الامتحان المدرسي والحاجة إلى العقل!
الصادق بنعلال
“خاطبتُ” في الأسبوع الماضي عبر مقال صحفي موجز، رؤساء لجان الامتحانات الجهوية والوطنية، أذكرهم بأولوية احترام روح الأطر المرجعية واللوائح البيداغوجية ذات الصلة، لتفادي هنات وهفوات نحن في غنى عنها. ومما لا شك فيه أن هذه الأطر تلح إلحاحا على التعاطي الفعال والراجح مع مفردات الامتحانات الإشهادية، كي تكون مطابقة للدروس المقررة، ومتوفرة على المواصفات التقويمية المخصوصة، من قبيل الوضوح والتدرج والشمولية .. وإذا اقتصرنا في التوضيح على مادة اللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر، بالنسبة لفروض واختبارات المستويات الإشهادية على وجه الخصوص، فإن الأمر يحتاج إلى قدر من الشرح، إذ أن مادة اللغة العربية مثلها مثل باقي اللغات الأخرى، تتشكل من مجال النصوص والأسئلة المرفقة بها، التي تخص في الغالب مراحل ملاحظة النص والفهم والتحليل والتركيب، ومجالي اللغة والتعبير. ويظل النص المقترح على التلميذات والتلاميذ الممتحنين هو حجر الزاوية أو مركز الثقل، لذلك ينتظر أن يستوفي كل الشروط التي تمنح له خصائصه الثابتة، من اختيار موفق وهادف، وتوثيق محكم وتصرف سليم في معجمه إذا اقتضى الأمر، كي يكون واضحا جليا في مبناه ومعناه.
سبب نزول هذا “الحديث” هو إشكال مادة اللغة العربية – الامتحان الجهوي الموحد الخاص بالسنة الأولى من سلك البكالوريا – الدورة العادية 2024 – جميع الشعب العلمية والتقنية/ أكاديمية طنجة – تطوان – الحسيمة. لقد عاد السادة مسؤولو لجنة الامتحان الجهوي إلى نفس المفهوم الإنساني الذي اقترحوه على تلميذات وتلاميذ الدورة العادية من السنة الماضية، والذي كان بعنوان “مفهوم الحداثة” للكاتب المغربي الراحل محمد سبيلا، وجاء نص الاختباري الحالي 05/06/2024 بعنوان “في معنى الحداثة” المقتطف من كتاب “جدلية العقل والمدينة في الفلسفة المعاصرة” للكاتب المغربي محمد المصباحي. وإذا كان من حق هذه اللجنة المحترمة أن تقترح نفس المفهوم في موسمين مدرسيين متتاليين، إلا أن مقرر اللغة العربية بالنسبة لمستوى الأولى بكالوريا علوم، يتضمن أربع مجزوءات: أنواع الخطاب (الصحافة والإشهار) وقضايا معاصرة (التنمية والتكنولوجيا)، ومفاهيم إنسانية (الحداثة والتواصل) والقيم (التضامن والتسامح) في هذه السنة الاستثنائية، مما يعني من جملة ما يعني أن مجال الاختيار فسيح وشاسع، لكن “الرغبة” تسير في اتجاه دون اتجاهات أخرى وما أكثرها، وليس الشعر بقيمه الرفيعة إلا واحدا منها!
لكن حتى إذا سايرنا السادة الأساتذة الذين “سهروا” على تنزيل هذا الموضوع/المفهوم المعاد أكثر من مرة، فإن ما أثار استغراب واندهاش المعنيين بالشأن التربوي المحلي، هو نوعية النص الذي يقترب من الخطاب الفلسفي بصيغته المركبة شبه الغامضة بالنسبة لتلاميذ في مستوى تعليمي لا يسمح لهم بفهم مضامينه ومعانيه، بفعل أسلوبه بالغ التعقيد وفذلكة لغته وبنيته الاستدلالية المتينة، إلى درجة أن بعضا من هؤلاء التلاميذ أمضوا وقتا طويلا جدا في قراءته دون أن يستطيعوا اقتحام “أسواره” الدلالية، مما انعكس سلبا على التعاطي الإيجابي مع أسئلته، فضلا عن مكون التعبير والإنشاء. والواقع أن هذا النص يفتقد إلى معيار الوضوح والبساطة المطلوب، وإذا كان لا بد من “الرقص” مرات ومرات على “جسد الحداثة” فليكن من خلال نصوص سهلة المنال قريبة لإدراك المتلقين ومستواهم المعرفي المحدود، وليس بالاستناد إلى نص مأخوذ من مؤلف خصص لعرض رؤى فلسفية حول العقل والتاريخ لعمالقة الثقافة العربية الحديثة (محمد أركون، حسين مروة، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري ..). أليس من التهافت وسوء التقدير أن ننتظر من تلاميذ لا يتجاوزون ست عشرة سنة، أن “يفهموا ويحللوا ويناقشوا” ما يلي:
1 – إن الجديد في العقلانية الحداثية، إذن، هو قيامها على الذات الفردية، التي تفكر في استقلال عن المذاهب الإيديولوجية..
2 – يؤدي سريان روح الديمقراطية في جسد الحداثة إلى الحد من طابعها الشمولي..
3 – من هنا تأتي علاقة الحداثة بالزمن، فهي شعور الإنسان بالحضور والمعاصرة..
4 – فقد اتسمت الحداثة بالتاريخية والتطور والنسبية، والوعي القلق بالزمن ..
5 – الحداثة، من جهة ثانية، فعل إحداث شامل مس العقل والذات والوجود، والقيم والوقائع، وغير كل مرافق الحياة البشرية تغيرا جذريا..
وبعد، هل هذه التعابير الفلسفية الموغلة في التعقيد والعمق النظري، وهذه اللغة التنظيرية “التكعيبية” البعيدة كل البعد عن “الكفاية الثقافية” للمتمدرسين تحبب إليهم المنجز المعرفي، وتمضي بهم قدما نحو متعة القراءة والإبحار في محيط العلوم، أم أنها ستبعدهم عن كل ما يحيل إلى “عالم الفكر والمعرفة”!؟