السيناريو… باعتباره شكلًا أدبيًا جديدًا (2)

السيناريو… باعتباره شكلًا أدبيًا جديدًا (2)

د. برهان شاوي

لم يقتصر النقاش حول السيناريو بين (آيزنشتين) و(توركين) فقط، أنما دخل النقاش كل من (الكسندر دوفجنكـو) و(فسوفولد بودوفكيـن) أيضا. ول(دوفجنكو) في هذا المجال آراء متميزة، فقد كان يعتبر مشكلة (السيناريو) واحدة من أعقد المشاكل التي تواجه السينما العالمية آنذاك. كما كان يعتبر (الكلمة) من أهم وسائل التعبير السينمائي. ودلل على ذلك باعتماده على مذكرات وتعليقات الكتاب الروس والأجانب الذين كتبوا السيناريو، بأنهم كانوا يعيشون (معاناة إبداعية) أثناء كتابة (السيناريو) مثل معاناتهم عند كتابة(الرواية).

 إلّا إنه لم ينس بأن يضع الحدود بين (السيناريو) و(الرواية). فقد كان يعتبر(السيناريو) شكلًا أدبيًا جديدًا يقع بين المسرحية، والقصة الطويلة، والرواية. لقد كان (دوفجنكو) يفهم (السيناريو) باعتباره (المعادل الموضوعي الأدبي) للفيلم. ولقد كان شخصيا يكتب السيناريو لأفلامه بنفسه، لذا فأنه يؤكد بأن ولادة الأفكار وتجسيدها في سيناريوهات هي من أمتع اللحظات. وكان يعتبر العملية الإخراجية كإعادة للعملية الإبداعية التي عاناها أثناء كتابة السيناريو. 

 كما أكد بأن كتابة السيناريو تتطلب تلك القدرة الروحية والإبداعية، وتلك المواصلة على العمل، وتللك الأستاذية والحرفية مثلما تتطلبها كتابة الرواية والقصيدة الملحمية والمسرحية. – (دوفجنكو- إنني انتمي للسينما الشاعرية- بالروسية- 1967). 

لقد كان يرى بان (السيناريو) لا يسعى للاقتراب من النص المسرحي وانما يتجاوزه، لأنه يمتلك قدرة الحركة وتطور الحدث في رحابة المكان وفي ابعاد الزمان، في الحاضر والماضي المستقبل، وفي جميع مراحل التاريخ، وهذه القدرة لا يمتلكها اي فن آخر، وذلك ليس من خلال تطور العقدة الداخلية للحدث فحسب، وانما من خلال رحابة المكان والحركة ، ومن خلال تغيير المشاهد والانتقال الدائم. 

بـودوفـكـين.. ومبادئ السيناريو

 فسوفولد بودوفكـين ذهب أبعد من الجميع، فإذا كان من سبقه بحثوا (السيناريو) ضمن بحثهم في اللغة السينمائية، فأنه خصص الكثير من بحوثه ل(فن كتابة السيناريو) وبحث مفاصله كجنس أدبي جديد ، ووضع بعض ضوابطه.

في العام 1920 كتب بودوفكين ما يلي:  (تولد عند الكاتب فكرة لفلم سينمائي..؛ وربما هناك تصور قليل أو كثير عن مضمونها أو ربما عن مضمون بعض المشاهد، فيبدأ بتجسيدها على الورق بشكل أدبي.  

إنه يكتب تصور أدبي لتطور الأحداث، كما يرسم سمات الأبطال، ثم يجعل هؤلاء الابطال يقومون بالأحداث ويتقابلون؛ وعمليا يسمح لهذا أو ذاك لحسم الأحداث. وفي النهاية يجر جميع الأشخاص والأحداث إلى حل معين، ولكن لحد الآن لا شيء مصور، وهذا الذي يسمى لحد الآن ب (اللاشيء) هو(السيناريو). – (بودوفكين- عن شكل السيناريو- بالروسية- المؤلفات الكاملة- 1967). 

 ما كان يقلق بودوفكين ليس المسافة بين (الأدب والسينما) و(السيناريو) كوسيط بينهما وأنما العلاقة بين(السيناريو) و(الفيلم)، لكنه برغم ذلك لا ينسى بأن (السيناريو) يعتمد على (الكلمة) التي تحمل الأفكار والمشاعر، وهي أساس (الأدب). 

 وحتى عند دعوته إلى نشر السيناريوهات الأدبية، فأنه كان ينطلق من أن السيناريو عمل أدبي يمكن تقييمه لحاله ومن ثم يمكن مقارنته مع الفيلم المأخوذ عنه، بل وحتى فيما يخص(السيناريو الأدبي) فأنه كان قاسيا، إذ إنه كان يرفض بشدة تلك القصص الركيكة التي يكتبها البعض. وكثيرا ما كان يذكر في مقالاته ومحاضراته بأنه من النادر أن يجد (السيناريو الأدبي) الذي يهزه من الأعماق كعمل (أدبي) قائم بذاته.، لذا فأنه كان يذكر دائما في حديثه عن السيناريو بأن (الكلمة) هي وسيلته الأساسية، لذا يجب أن يُكتب (السيناريو) بلغة عالية تستطيع أن تهز القاريء. – (بودوفكين- الابداع الأدبي في السينما- المؤلفات- المجلد1) الكلام الصامت..

 والحوار المكتوب كل هذا الجدل الفني والجمالي كان يدور حينما كانت السينما (صامتة)، أي قبل دخول الصوت إلى الفيلم. وحتى هذه القضية كانت مثار جدل من الناحية الجمالية والنظرية، من حيث إن الممثلين في السينما الصامتة كانوا يتكلمون، لكن المشاهد لم يكن يسمع ما يدور، أي أن(الكلمة) كانت تدخل ضمن حركة الممثل. وأنها كانت جزءا من الأداء وجزءا من التعبير الشعوري، بينما كان الحوار ينقل كتابة إلى الشاشة، بمعنى أن (الصوت) لم يكن محذوفا وأنما كان يُعبر عنه (كتابة). وهذا يعني أن الكلمة المكتوبة وبالتالي(الأدب)، لم يكن بعيدا حتى عن السينما(الصامتة) وأن السينما(الصامتة) لم تكن أبدا (صامتة) كما يقول (كوزولوف) في كتابه (التعبير الفني ونمط الشخصية – بالروسية – 1980). 

لكن (الكلمة) في الأدب هي (العنصر الأول) كما يقول (غوركي)، فخارج (الكلمة) ليس هناك(أدب).  ومن هنا فان العمل الأدبي هو (الواقع المباشر) للأفكار الفنية والجمالية، بينما في (السينما) تكون(الصورة المتحركة) هي (العنصر الأول) وخارجها ليس هناك(فن سينمائي).  المهم، كان دخول (الصوت) الفيلم قفزة نوعية، وزلزالا هز منظومات كاملة من الأفكار والمفاهيم السينمائية، كما دفن الكثير منها، ودفع بالفنانين السينمائيين والمنظرين إلى إعادة النظر في مفاهيمهم السابقة، والتوجه إلى تشكيل تصورات جديدة، والبحث عن جماليات جديدة لفن السينما.

(يتبع)

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. برهان شاوي