاصمة سيرا على الأقدام، ماذا كانوا ياكلون في الطريق السمك النيئ مع انهم ابناء الشمال، الثاني من مدينة ارخانغيلسك التي تحتوي على مرفأ كبير في بحر الشمال، بين الضحك والمرج والتكلم بالعربي واستخدام بعض المفردات المزعجة والمعيبة بالروسية كانوا ركاب القطار ينظرون الينا بتعجب دون ان يفهموا عما نحن نتحدث باستهزاء بالرغم من لفظنا الاسماء لبعض الكلمات بالروسية في القطار الذي يقل فيه مجموعة كبيرة من الراكب من العاصمة الروسية باتجاه بيلاروسيا عاصمتها مينسك وجدنا نحن هذه المجموعة المزعجة التي لا تعرف ثقافة الآخرين ربما كان الجميع منزعج من حديثنا غير المفهوم وطريقة الضحك والضجة غير المبررة.
نعم نحن نعرف تاريخ غير دقيق ويكتب ليس بمنهجية علمية موثقة لقد عرفنا بان انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت نتيجة الإنزال على “النورماندي” والتي غيرت تاريخنا جميعنا والتي يطلق عليها في الكتاب المدرسي عملية الدب الأصغر والدب الأكبر. فالحديث عن الدب الأكبر لا يوجد له اي اشارة، فعندما درسنا التاريخ وعرفنا جهلنا في المعلومات التي وصلت الينا كان الاخفاق كبير من قبلنا وتحديدا في الوصول الى المعلومات.
المعلومات لم تكن متوفرة سوى في المكتبات، والعرب لا يحبون الجلوس في المكتبات، كما هو حال اليوم، من خلال الوصول إليها بسرعة عن طريق “غوغل”. لكن بعد انتقالي الى مدينة لينينغراد سابقا اي “سانت بطرسبورغ ” عرفت أهمية الفنون الشعبية. عندما وصلت الى لينينغراد المدينة التي سأدرس فيها، وجدت الكثير من المنحوتات العربية والاسلامية كابن سينا وميخائيل نعيمة والشيخ الطنطاوي الذي درس اللغة العربية في جامعة لينينغراد، القادم من مصر ليتعلم الروسية ويعلم العربية في كلية اللغات.
لا يزال د. أسامة مستمرا بالابداع وحيث انتج تمثال جديد للكاتب الروسي شولوخوف وقد وضع في القاهرة ولذلك مستمر في إنتاج الكتب الفنية التي تربط الفن الروسي بالمصري باللغتين العربية والروسية ويشرف على الأعمال النحتية والاكاديمية ومستمر في التعليم والعطاء وعمل ملحقا ثقافيا لمصر في السفارة الروسية لمدة أربع سنوات ولايزال يكرم في روسيا ومصر كونه مبدع صاحب قلم ومطرقة يجسد فيهما افكاره وتصوراته الإبداعية الدائمة التي لا تعرفها حدود.