مثل ضياع إبرة وسط كومة تبن!

مثل ضياع إبرة وسط كومة تبن!

عبد الرحمان الغندور

     بالمناسبة وبدونها، أكتب عن ما يخالجني من خيبة وإحباط بعد مرور عقدين من حكم محمد السادس، رغم ما تحقق فيهما من إنجازات كمية اقتصاديا من حيث إنتاج الثروة وفقيرة اجتماعيا من حيث توزيعها، وتخريبية ثقافيا وأخلاقيا من حيث نشر قيم التهافت والتسول والاستجداء. حتى أصبحنا نعيش زمنا موبوء الطعم، وبائي الذوق، ميكروبي النفس، وفيروسي الحال والأحوال.

قدري أني عشت تحت حكم ثلاث ملوك، فقد أدركت وعمري خمس سنوات لحظة استقلال المغرب، إلى جانب والدي المقاوم، والاستقلالي حتى النخاع، ومن خلال هذه اللحظة عرفت محمد الخامس واستبطنت الصورة التي كانت لدى غالبية المغاربة، صورة الملك المجاهد الذي قاد مسيرة الاستقلال، وفضل النفي عن الخضوع للاستعمار، والذي حيكت حوله أساطير لدرجة التقديس الذي جعله يظهر على وجه القمر.

وعشت يوم وفاته (26 فبراير 1961) بألم كبير، وتظاهرت مع أقراني وعموم المغاربة في الأزقة نردد “يرحم الله الخامس، ينصر الله الحسن”.

وفي عهد الحسن الثاني، عشت 38 سنة من حكمه، بكل تلاوينها وملابساتها وتحولاتها وصراعاتها، ففيها تبلورت قناعاتي السياسية منذ السنوات الأولى لحكمه، إذ وجدت نفسي دون قرار مني، منخرطا في صفوف المعارضين لنظامه السياسي، بمختلف أشكال المعارضة التي انتقلت من المفاهيم الثورية الجذرية ضد النظام، إلى مفاهيم التغيير الجذري لأساليب الحكم، إلى مرحلة السعي إلى دمقرطة الدولة والمجتمع، مرورا بمفاهيم غامضة عن التعايش والتمازج والتوافق التي أدت في نهاية المطاف إلى التناوب التوافقي الذي أدى إلى هيمنة منظومة الحكم على العمل السياسي وإحكام مخارجه ومنافذه ومغالقه.

وخلال كل هذه الانتقالات المفاهيمية، وما صاحبها من تجاذبات بين القمع والانفتاح، وبين التهديد والاغراء، وما تعرضت له نخبة من جيلي والجيل الذي سبقني، من هجمات مست الأرواح والحريات والأرزاق، وكان لي نصيب منها. خلال كل هذا، كان الصراع السياسي متأججا بين “منظومة المخزنة” و”منظومة الدمقرطة”، والذي بلغ فيه النظام السياسي، بكل آليات الإكراه والإغراء التي استعملها، إلى تمرير معارضيه الجذريين من مرحلة الاستئناس والتعايش مع منظومته، إلى استبطانها والتماهي معها،لينتهوا مباركين لها وعاملين على إعادة إنتاجها، مما حول الصراع السياسي بين المنظومتين، إلى صراع بين الفاعلين السياسيين، حول من يخدم منظومة المخزنة بكيفية أحسن، وأصبح التنافس الانتخابي بين من ينفذ برامج هذه المنظومة بصورة أفضل، بفضل التخلي النهائي عن برامجه ومعتقداته و “إيديولوجيتة”.

لقد مرت 38 سنة من حكم الملك الراحل، بالنسبة لجيلي على الأقل، كمن يبحث عن إبرة في كومة من التبن Rechercher une aiguille dans une botte de foin ففكر في إحراق التبن في بداية الصراع، لينتهي الأمر بنخبة من أصحاب “فكر المحرقة” إلى أن يكتفوا بأكل نصيبهم من التبن، ويحرصون على المزيد من إنتاج تبن جديد لأتباعهم، مع النسيان التام للإبرة والبحث عنها. ناكرين أحيانا وجودها، وغارقين في التنظيرات التبريرية لما يجري.

رحل الحسن الثاني قبل أزيد من عقدين بقليل، تاركا المغرب والمغاربة على هذا الوضع. ومع اعتلاء محمد السادس، وخطبه الأولى، وما اشتملت عليه من إشارات وتلميحات استقبلها المغاربة بنوع من الترقب في “عهد جديد ” يعيد الأمل في تأكيد وجود ” الإبرة / المفتاح وسط التبن المتراكم وتجديد البحث عنها من طرف كل مكونات المشهد السياسي / الاجتماعي، من المؤسسة الملكية إلى باقي الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والثقافيين والجمعويين.

كبرت انتظارات المغاربة، وكبر الأمل في مجتمع العدالة والحرية والكرامة والمساواة، وكلما اتسعت دائرة الأمل اتسعت معها دائرة الاحباط والخيبة. حتى جاءت أكذوبة ما سمي بالربيع العربي، وهبت رياحها مع أكبر حركة اجتماعية احتجاجية حضارية، أنتجها المغرب المعاصر، حركة 20 فبراير 2011، فتناثرت كومة التبن، وتعرت الأشياء، وظهرت الابرة / الأمل تندد بما تغول في السنوات الأولى من العهد الجديد، من فساد سياسي واقتصادي ومالي وإداري، وانكشفت رموزه، وتمت تعريتها في الشارع العام، وأصبحت الحلول واضحة لا غبار عليها تتجلى، ليس في الانتقال الديمقراطي، بل في إقامة فورية لديمقراطية حقيقية تحقق المواطنة الكاملة غير المنقوصة لكل المغاربة، وتبني دولة تكون الكلمة العليا فيها للقانون الذي يضمن الحقوق ويحرص على الالتزام بالواجبات للجميع، ولا يجعل أيا كان فوق المحاسبة.

واعتقدنا، أن هذه الطموحات “العادية جدا” قد عبر عنها خطاب 9 مارس 2011، وعبر عنها إلى حد ما دستور فاتح يوليوز الذي دخل ثلاجة الانتظار لتتجمد الكثير من عناصره الايجابية، وصدقنا أن مرحلة جديدة قد بدأت تؤسس فعلا لعهد جديد، وأننا سنتخلص ديمقراطيا من الأسباب العميقة التي كانت وراء تخلفنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى رأسها الفساد ومن يحميه من مؤسسات وأشخاص. وأن المغرب سيعيش التنافس المثمر بين برامج الأحزاب والتكتلات والفعاليات، وأن الانتخابات ستصبح معيارا لتتويج من يستحق، ومعاقبة من “يفرط “.

لكن الرياح التي شتت كومة التبن، ستتحول إلى أداة استجماع ما تشتت من قش، وإعادة هيكلتها بصورة أكثر قوة وتماسكا، وأن مؤسسة الفساد ستعود، لا للتأثير في القرارات، بل لتصبح قوة حاكمة، من خلال زواج المال بالسياسة، والتحكم في المؤسسة التشريعية، واستصدار القوانين التي تحمي مصالحها، والتغول في المؤسسة التنفيذية والتخلي الفاضح عن التزامات الدولة الدستورية في مجال الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وسكن لائق وتشغيل… الخ

وأمام هذا الوضع لا يسعني كواحد من هذا الجيل الذي عاصر الملوك الثلاثة، سوى التأكيد على أن ما نعيشه عشية ثالث انتخابات بعد انتفاضة 20 فبراير ليس سوى المزيد من تعميق الفوارق الاجتماعية، ومعها مختلف أشكال العنف، المادي والرمزي واحتقار المواطنات والمواطنين، أمام هروب واضح للنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى مناطق الريع والغنائم، مما زاد من تعميق عدم الثقة في الوطن والمستقبل، وانفراط عقد الأمن والأمان، بسبب تكالب المافيات المختلفة على عناصر الاستقرار، وإحكام قبضتها على إمكانات التغيير الممكن نحو مغرب آخر، وفرملة كل المحاولات القادرة على تعبيد طريق جديد، أو تخريبها بمختلف الوسائل من تبخيس وتمييع ونشر للتفاهة والرداءة في كل مناحي الحياة. مما جعل أجزاء واسعة من “النخب” تحول وجهتها إلى تحصيل المغانم بدل التفكير في اقتراح البدائل.

لقد تحول الحلم بغد أفضل، إلى كابوس يقض المضاجع وينغص الحياة، بفعل هذا التحول الرهيب في بورصة قيم حقوق الإنسان وقيم المواطنة التي لم يعد لهما معنى، وأصبحت مجالا للمتاجرة والمزايدة والسمسرة… مما ضاعف من الهجوم على الأصوات الحرة وتكميم الصحافة الجادة لتعوضها الأبواق التي لا هم لها إلا ما تجنيه من أرباح…

لقد تأكد بالملموس غياب إرادة تجديد العقد…عقد العيش المشترك والتعايش الآمن في وطن يسع الجميع.

عشت عهود، ثلاث ملوك، وكلي أمل طيلة هذا العمر، في أن أرى المغرب على الوجه الذي يجعلني أفتخر به… وصدقت الرسائل والتلميحات التي أتى بها العهد الجديد، لكني وجيلي والأجيال التي أتت بعدنا، لا يسعنا إلا أن نعبر بصدق عن مدى خيبتنا، وانهيار ثقتنا، وتضاؤل أملنا في أن يتشتت التبن ذات يوم لنجد “الإبرة/ المفتاح/ الأمل من جديد.

Visited 214 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي