ثورة المهاجرين في فرنسا

ثورة المهاجرين في فرنسا

محمود القيسي

“بالأمس بخلت في السكن
والان تبخل في الكفن
ماذا اصابك يا وطن؟”

تخيلوا انه لا يمكننا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي فهم سياسات هذه الأيام وفهم حركة الدول والمجتمعات المدنية وبرامج الاحزاب داخل السلطة والمعارضة وفهم حركة الحقوق المدنية وطبيعتها والمنظمات الغير ربحية والمنظمات الغير حكومية والدور الذي لعبوه ويلعبوه في المجتمعات وحقيقة أهدافهم الحقيقية ومن يقف أمامهم ومن يقف ورائهم!؟.. ﻳﺮﺟﻊ ﺍﻧﺸﺎﺀ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺪﻧﻲ كما يقول صاحب “العقد الاجتماعي” جان جاك روسو ﺇلى ﺃﻭّﻝ ﺭﺟﻞ ﻭﺿﻊ ﺳﻴﺎﺟﺎ ﺣﻮﻝ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﺽ، ﻭﺟﺮﺅ على ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ: “ﻫﺬه الأرض ﻣﻠﻜﻲ أنا” ﻭﻭﺟﺪ ﺃﻧﺎﺳﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺬﺍﺟﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺃﻗﺮﻭ ﻟﻪ ﺑﺬﻟﻚ… ﺗﺮﻱ ﻛﻢ ﻣﻦ ﺟﺮﺍﺋﻢ ﻭﺍﻏﺘﻴﺎﻻﺕ وحروب ومآسي، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻓﻈﺎﺋﻊ ﻭﺗﻌﺎﺳﺎﺕ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﺪﺭ ﺍﻟﺠﻨﺲ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﺃﻥ ﻳﺘﺠﻨّﺒﻬﺎ، ﻟﻮ ﺃﻥّ ﺭﺟﻼ ﻗﺎﻡ ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻓﺎﻧﺘﺰﻉ ﺍﻟﺴﻴﺎﺝ ﻭﺻﺎﺡ ﻓﻲ ﺭﻓﺎﻗﻪ: “ﺣﺬﺍﺭ ﺃﻥ ﺗﻨﺼﺘﻮ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﺪّﻋﻲ، ﻓﻠﺴﻮﻑ ﺗﻘﻀﻮﻥ على ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ ﺑﺎﻟﻀﻴﺎﻉ ﺇﻥ ﺃﻧﺘﻢ ﻧﺴﻴﺘﻢ ﻳﻮﻣﺎ ﺃﻥّ ﺛﻤﺎﺭ ﺍﻷﺭﺽ ﻣﻠﻚ ﻟﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌﺎ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻷﺭﺽ ﺫﺍﺗﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻷﺣﺪ”. يمكن للمجتمع المدني النشط أن يتحدى من هم في السلطة من خلال توثيق السياسات الفاسدة أو الكشف عن أنشطة مثل قمع الأعداء السياسيين. في الديمقراطيات، يتم تنفيذ هذه الوظيفة في الغالب من قبل وسائل الإعلام أو المنظمات المدنية المعارضة أو أحزاب المعارضة. حيث يقوم المجتمع السليم على ثلاث ركائز: الأعمال التجارية، والحكومة، والمجتمع المدني، أو المنظمات غير الربحية. لكل منها دور مميز ومهم يلعبه، ويحتاج الثلاثة جميعًا إلى العمل معًا بشكل تآزري لخلق أكبر قيمة للمجتمع.

وهكذا فإن الأسباب الكامنة للمجتمع تُزرع في طبيعة الإنسان، ونراها في كل مكان تأتي في درجات مختلفة من النشاط والازدهار، وفقًا للظروف المختلفة للمجتمع المدني. ووفقًا للمعايير الدولية، فإن العديد من سياسات بعض الدول لمفهوم المجتمع المدني نموذجية. ومع ذلك، هناك مخاوف بشأن القيود المفروضة على الحريات المدنية – لا سيما القيود المفروضة على حرية التجمع وبشأن المد المتزايد من “التنظيم اليومي” الذي أعاق بشكل خطير النشاط المجتمعي – من تنظيم ( الاندماج ) الاجتماعي “النموذجي” التي تهربت منه معظم الدول الكولونيالية وخصوصًا داخل بلدانها، والتعامل مع المهاجرين إليها من مستعمراتهم “السابقة” على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية في أحسن تقدير والدرجة الثالثة والرابعة في معظم الأحيان. نعم، (فتحت أمامهم الأبواب واقفلت عليهم النوافذ).. فتحت أمامهم الابواب بشكل مدروس ومبرمج نظرًا للمهارات والتكلفة الزهيدة في الدخل والخدمات البسيطة من تعليم وطبابة وحقوق مدنية شبه معدومة وغيرها.. فتحت الأبواب وأقفلت النوافذ في مناطق الإسكان والمساكن الشعبية داخل الضواحي البعيدة وشبه المعزولة عن المجتمع الأساسي والرئيسي و(المدينة) عمومًا.. نعم، أقفلوا منافذ (الضواحي) البعيدة عن مفهوم المدينة والمدنية واعتبار مواطني تلك الضواحي الفقيرة مجرد سلعة يستخدمونها في الداخل عند الحاجة والخارج عند الضرورة. نعم، الضرورة التي بدأ ينقلب معها السحر على الساحر لرغبة اليد الخارجية العليا في الحجر على مواقف القارة العجوز وخصوصًا فرنسا الفرنكوفونية ودفعها في أتون الحروب الوجودية.

صحيح إن الاستعمارُ العسكري انتهى في مناطق وبلدان عديدة، ولكن بُليت شعوب كثيرة باستعمارٍ شر منه هو الاستعمار الفكري والاجتماعي.. كتب غاندي يومًا “كلما قام شعب الهند بالإتحاد ضد الاستعمار الإنجليزي, يقوم الإنجليزي بذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين, لكي ينشغلوا بينهم بالصراع ويتركوا الاستعمار جانبًا!.. قبل ستين سنة نالت 14 دولة إفريقية الاستقلال عن فرنسا. اليوم لا تبدو علاقة باريس بالقارة السمراء في أفضل أحوالها. تطلق اتهامات فحواها استمرار الاستعمار، ولكن بلبوس جديد.. جردة حساب للعلاقة بين الطرفين.. الحرية والارتياح والأمل.. هذا ما كان يجب أن يكون عليه شعور ملايين الأفارقة قبل ستين عاماً عشية أنتهاء الاستعمار الفرنسي عن بلدانهم الام. كانت الجزائر أول بلد إفريقي تحتله فرنسا. وبعدها جاء دور منطقة الساحل وجزء كبير من غرب ووسط القارة السمراء. واستغرق الأمر سنوات طويلة حتى كُسرت قيود الاستعمار. ملايين الأفارقة عانوا وقضوا بيد الفرنسيين وخصوصًا الشعب الجزائري الذي قدم 1.5 مليون شهيد. “بعد ستين عاماً لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالًا حقيقيًا ولا حرية حقيقة”، تقول ناتالي يامب، المستشارة لحزب “الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج”، وتضيف أن الأمر يبدأ من المدارس التي تُقرر مناهجها في فرنسا، وتستطرد قائلة ماكرون أسوء الرؤساء الفرنسيين فيما يخص العلاقة مع المستعمرات السابقة.. (رحل الاستعمار وبقيت شركاته). وتشبهه بشارل ديغول من جهة إخفاء النوايا الحقيقية، على حد تعبيرها.

نعم، لا يمكننا في عصر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي “السياسي” كما أسميها من استيعاب سرعة وأهمية “تنزيل” وتشغيل ومشاهدة وانتشار برامج “اليد العليا” ونظرية مؤامراة الذكاء الاصطناعي الأعلى في النظرية والتطبيق.. مجرد مقطع تجاوز الفتى “نائل” لحاجز الشرطة الفرنسية بسرعة وتعرضه لإطلاق نار من مسافة قريبة من أحد الشرطيين، لتنتهي الحادثة باصطدام السيارة بحاجز جانبي، وعدم تمكن الإسعاف من إنقاذ الفتى قبل وفاته. نعم، مجرد مقطع يلف ويدور على السوشيال ميديا حتى تتحول العاصمة الفرنسية باريس والعديد من المدن والضواحي في فرنسا إلى بؤرة للاحتجاجات الواسعة والعنيفة خلال الأيام الماضية، حيث خرج آلاف المتظاهرين للاعتراض على عنف الشرطة الذي تسبب بمقتل الشاب “الفرنسي” من أصول جزائرية. ولإن كانت الشوارع الفرنسية قد هدأت الآن قليلا، إلا أن الأحداث المتفجرة، فتحت من جديد ملف الضواحي الفرنسية، وما تعانيه من إهمال وتهميش، على مدار سنوات، أديا إلى تفشي البطالة والفقر بين سكانها، وكلهم من أبناء مستعمرات فرنسا السابقة المهاجرين إليها. وأعتبر بعض المغردين أن ما يجري هذه الأيام يُعتبر رد فعل على طريقة تعامل السلطات الفرنسية مع أبناء الجاليات، وعدم تطبيق العدالة في التعامل معهم وفق وصفهم. ويقول احد المغردين أن ما يجري يعود في أسبابه إلى فشل الحكومة في دمج المهاجرين وإعطائهم الفرصة لأن يكونوا فاعلين في المجتمع الفرنسي، وهو ما أدى إلى ظهور (مجتمعات موازية) داخل فرنسا في حين قال مغرد أخر إن ما يجري في الشوارع الفرنسية يشبه إلى حد كبير مظاهر (الحرب والإنفلات الأمني الكبير)…!

ووفقًا لخبراء نقلت عنهم وكالة الأنباء الفرنسية، فإن الأحداث الأخيرة، كشفت عن قصور في سياسة تطوير مناطق الضواحي، في حين مازالت تراهن فرنسا منذ 30 عاماً، فيما يعرف بسياسة “المدينة”، على تحديث الأحياء الشعبية، وهي سياسة اعتبرها البعض “مفيدة، لكنها غير كافية” لاحتواء مشكلات الضواحي، ويعتبر بعض المنتقدين أن تلك السياسة، ركزت على الشكل الظاهري للضواحي، دون أن تركز على علاج المشكلات الاجتماعية والإنسانية. وفي أول برنامج لها بين عامي 2004 و2020، أنفقت الوكالة الوطنية للتحديث الحضري ميزانية كبيرة، استُخدمت في هدم صفوف الأبنية الشاهقة، في الأحياء التي (تحظى بالأولوية)، لتشييد أبنية أصغر، وفيما ((نجحت هذه السياسة في تغيير وجه عدد من الضواحي الفرنسية))، عبر تحسين وسائل النقل العام التي تصلها بالمدن، وتشييد مباني حديثة، فإنها (((لم تنجح في وضع حدّ للتمييز العرقي، ومستويات الفقر المرتفعة والتهميش الاجتماعي))). وتشير عدة تقارير، إلى أن ما ظهرت عليه الشوارع الفرنسية من عنف، يؤشر إلى حالة من الاحتقان المتراكم، في أوساط سكان الضواحي الفرنسية والذي يجد شرارة توقظه من وقت لآخر، مع ارتكاب الشرطة الفرنسية لحوادث مشابهة، للحادث الأخير الذي قتل فيه الفتى الجزائري الأصل نائل. وفي تقرير بصحيفة الجارديان البريطانية، تعليقًا عى ماحدث، تقول الكاتبة “رقية ديالو”، إن السلطات الفرنسية، تجاهلت عنف الشرطة العنصري منذ عقود، وهي تدفع الآن الثمن. وتشير الكاتبة إلى أن عدد حالات وحشية الشرطة، يتزايد بلا هوادة كل عام في فرنسا، وأنه وفقًا لمنظمة المدافعين عن الحقوق، فإن الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم من السود، أو من أصل شمال أفريقي، أكثر عرضة بنسبة 20 مرة لعمليات التحقق من الهوية من قبل الشرطة، مقارنة بباقي السكان في البلاد التي يفترض أنها مهد لحقوق الإنسان!

وهنا يطرح سؤال نفسه تلقائيًا وبشكل عابر: “هل ما يجري في فرنسا مجرد حادث عابر.. مجرد سيارة عابرة.. يقودها فتى جزائري/فرنسي عابر.. تجاوز نقطة تفتيش عابرة.. وتعرض إلى إطلاق نار عابر.. أو تعرض إلى رصاصة طائشة.. من شرطي فرنسي طائش.. أدى الى مقتله وأطلق شرارة ثورة المهاجرون الموازية العابرة.. ونشر أكثر من 45 ألف شرطي عابر.. لمحاولة السيطرة على مظاهر العنف الدموية العابرة.. والدمار والحرائق العابرة.. وأعداد الضحايا المهولة العابرة.. من قتلى وجرحى ومعتقلين واحدث كبيرة عابرة.. والتي لا تشبه في عنفها المتبادل العابر.. سوى الحروب الاهلية العابرة!؟..

نعم، ما يجري في فرنسا ليس بحادث عابر، وسيارة عابرة، وفتى مهاجر عابر، ونقطة تفتيش عابرة، وشرطي عابر، ورصاصة عابرة، أو رصاصة طائشة أشعلت ثورة غير طائشة أصابت الجمهورية الخامسة في رأسها ووضعتها في غرفة العناية المركزة بين مبضع جراح من (اليمين الليبرالي) من ناحية ومشرط جراح من (اليمين المتطرف) من الناحية الأخرى.. ما يجري في فرنسا إحتقان متفاقم نظرًا لاستفحال الظلم، والقهر، وتغوّل أجهزة الأمن، والظروف المعيشية اللاإنسانية التي يعيش في ظلها المهاجرون، وخاصّةً من أصول عربية وأفريقية. فرنسا التي باتت أحد أبرز مراكز العنصرية، والكراهية، والإسلاموفوبيا، في القارة الأوروبيّة، والذي جاء مقتل نائل مرزوقي بمثابةِ المُفجّر لاحتقان مكتوم بلغ ذروة التضخم والانفجار وبات (ممر) أمني مشبوه (للبعض) المستفيد داخليًا في وراثة جمهورية الجنرال ديغول الخامسة!؟.. هذا إن لم يكن ممر (عميق) في خدمة مصالح خارجية (عميقة عليا) وعند العرض والطلب.. وخصوصًا في ظل تداعيات (الحرب العالمية الثالثة) في أوكرانيا أكبر دولة في أوروبا الشرقية.. بل أكبر دولة في القارة الأوروبية قاطبة!!!

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني