الخدعة الوطنية والنفاق السياسي

الخدعة الوطنية والنفاق السياسي

حسين قاسم

        عند الحديث عن “القضية الوطنية” لشعب ما، فإننا نشير إلى النضال السياسي والاجتماعي والثقافي، من أجل تحقيق حقوقه الوطنية وتطلعاته السيادية. القضية الوطنية تشمل عادةً جوانب مثل الاعتراف الدولي، الحق في تقرير المصير، والسعي لإنهاء الاحتلال أو الاضطهاد. 
   في حالة الشعب الفلسطيني، القضية الوطنية تعبر عن تحرير الأراضي المغتصبة. تلك القضية التي تطورت عبر مراحل مختلفة لتشمل أيضًا النضال من أجل حقوق الإنسان، العدالة، والعودة للاجئين وفقًا للقرارات الدولية، والسيادة وبناء الدولة المستقلة. المفهوم ذاته جرى مع أغلبية شعوب المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية. 
   كان يُقاس نجاح القوى السياسية أو فشلها بمقدار اقترابها أو ابتعادها عن صلب القضية الوطنية ومدى الانخراط فيها. بعد سلسلة الإنجازات التي شهدتها مرحلة التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، برزت ظاهرة الخدعة الوطنية التي اجتاحت دول شرق أوروبا التي أُقيم فيها أنظمة ديكتاتورية باسم التحرر والاشتراكية، والأخطر منها ما حصل في العالم العربي حيث أُقيمت أنظمة ديكتاتورية، قمعية، فاسدة، مُستبدة، في سوريا والعراق واليمن ومصر والسودان وليبيا والجزائر. لتتلقى هذه الأنظمة هدية ثمينة على طبق من فضة، وهي القضية الفلسطينية لتصبح شماعة لتلك القوى، لترتكب باسمها كافة أشكال المجازر والقمع والإرهاب المنظم بحق شعوبها وبحق الفلسطينيين، لتبلغ أفعالهم الذروة برفضهم إقامة دولة فلسطينية بحجة تحرير فلسطين إلى تسليم ما بقي من الأراضي الفلسطينية التي نص عليها القرار الدولي الرقم 181 من أجل إقامة الدولة الفلسطينية إلى الكيان الغاصب، وأطلقوا شعار النفاق الوطني على هزيمة حزيران من العام 1967، النكسة بديلًا عن الهزيمة، بأنهم خسروا الأرض لكنهم ربحوا القضية، خير تعبير أتى من كمال جنبلاط قائلًا: “ليتهم خسروا القضية وبقيت الأرض”، قصدوا بكلمة القضية بقاء الأنظمة، والمؤسف أن تلك القوى ما زالت تعيش على فتات تلك الخدعة الوطنية. 
   مرت القضية الفلسطينية بتعرجات هائلة ناتجة عن جذرية الشعار الصهيوني المعادي والمدعوم من القوى الكبرى على رأسها أمريكا، يقابله هشاشة مشاريع قوى المواجهة على مختلف مشاربها، فالهدف الإسرائيلي كان ولم يزل، ليس فقط احتلال الأراضي الفلسطينية، بل إزالة الهوية الفلسطينية من جذورها، يُقابله محاولات جمال عبد الناصر بناء مجده من المحيط إلى الخليج وليس تحرير فلسطين، جاراه بذلك أحزاب البعث والقوى القومية، لدرجة أن حافظ الأسد مات وهو يحلم بوضع اليد على الورقة الفلسطينية كورقة رابحة من أجل فرض زعامته على المشرق العربي وخليجه، وكذلك فعل صدام. لكن بلغت الخطورة أشدها عند محاولات إيران مد نفوذها إلى المحيط العربي، فلم تجد أفضل من الشماعة الفلسطينية، وهنا الطامة الكبرى، فكانوا هم والإسرائيليون خصوم يكملون بعضهم بعضًا في القضاء على القضية الفلسطينية وتجزئتها، وهنا حصل الفصل الأخطر على الفلسطينيين، هدف إسرائيل القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية، وهدف إيران إسلمتها وسلخها من عروبتها تمهيدًا لوضع اليد عليها، هذه الخطة المستمرة حتى اليوم، وبهذا الإطار لا يمكن إعفاء السلطة الفلسطينية من أخطائها الجسيمة في المسار من أوسلوا حتى الآن.
   أما عن القضية الوطنية اللبنانية وفق التعريف السالف للقضية الوطنية، فبدا الأمر أن مفهومها معقدًا، لكن بحقيقته أن بعض النُخب عقدَّتهُ، ربما قصدًا، والبعض الآخر أتى من جانب القوى الطائفية بهدف الاستمرار والتعبئة. فاليسار، منذ ما بعد هزيمة حزيران 67، تبنى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية ببعدٍ قومي، لا سيما أن الانتماء الوطني اللبناني لم يكن قد تبلور بعد. لكن دخول العامل الإسرائيلي على الوضع اللبناني الذي انفجرت فيه حرب أهلية شاملة، أعطى بداية مفهوم للوطنية اللبنانية بالتصدي للعدو الإسرائيلي ليكتمل العقد الوطني بوضوح بارز بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، وانطلاقة مقاومة وطنية نقية لمقاومة المحتل الغازي كمهمة لا يعلوها أي شيء، وأقرنت القول بالفعل حتى تحرير العاصمة بيروت وأكثرية الأراضي اللبنانية. رغم دخول عوامل إقليمية ودولية نالت من الصفاء الوطني لمقاومة المُحتل الإسرائيلي، إنما استمرت المقاومة في وجدان أكثرية اللبنانيين، حتى اندحر العدو عن الأراضي اللبنانية كافةً، في أيار من العام 2000. من هذه النقطة بدأت مسيرة أخرى في مسألة المقاومة، بدأت بافتعال موضوع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لتتوضح المسألة كاملة بعد حرب العام 2006 بأن المهمة الحقيقية للمقاومة هي ردعية للعدو. بهذا الإطار، فلو افترضنا أن ذلك صحيحًا وكي لا ندخل في جدال عقيم، لا سيما أن حرب المشاغلة الجارية على الجبهة الجنوبية، لم تُثبت أن المقاومة التي صار لها طابع آخر، أنها حمت لبنان وجنوبه من الاعتداءات الإسرائيلية، وبالتالي فإن حجة الردع سقطت بصرف النظر عن ما ستؤول إليه المعارك الجارية حاليًا. وبناءً عليه، تكون القضية الوطنية اللبنانية بمعناها السالف، أي بما هي تحرير الأرض، وتحقيق السيادة، والحقوق الوطنية للشعب اللبناني، تكون غير مكتملة الشروط، لا بل أن ما جرى هو تنازل من قوى المقاومة بصيغتها الراهنة عن الثروة الوطنية اللبنانية في البحر للعدو الغاصب، ترافقت تلك المسيرة بأن هذه القوة تعمل لصالح دولة أجنبية لها طموحات في الإقليم والقيمون عليها لا ينفون ذلك بل يؤكدونه باستمرار.
   بيد أن ثمة فوارق جمة بين الوضعين اللبناني والفلسطيني، في فلسطين شعب مُحتل يواجه الاحتلال بالوسائل التي يراها مناسبة، وهو حُر بذلك، وفي لبنان قتال خارج أطر الدولة ومؤسساتها الدستورية، ودون الشرعية الوطنية الشعبية التي توفرت عند الاحتلال، تاليًا فإن المواقف تختلف حُكمًا بين التضامن مع شعب له قضيته الوطنية وبين حرب مشاغلة أو مساندة لا تتمتع بشروط وعوامل مشابهة ومتعارف عليها.
   من المفيد إضافة خاتمة للسياق الطويل الممل، بعد الاعتذار للاطالة، للقول بأن التعقيدات البادية في الوضعين الفلسطيني واللبناني بشكل متزايد بفعل التدخلات الأجنبية والتغيرات الإقليمية، حيث تشهد المنطقة تحولات جيوسياسية ملموسة تؤثر بشكل مباشر على النضالات الوطنية. ففي الوقت الذي تسعى فيه القوى العظمى لإعادة تموضعها في الشرق الأوسط، يبقى الشعب الفلسطيني يناضل من أجل الاعتراف الدولي وحق تقرير المصير في ظل الاحتلال الإسرائيلي المستمر، بينما يواجه لبنان تحديات متعددة تتراوح بين الأزمات السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية التي تؤثر على سيادته واستقلاله.
ان الاوضاع في كلا البلدين تكتسب أهمية متزايدة في ضوء التحديات الجديدة مثل التغير المناخي، الأزمات الاقتصادية، والجائحات الصحية التي تلقي بظلالها على قدرة الشعوب على النضال من أجل حقوقها. هذه العوامل تضيف طبقة من التعقيد تتطلب استجابات مبتكرة ومستدامة لضمان أن تبقى القضايا الوطنية ذات صلة وتأثير في سياقٍ متغير، للخلاص من ازمنة الخداع والنفاق الوطني.
   بهذه الطريقة، يمكن للنضال الوطني أن يتكيف مع العصر الجديد، معتمدًا على استراتيجيات تأخذ في الاعتبار الديناميكيات الجديدة وتركز على بناء التحالفات الدولية والإقليمية التي يمكن أن تعزز القضايا الوطنية بطرق تراعي التعقيدات الحالية وتستشرف المستقبل.
Visited 217 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسين قاسم

ناشط وكاتب سياسي لبناني