الشاعر أحمد لمسيح: أن تكون زجالاً في المغرب هو أن تختار الخسارة أو الانتحار
حوار أجراه: عبد الرحيم التوراني
يمكن تقسيم تاريخ الزجل في المغرب إلى مرحلتين فارقتين: ما قبل لمسيح وما بعد لمسيح. إذ تمكن المبدع أحمد لمسيح من الارتقاء بالزجل المغربي من كلام مرتجل أو منظوم يلتزم بالقوافي، ومن مجرد كلمات تغنى مطبوعة ب “البساطة والسطحية أو الرداءة”، إلى جنس أدبي قائم، وشعرٍ راقٍ. وحسب شهادة للكاتب إدريس الخوري، إن لمسيح يكتب القصيدة المتميزة بفرادتها الشعرية وبمعجمها المتفرد والأنيق. وإذا كان أحمد لمسيح يكتب أيضا القصيدة بالعربية الفصحى، وينتمي لجيل السبيعنات الشعري في المغرب، فإنه كرس جهودا أكثر لتطوير القصيدة الزجلية بتمرده على أنظمتها ونماذجها القديمة.
لذلك اخترنا أن تكون البداية في فتح ملف الزجل بالمغرب مع فارس الزجل عن جدارة الشاعر أحمد لمسيح.
وستكون الحلقة الثانية مع الشاعر رضوان أفندي.
فيما يلي نص الحوار:
– ماذا يعني أن تكون زجالا، أو شاعرا بالعامية، في المغرب اليوم؟
– استسمح في البداية للإشارة أن الزجل في المغرب لا يعنى به نفس التجنيس المتداول في المشرق – لأني أعرف أن زوار “السؤال الآن” ليسوا من المغرب فقط – بل يطلق هنا على كل النصوص التي تبدع بالعامية، سواء أنشأها أميون فطريون، أو حرفيون أوفقهاء أو صوفيون، أو أكاديميون، لأننا نحافظ على التسمية التي ظهر بها هذا اللون الشعري في الأندلس قبل أن يهاجر.
والإشارة الثانية تتعلق بالشكر العميق لكم، لكونكم وضعتم للزجل المغربي مساحة منذ البدايات الأولى لمجلتكم الإلكترونية. والشكر على مغامرتكم في الحوار معي، علماً بأنكم تعرفون أني “غير منضبط”، وسأكون على سجيتي معكم لتأكدي من قوة الصداقة التي تربطنا منذ أواخر السبعينيات (آه لقد هرمنا ولم تحل المعشوقة الحرية).
وأعود إلى السؤال، أن تكون زجالاً في المغرب هي أن تبحر بقارب سواء صنعته بنفسك، أو كان لغيرك من أي شجر كان، والمتلقي على الضفاف يطالبك أن تسعمل مادة القارب التي يريد هو، وأن تجذف كيفما أراد هو، وهناك من يخنع ويستسلم لهذا الدركي – المتلقي ويرشيه بما ينتظر. هو إبحار وإلا فقد إبداعيته، الزجال الآن في خضم الماء يقاوم لانتزاع الاعتراف بالزجل وتبويئه مكانة يستحقها بتنوع اختياراته الإبداعية مستلهمة أو مقتدية بالتراث بمختلف تلويناته أو الشعر المنتسب للكتابة بأي لغة.
وأعتقد أن هذا التنوع فيه غنى، وهو نابع نابع عن وعي باختيار المرجعيات، لأننا نعتقد أننا في مازلنا في مرحلة المرافعة وكلٌّ يتحمس لدفوعاته أمام قاضٍ هو الناقد أو المتلقي . فلندع: مائة زهرة تتفتح . أنت تعرف أني كتبت الشعر بالعربية المعيارية وكتبت القصة والنقد والمسرحية والحوارات الساخرة، ولكن غاويتي كانت هي القصيدة الزجلية فهجرت لأملكها نفسي .
هذا معنى أن تكون زجالاً في المغرب هو أن تنتحر- أو على الأقل تختار الخسارة – من أجل اختيارك.
– لعبت القصيدة العامية في السبعينيات والثمانينيات، دورا تحريضيا في أوساط المثقفين والشباب بالجامعة، ببعدها الاجتماعي والسياسي الملتزم، ومن بينها قصائدك التي تمت مسرحتها وتلحينها وغناؤها. كيف ترى إلى انحسار هذه التجربة لفائدة كلام “الراب”، وما يسمى بالأغنية الشبايبة، وغيرها من الأشكال التعبيرية التي لا يجمعها بالزجل كفن إبداعي غير القافية أو الألفاظ القديمة المستوحاة من فضاء الشارع أو من كلام البادية القديمة؟
– بداية أنا مع جميع الاختيارات الإبداعية – إيمانا بحرية التعبير- ولكل مجاله فكل الكلمات ليست هي الشعر، المشكل ليس هو السماع أو القراءة ويصبح الفرد صدى يجهل مرجعايته، مثلاً السروال الآيل للسقوط، كان في أمريكا تضامنا مع زنجي صوره صحفي ليبين نحافته بسبب الاعتقال وقهره وعندنا يستعمل بدون دراية تحت وطأة إعلامية ماركوتينية، والراب ظهر في أمريكا كتعبير احتجاجي عنيف وصادم للسياسة العامة والذوق العام. وعندنا تجارب لافتة لأنها تمتلك مرجعيات وتجيد منتوجها وقد ساندت هذا الاختيار الفني التعبيري بمقالة “تنحبكم حتى للموت”، ربما في 2007 ، استلهاما لرائعة البيكَ حازب “مغاربة حتى للموت”. لكن، رجاء، مايكتب للغناء هو كلمات. كانت القصيدة المكتوبة بالعامية منخرطة – في السبعينيات – مثل شقيقتها المكتوبة بالمعيارية، فيما كان يسود التعبير آنئذ في المشرق أو الغرب لإنتاج إبداع احتجاجي ملتزم رافض ومناهض للنظام القائم. وقد انخرطت بالقول والفعل والانتماء استجابة للمرحلة، وكنت واهماً، أعتبر القصيدة مرافقة تابعة لمظاهرة أو إضراب، ولست آسفاً على ما أديته بسبب اختياراتي، محظوظ أني مازلت بالحياة.
– ماذا يميز القصيدة العامية المغربية في نظرك عن مثيلاتها في البلاد العربية، وهل من أثر لتجارب عربية عليها، كتجربة المصري أحمد فؤاد نجم أو اللبناني زياد الرحباني وغيرهما؟
– في التجربة المغربية في كتابة الشعر بالعامية فتوحات تتعالق مع التجريب المستلهم للشعر الغربي أو الصوفي أو الوفاء الذكي للفنون التراثية، في المغرب لم يعد الزجالون صدى للمشارقة، هم مغايرون ومبدعون وليسوا أصداء، ما كان في مرحلة الحبو انتهى، الآن هناك تجارب لافتة خاصة في مجال الأصوات الجديدة وفي داخلها أصوات الأنثى المتمردة. المؤسف أن الدارسين والنقاد لا يتتبعون ما يحدث في خريطة الزجل من اجتهادات وخروقات، ويحق لي أن أقول إنها رائدة بجميع تلويناتها.
– كثرت في الأعوام الأخيرة أعداد الزجالين، كما انتقل الزجل بشكل أوسع من إطار الشفاهية إلى فضاء الطباعة والتوثيق والقراءة في دواوين، وصار للزجالين المغاربة جمعيات واتحادات، هل ترى في هذه المسألة بعض التطور والإيجابية، أم هي مجرد ظاهرة عابرة وغير كافية؟
– مسألة الشفاهية موجودة حتى في الكتاب المطبوع، سواء فيما يسمى بالفصحى أو الزجل. والفرق هو في التعاطي مع المعروض وما يقترحه من إبداع …. ما يقع داخل التنظيمات لا يمثل – دائماً – صورة الإبداع . الإبداع حر وفردي. الزجالون المغاربة منخرطون في إغناء و تطوير الكتابة الشعرية بالعامية عن وعي ومرجعيات ثقافية، دون الالتفات لما ستوافق عليه المشرق. لقد تحرر الزجل في المغرب من سحر المشرق وانغمس في ذاته باحثاً عن ذاته المستقلة والمضيفة بالتجاوز والاختلاف.
– ما موقفك من النقاش الذي لا يزال يتفاعل اليوم حول المسألة اللغوية في المغرب، ودعوة بعض الجهات إلى اعتماد الدارجة في التدريس، بعد تعميمها في الإشهار وفي دبلجة المسلسلات الأجنبية بديلا عن الفصحى؟
– موضوع ملتبس لأنه لم يطرح من أكاديميين وباحثين لسانيين، وكنت غير معني بالهستيريا الداعية للعامية أو مقابلتها المهووسة بقداسة العربية. نقاش مغلوط ومشوه، لأن الذين بدأوا بالدعوة إليه غير أكاديميين، اقتحم النقاش السياسيون والجمهور العفوي المنجذب، ما أفسد النقاش هو استيهمات السياسيين والعرقيين.
أرى أن الموضوع مغلوط ومشوه، من بدأوا ليتهم كانوا أكاديميين ولا يسعون لكسب المال من الخارج. الموضوع يناقشه المختصون وليس من هب ودب.