إنهم لا يحبون إلا الموتى
جودت هوشيار
عبارة قالها سيرغي دوفلاتوف (1941 – 1990) وهو يغادر وطنه، بعد تضييق الخناق عليه، ومنعه من النشر، ووضعه أمام خيارين أحلاهما مر: إما السجن أو الهجرة، رغم أنه لم يكن معارضا، ولا منشقاً. كانت تلك العبارة نبوءة صادقة. فبعد وفاته بنوبة قلبية في نيويورك في 24 أغسطس عام 1990، أصبح بين ليلة وضحاها، الكاتب الأشهر بين أبناء جيله. وبدأت دور النشر الروسية تتنافس وتتسابق في نشر مؤلفاته الرائعة.
دوفلاتوف واحد من أكثر الكتّاب شعبية ومقروئية في روسيا طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو الكاتب الأكثر مبيعاً. ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات الرئيسة في العالم، وساهمت دور نشر عالمية مرموقة في نشرها. يقام سنوياً في يوم ميلاده في الثالث من سبتمبر مهرجان في بطرسبورغ تخليداً لذكراه. كما أن العديد من رواياته أضيفت إلى لائحة الكتب الكلاسيكية المقررة لطلبة المدارس الثانوية والجامعات.
لقد تغيّرت أشياء كثيرة في روسيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وشهد الأدب الروسي تيارات وتجارب فنية جديدة. وكلما أوغل الكتاب الروس المحدثون في تجارب ما بعد الحداثة ترسخت شعبية دوفلاتوف وزاد الإقبال على قراءة كتبه.
ولد دوفلاتوف في مدينة أوفا عام 1941 عندما كان والداه يعيشان في هذه المدينة بعد إجلائهما من لينينغراد المحاصرة. كان والده دونات ميتشيك مخرجاً مسرحياً يهودياً، ووالدته نورا دوفلاتوفيان ممثلة مسرحية أرمنية، وقد عادا مع ابنهما سيرغي إلى لينينغراد المحررة في عام 1944، ولكن نورا تركت العمل في المسرح بعد انفصالها عن زوجها، وعملت مصححة لغوية. بعد تخرجه في الدراسة الثانوية التحق سيرغي عام 1959 بكلية فقه اللغة في جامعة لينينغراد. وفي هذه الكلية تعرف على العديد من كتاب وشعراء المستقبل، منهم صديقه الشاعر جوزيف برودسكي (الذي حصل لاحقاً عام 1978 على جائزة نوبل في الآدب)، وقد فصل سيرغي من الكلية بعد سنتين ونصف لرسوبه. تم تجنيده في الجيش وخدم فيه ثلاث سنوات، يقول برودسكي: ” إن دوفلاتوف عاد من الجيش وفي جعبته العديد من القصص، كما عاد تولستوي من حرب القرم “.
دوفلاتوف في حديث أدبي إذاعي
خدم دوفلاتوف في الجيش حارس معتقل، وكتب عن حياته تلك، وعن الحياة في المعتقل روايته الأولى (المنطقة).
وعلى خلاف سولجنيتسن وشالاموف؛ يرى دوفلاتوف أن لا فرق في المعتقل بين المعتقلين وبيين الحراس في فهمهم للخير والشر، فهم أناس يتسمون بالخشونة والقسوة، رغم أنهم قد يكونون أحياناً كرماء ونبلاء. التحق دوفلاتوف بعد تسريحه من الجيش بكلية الصحافة في الجامعة ذاتها. وخلال دراسته عمل مراسلاً لعدة صحف ومجلات لينينغرادية. وكان يريد أن يكتب عن الواقع السوفيتي كما هو، وليس كما تصوره الدعاية السوفيتية، وقد واجه بسبب ذلك صعوبات جمة. وكان البعض من رؤساء تحرير الصحف التي عمل فيها يقول له: ” أنت تكتب عن واقع غير موجود”.
ومنذ الستينات بدأ دوفلاتوف بكتابة الروايات والقصص القصيرة، وتمكن بين عامي 1967-1969 من نشر نوفيلا بعنوان (غداً سيكون يوماً عادياً) وقصة قصيرة بعنوان (مقابلة صحفية)، وهما عن العمل والإنتاج، وقد وصفهما دوفلاتوف لاحقاً بأنهما نتاجان بروليتاريان رديئان، رغم أنه تلقى من مجلة (يونست) عن نشر قصة (مقابلة صحفية) مكافأة تبلغ 400 روبل. وكان هذا مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت. وقد كتبهما لأنه كان بمسيس الحاجة إلى المال لتأمين لقمة العيش له ولأسرته، وقد رفض لاحقاً إدراجهما ضمن أعماله الأدبية المنشورة. وندم على نشرهما أشد الندم. وحين شرع يكتب كما يريد عن عبثية الحياة السوفيتية رفضت الرقابة الأيديولوجية الموافقة على نشر كتاباته الجديدة. وعندما تعب من تلقي الرفض من المجلات الأدبية الصادرة في لينينغراد أرسل ذات مرة باسمه وتوقيعه قصيدة كتبها الشاعر الروسي الكلاسيكي الشهير أفناسي فيت (1820/1892)، فتلقى من رئيس تحرير المجلة رسالة جوابية يقول فيها: (إن قصيدتك غير صالحة للنشر).
رغب دوفلاتوف الهروب من الأجواء القمعية في لينينغراد، وسافر إلى مدينة تالين عاصمة جمهورية إستونيا السوفيتية. هناك حصل على وظيفة في مؤسسة صحفية، ووقع على عقد لنشر أول كتاب له بعنوان ” الزوايا الخمس “. كانت بروفات الكتاب جاهزة في المطبعة، ولكن الرقابة منعت نشر الكتاب من دون أي مبرر. وكانت صدمة لدوفلاتوف وظل حائراً، فذهب يطلب مشورة كاتب مخضرم هو غريغوري سكولسكي، الذي قال لدوفلاتوف:
– أنت في حاجة إلى التوبة .. عن ماذا؟
لا يهم. الشيء الرئيس هو التوبة من شيء ما، والاعتراف بشيء ما. أنت لست ملاكاً
– أنا لست ملاكاً على الإطلاق .. إذن، أعلن توبتك. كل شخص لديه شيء ما ليتوب منه .. ولكني لا أشعر بأي ذنب!
– هل تدخن؟
– أجل، وماذا في ذلك؟
– هذا يكفي. التدخين عادة ضارة، هل توافقني؟
إذن اكتب: أتوب من هذا العبث، ثم تحدث عن كتابك وقل أرجو…
يظهر هذا الحوار في كتاب دوفلاتوف (الحرفة)، الصادر في نيويورك عام 1985، ويتألف الكتاب من جزءين يتحدث المؤلف في الجزء الأول منه عن محاولات غير ناجحة للنشر في الاتحاد السوفيتي. ويصف في الجزء الثاني السنوات الأولى من حياته في نيويورك، يقول دوفلاتوف: ” بدأت حياتي في أمريكا بهدوء شديد، مستلقياً على الأريكة، لعدة أشهر ،كما يليق بكاتب روسي “. ومن أجل كسب لقمة العيش، أسس دوفلاتوف وبعض رفاقه من الكتّاب الروس المغتربين صحيفة ” الأمريكي الجديد ” الأسبوعية، التي كانت تركز على نشر ما يهم المهاجرين الروس من مواد. والآن، بعيداً عن الرقابة السوفيتية، نشأت عدة مهام أخرى لعمله الأدبي، وصفها دوفلاتوف بأسلوبه الساخر: انعدام الفرص أعطى لي الحق في أن أعتبر عبقرياً غير معترف به، وعلى هذا النحو كان يفكر جميع أصدقائي.
فكرنا: ” سننشر أعمالنا الأدبية في الغرب، وسيعرف الجميع أي نوع من الرجال اللامعين نحن !. وها أنا هنا في الغرب. ولكن لم يخرج العبقري مني بعد)” قبل وصوله إلى الولايات المتحدة، لم يكن دوفلاتوف قد نشر إلا كتاباً واحداً بعنوان ” الكتاب الخفي ” الذي صدر في (نيويورك – باريس) في آن واحد عام 1977، ولكن بعد هجرته إلى الولايات المتحدة نشر 12 رواية ومجموعة قصصية خلال اثني عشر عاماً. وكل هذه الكتب تصور عبثية الحياة في ظل النظام السوفيتي.
دوفلاتوف هو أحد الكتاب الروس القلائل الذين تسنى لهم نشر نتاجاتهم في صحيفة ” نيويوركر” الأمريكية الشهيرة. وقال الكاتب الأمريكي المعروف (كورت فونيجت) في رسالة إلى دوفلاتوف:” لو نشرت نيويوركر قصصي لفزت بجائزة نوبل “. قد تبدو سرديات دوفلاتوف لأول وهلة وكأنها تتسم بطابع السيرة الذاتية، خصوصاً أن معظمها كتب بالضمير الأول، ويحمل الراوي غالباً اسم دوفلاتوف، وتحمل الشخوص أسماء أصدقائه، ومن صادفهم في مسيرته الحياتية. ولكن هذه النظرة خادعة، لأن ما يسرده دوفلاتوف هو من صنع الخيال، وإن كانت تجربته الحياتية منطلقاً له. أسلوب دوفلاتوف متفرد، يكفي أن تقرأ له بضعة أسطر لتتعرف عليه على الفور. وتتسم أعماله بالصدق الفني والانتقال السهل من التراجيدي إلى المضحك، مما يذكرنا بأسلوب تشيخوف. يقول الشاعر الروسي-الأمريكي جوزيف برودسكي: “عندما أقرأ أي كتاب من كتب دوفلاتوف فإنني لا أستطيع التوقف عن القراءة حتى أصل إلى آخر سطر فيه خلال عدة ساعات “. ويفسر برودسكي ذلك أن نثر دوفلاتوف (أشبه بالشعر، وله إيقاع بديع، وهو لا يفرض نفسه عليك، ولا يتفلسف أو يستطرد دوفلاتوف كان يعرف سر الكتابة الشائقة، وكيف يمزج بين الجد والسخرية اللاذعة. حيث تبدو كتاباته ظاهرياً وكأنها نكات مضحكة، ولكن ما أن يتأمل القارئ قليلاً حتى يكتشف ما يختفي بين سطوره من معاناة موجعة لمثقف يحاول الحفاظ على حريته الشخصية والإبداعية، عن طريق السخرية من الواقع المحيط به. وعلى عكس برودسكي، مواطنه وصديقه، لم يكتب دوفلاتوف باللغة الإنجليزية، وفي الواقع، لم يندمج في الثقافة الأمريكية، وحافظ على نوع من المسافة مع بلده المضيف:” أعلم أن أمريكا ليست جنة، وقد تبين لي أن ثمة كل شيء هنا -السيئ والجيد، لأن الحرية ليس لها أيديولوجية. الحرية تتيح المجال على قدم المساواة للخير والشر. الحرية مثل القمر، يضيء الطريق للمفترس والضحية “..
توفي سيرغي دوفلاتوف بنوبة قلبية في 24 أغسطس 1990، قبل عام من تفكك الاتحاد السوفيتي عن عمر يناهز 49 عاماً. عندئذ بدأت حياته الثالثة، ولمع نجمه، وصدرت طبعات متلاحقة لأعماله الأدبية بمئات آلاف النسخ .. القارئ الغربي اليوم لا يعرف سوى ثلاثة أسماء لأدباء روس من النصف الثاني للقرن الماضي وهم: دوفلاتوف، وسولجنتسن، وبرودسكي. وقد أنتجت السينما الروسية العديد من الأفلام المستوحاة من نتاجاته، فعلى سبيل المثال لا الحصر: فيلم (دوفلاتوف)، وهو إنتاج روسي بولندي يتناول على مدار 126 دقيقة سيرة ذاتية لدوفلاتوف عبر ستة أيام في حياته وكيف حافظ على موهبته في ظل ظروف الدولة القاسية؛ فاز الفيلم بجائزة (الدب الفضي) لمهرجان برلين السينمائي الدولي في فبراير 2018. وقد أطلقت بلدية نيويورك اسم الكاتب الروسي على الشارع الذي كان يقع فيه بيته في حي المهاجرين الروس بالمدينة. واليوم ثمة جائزة أدبية روسية مرموقة تحمل اسمه، كما نصبت له تماثيل نصفية ولوحات برونزية في أماكن عديدة خصوصاً قرب المساكن التي عاش فيها. لم يلقَ دوفلاتوف خلال حياته أي اهتمام، لا من قبل السلطة السوفيتية، ولا النقاد، ولا حتى من الزملاء، ومات في نيويورك بعيداً عن الوطن. ولكنه تحوّل بعد وفاته إلى أيقونة الأدب الروسي الحديث، وإلى أسطورة تتناقلها الأجيال، ورمز من رموز اضطهاد النظام للعباقرة لمجرد أنهم كانوا يفكرون على نحو مختلف.