إيقاع الفتنة
الياس خوري
قالت: «أين سنذهب بعد الخروج من المستشفى؟».
قلت لها: «إلى بيروت».
«نحن في بيروت»، قالت.
«لا، هذه ليست بيروت. هذه أحد أشباح بيروت، وأنا أريد المدينة لا أشباحها».
أشباح تختلط ببعضها فنصير في مكان وهمي لا نعرف أوله من آخره.
هذه البيروت لا تعنيني. فأنا صرفت كل عمري دفاعاً عنها، لأجد في النهاية أنني لم أدافع سوى عن أوهام وأشباح.
كيف تستطيع مدينة أن تتحلل بهذه السرعة وقد اقتضى بناؤها عشرات السنين؟
كيف لي أن أجدها بين الخراب؟
أنظر من نافذة المستشفى فأرى ما يشبه الشوارع والسيارات. إنه عكس ما رأيته في المرة التي خرجت فيها من المستشفى إلى البيت.
يومها بكيت دموعاً حقيقية، أما اليوم فأخاف أن أبكي دموعاً وهمية كي تراعي المكان، لذا توقفت عن البكاء.
مدينة بلا بكاء. والبكاء علامة الحياة، به نغسل عيوننا وقلوبنا من الأسى ونجدد حياتنا.
أما المدن التي تنتزع البكاء من عينيك فتقتلك وتجعلك ناشفاً وعاجزاً عن الحركة؛ لأن أية حركة سوف تكسرك إلى أشلاء.
فالدموع هي كؤوس نذرفها ونشربها فنقاوم بها موتنا وانكساراتنا.
المدن الساحلية ليست فقط مخازن للدموع، بل تمتد عبر البحر الأبيض بكل ما فيه من جماليات وقسوة وحزن وموت.
الذين ماتوا في البحر على قوارب الهجرة والذين نجوا بعد معاناة طويلة يكتشفون أن البحر لم يكن سوى دموع الله وقد تقطرت بدمائنا.
نحن أبناء الحرب الأهلية التي لم تنته إلا على شكل احتمالات حرب. نحن عشنا لأننا بكينا كثيراً وصبرنا وحولنا دموعنا إلى وسائد لرؤوسنا.
كنا نتساءل كيف تحول هذا البحر إلى مقبرة؟ فحتى الماء صار مقابر جماعية.
منذ نهاية الحرب ونحن نبحث عن البحر. لا مدينة متوسطية بلا بحر، بحر يحميها وتحميه. هنا، حرمنا من البحر، إذ صار المشهد مخيفاً ومقفلاً.
البحر المطلق، بحسب محمود درويش، ينسد في العتمة ويقفل أبوابه. وبلا بحر، تصبح بيروت صغيرة وبلا فتنة.
«فتنة بيروت هي بابها المفتوح على إيقاع الموج»، هذا ما كتبته سابقاً كي ألتقط نكهة المدينة. المدينة اليوم بلا نكهة. لذا وجب أن نستعيد بحرها كي نستعيدها ونستعيد قدرتنا على البكاء.
الآن أفهم معنى البكاء على الأطلال عند العرب. فالبكاء كان وسيلتهم لإنعاش قلوبهم بالحب وبناء إيقاع حياتهم بالشجاعة والبطولة.
نحن في حاجة إلى هذا الإيقاع كي نستعيد بلادنا من القسوة والبشاعة.
يكفي بيروت أن تكون مدينة زهرة الفتنة كي تمسح الحزن عن أرصفتها.
على إيقاع الفتنة يمشي البحر، ومنذ أن تعرض بحرنا للإخصاء في سنوات الحرب، فقد القدرة على المشي وفقد علاقته بزهرة الفتنة.
غير أن الكارثة التي تعرض لها البحر كانت انفجار 4 آب، عندما انفجر بنا الموج وتفجرت فينا احتمالات الحياة، ورأى كل سكان الساحل الكارثة وقد حولت حياتهم إلى ركام.
لم يكن أحد يتوقع أن يكون انفجار 4 آب هو نهاية الحرب، لكنه كان كذلك. فالحرب صارت عبئاً بلا دموع وفراغاً بلا معنى، وشعر الناس أنهم صاروا جميعاً ضحايا.
في 4 آب غرقت بيروت في العنف والموت والأشلاء، واعتقد الناس أنهم إذا أزالوا الزجاج عن الشوارع سوف يطهرون أنفسهم ومدينتهم من آثار الانفجار.
في الذكرى الرابعة للانفجار الكبير، نجح الناس في ترميم المكان ولو بشكل غير كامل، لكنهم فشلوا في ترميم أرواحهم.
فمسألة ترميم الأرواح لم تكن جزءاً من المشروع، بل تُرِكت الأرواح هائمة فوق الأشلاء وتحولت إلى أشباح تسكن البحر الذي انفجر.
هذا هو التحدي الكبير الذي نواجهه وسنبقى نواجهه في ظل طبقة حاكمة لا هم لها سوى تجميع الثروة ونهبها وإعادة احتلال المدينة بالقيم الطائفية التي فجرتها.
بيروت اليوم على المفترق، وأنا أقف إلى جانبها ألملم أوجاعها بأوجاعي، وأقول لها إن «تاج الرماد» الذي لبسته هو أجمل تاج على رأس أجمل ملكة.
Visited 27 times, 1 visit(s) today