العروي منظرا وكاتبا مسرحيا.. “رجل الذكرى” أو تراجيديا الوصل والقطيعة (1)
محمد بهجاجي
خصص المؤرخ والمفكر عبد الله العروي حيزا هاما من عمله الفكري والإبداعي للفن المسرحي، خاصة في نهاية خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أي في فترة شبابه التي عرفت بداية تشكل وعيه السياسي والفكري، بموازاة الشروع في تأسيس أطروحته حول “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”. وقد تجسد ذلك تنظيرا وإبداعا في ثلاث محطات:
ـ الأولى حين كتب نصا مسرحيا (موضوع هذه الدراسة) بعنوان “رجل الذكرى”، خلال صيف سنة 1958 بمدينة أگادير، وقد أعاد صياغته أثناء تواجده بالقاهرة خلال صيف 1960 لينشره، باسم مستعار (عبد الله الرافضي) في العدد الأول من مجلة “أقلام” الصادر في مارس 1964. بعد ذلك أعاد نشره ثلاث مرات كان آخرها سنة 2018 ـ بـ “صياغة جديدة” في كتاب ضم كذلك روايتي “الغربة” و”اليتيم” .
ـ المحطة الثانية ترجم خلالها العروي، عند مفتتح الستينيات، النص المسرحي “سيد سنتياغو” (Le Maître de Santiago) للكاتب الفرنسي هنري دي مونترلان (de Montherlant Henry). وقد نشره سنة 1966 بمجلة “أقلام”، بعنوان “شيخ الطريقة”، عبر أجزاء تواصلت من العدد الثالث إلى العدد السادس. ثم أعاد نشره سنة 2013 بعنوان “شيخ الجماعة”.
يهمنا في هذا السياق تقديم فكرة عن هذا النص، وعن دواعي ترجمته. فالوقائع تجري، كما يوضح المؤلف في التقديم، في شبه الجزيرة الإيبيرية بعد سقوط غرناطة الأندلسية، واكتشاف القارة الأمريكية خلال الربع الأول من القرن السادس عشر حيث تتصارع ثلاث قوى: البابوية والملكية المطلقة ورهبانيات الفرسان. ولقد كان موضوعَ ذلك الصراع الخلافُ بين تلك القوى حول معاني المقدس الديني والتطرف والجهاد داخل الحدود وخارجها. يركز النص بشكل خاص على موقف الدون ألفارو (أحد هؤلاء الفرسان، الشخصية الرئيسية في النص) الذي رفض المشاركة في اختراق أمريكا لأنه غير مقتنع بقداسة تلك الحرب، معتبرا إياها مغامرة، معبرا عن استيائه من التوظيف الحقير للدين، ومن إسبانيا برمتها، ولذلك يقول: “إسبانيا في وضعها الحالي لا أريد ان أشارك بأي قدر في شؤونها. تمثل إسبانيا الحالية أكبر مذلة لي. لا حاجة لي في زمن يعتبر الشرف جريمة. الحلم جريمة. الإحسان جريمة. يتعرض فيه كل شيء نبيل إلى الهوان والسخرية. أينما توجهت أرى حثالة الناس في أعلى المناصب، وراية النصر بيد الأرذال السفهاء…”.
أما دواعي التعامل مع نص هنري دي مونترلان فتعود إلى ما يعتبره العروي التطابق بين السياق التاريخي لأحداث المسرحية وزمن الترجمة مغربيا. يكتب العروي في التقديم: “الحق أن اهتمامي بهذه المسرحية تم في ظروف خاصة، أعني السنوات التي تلت استقلال المغرب. ما يقوله ألفارو عن انتشار مظاهر اللؤم والخسة في إسبانيا بعد انتهاء “الحرب المقدسة”، كان يجد صدى في نفسي وأنا أشاهد ما يجري في مغرب الستينيات الذي مر بسرعة من محنة الاستعمار إلى نشوة الاستقلال ثم عاد إلى حياته المليئة بالمساومات والتنازلات الدنيئة”، (ص 10).
ولأن المسرحية تحكي تفاصيل الصراع مع من يسمون في النص ب”الكفار” فالعروي يسأل عمن يكون هؤلاء ثم يجيب “هم بالطبع أهل الجزيرة، من نسميهم عربا أو مسلمين أو مغاربة، إما لاستبعادهم عن القومية الإسبانية، وإما لأن سمتهم تألقهم ونبوغهم. نبخل عليهم باسم يميزهم ويؤكد أصالتهم. هؤلاء هم الشبح الذي يُظل مسرحية مونترلان. هم الغائب الحاضر. لهم علينا دين لا يوفى. أقله التذكر. هذا ما فعلت، لما سنحت الفرصة، وأنا في بداية مشواري الفكري والعاطفي”، (ص 11).
يهمنا بهذا الخصوص أن نشير مجددا إلى أن “رجل الذكرى” و”شيخ الجماعة” كانا قد تكونا في ذهن العروي الشاب كمشروع تفكير وكتابة في الفترة التي أنهى فيها الطالب العروي الفصل الأول من مساره الدراسي بباريس حيث أعاد الصياغة الكلية لرواية “الغربة” . كما هي بالضبط الفترة التي نضجت فيها رؤاه تجاه قضايا المغرب والعالم العربي في علاقة مع أوربا والغرب بشكل عام. ومن ثم يعتبر الكتابان من المكونات الأساسية لكتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”.
يؤكد العروي ذلك في جواب عن سؤال يهم تلك المرحلة: “جذور تفكيري متعددة بالطبع، ولكن هذا التفكير تكون بكيفية أساسية ما بين سنتي 1958 و1961، وهي السنوات التي أنهيت فيها القسم الأول من دراساتي العليا. ثم لاحظت ما حصل في المغرب في السنوات الخمس الأولى من الاستقلال. كما لاحظت ما كان يجري في الشرق، وهي سنوات الانقلابات العسكرية في الشام والعراق ومصر، وفي الشرق عموما. كما لاحظت ما آلت إليه العملية التوحيدية، في سنتي 1960 و1961، ما بين مصر وسوريا، وما آلت إليه الإجراءات الإصلاحية في الشرق. وهذه هي المكونات الأساسية لفكري، وهي في الواقع مكونات كتابي عن الإيديولوجيا العربية المعاصرة” .
واضح أن كتابات تلك الفترة كانت تعبر عن موقف محدد تجاه ما كان يجري على الساحة الوطنية حيث لم يكن العروي “يخفي تبرمه مما كان يجري في العاصمة” كما صرح بذلك في مقدمة “رجل الذكرى”، (ص 5)، وهي الظروف التي شهد فيها مغرب تلك الحقبة خيبة الأمل بعد انطفاء الحماس الوطني، ودخول البلاد زمن التمزق الذاتي. أما المحطة الثالثة، المجسدة لاهتمامات العروي بالمسرح تنظيرا وإبداعا، فتندرج في سياق إنتاجه الفكري حيث تطرق إلى الفن المسرحي في فصل “العرب والتعبير عن الذات” من كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” . وكما هو كل إنتاج أول، خاصة إذا كان هذا الإنتاج ينحو منحى التأسيس لأطروحة ما، فلقد حاول العروي أن يطرق كل قضايا الفكر بما فيها محاولة استخلاص قواعد عامة للإبداع المسرحي كما شهد بعض نماذجه في فرنسا (حيث قضى سنوات التكوين العالي الأولى)، وفي مصر (حيث أقام في مرحلة لاحقة). وقد اعتمد، في متنه المركزي، على نماذج من المسرح المصري، وعلى مسرحيات توفيق الحكيم وأحمد شوقي بشكل خاص، ثم على مسرحيات على أحمد باكثير ونعمان عاشور. وقد مهد لذلك بالسؤال التالي: هل يمكن أن نكتب مأساة حقيقية في مجتمع لا يعرف، أو يحارب الوعي المأساوي؟ (ص 234). ثم يضيف إلى ذلك السؤالين التاليين: “هل يمكن أن يوضع القدر بين قوسين؟ وهل يجوز الشك والتشكيك في مقاصده؟”، (ص 235).
معنى ذلك أن العروي تقدم كثيرا في طرح السؤال حول طبيعة جنس المسرح، ومدى إمكانية أن يستوعب مخاضات الواقع، وماضي وحاضر ومستقبل الناس إلى أن ذهب في التحليل إلى نتائج غير متوقعة، وخارج أفق الانتظار المشترك، ولذلك ظلت أطروحته حول المسرح غير معتبرة في التنظير المسرحي اللاحق. لقد مارس الأدباء العرب، في نظره، الأشكال التعبيرية، وضمنها المسرح والرواية “دون أن يشكوا لحظة واحدة في قيمتها العامة، وصلاحيتها لكل الأزمنة وكل البيئات”، (ص 247)، ودون أن يتساءلوا إن كانت هذه الأشكال قادرة على التعبير عن واقع تأخرنا التاريخي، ومطابقة لمرحلتنا التاريخية. وتكون، في نفس الوقت، ذات قيمة كونية حتى يفهمها كل البشر، ص 24 .ثم يضيف بأن النقاد قد أطنبوا “في مسألة سوسيولوجيا المضمون، دون أن يتساءلوا أبدا عن سوسيولوجيا الشكل”، (ص 234). نتيجة ذلك أقر العروي بأن شوقي لم “يكن بإمكانه أن ينزع عن التاريخ صفة الإطلاق”، وأن الحكيم لم يرتوِ من التراث العربي الإسلامي، ولم يغذ به أعماله، ص 238، لأنه عاجز عن مواجهة الأخلاق والسلطة القائمة والقدر. ونتيجة ذلك فالمسرح العربي عجز عن رصد الوضع المأساوي لأن المجتمع العربي “عجز باستمرار عن تزويد الشكل المسرحي بمضمون في مستوى المطلوب”. وبالتالي “لم يبق للمسرح من منفذ سوى الملهاة السوقية”، يقصد مسرح نعمان عاشور من خلال مسرحيتيه “الناس اللي تحت” و”الناس اللي فوق”، (ص 239).
وهذا تقييم لا أعتقد أن كتاب المسرح ونقاده يتفقون حوله اليوم. يخلص العروي، في ما يهم دراستنا، إلى تأكيد:
– إننا أضعنا الموعد مع الرواية والمسرح لتظل “الأقصوصة هي الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا المفتت المحروم من أي وعي جماعي”. (ص 243).
– إننا مدعوون بإلحاح إلى “التحلي بوعي نقدي”، أو بعبارة أخرى “إلى تجاوز مستمر للوعي التلقائي بالذات” (ص 254).
مهما يكن فموضوع هذه الدراسة ليس مناقشة مختلف الاجتهادات التي صاغها العروي الشاب. لكن ما يهمنا أساسا هو تأكيد أن أول من خالف العروي هو العروي ذاته حين أقدم على الإبداع مسرحيا من خلال “رجل الذكرى”.
ويهمنا كذلك التأكيد على أن المشترك بين هذا النص و”شيخ الجماعة” هو انخراطهما في زمن كتابة واحد، وتعبيرهما معا عن وعي نقدي مبكر بقيمة جنس المسرح. ثم اتفاقهما على عدم الرضى على تدبير الدولة لما بعد الزمن المباشر لحصول المغرب على الاستقلال.