اليسار العربي ومتلازمة أدونيس
محمد العزير
ملفت إلى حد الدهشة موقف النخب اليسارية العربية من التطورات المتسارعة في دول المنطقة وخصوصًا في فلسطين ولبنان وسوريا، ولعل الأكثر اثارة للاهتمام هو الموقف من الزلزال السياسي الذي ضرب الشام وأدى إلى انهيار نظام دمشق العائلي بعد 53 سنة من حكم الرئيس السابق حافظ الأسد ووريثه الرئيس المخلوع بشار الذي ترك السلطة والبلاد ولجأ إلى روسيا، وانتهاء الدور الشكلي لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى الحكم في شباط/ فبراير 1963. ومثار الدهشة أن هذه النخب سارعت إلى التباكي على النظام السابق والتخويف من القوى التي أطاحت به و”التبشير” بمستقبل حالك لبلاد الشام.
موقف النخب اليسارية في دعم الأنظمة الاستبداية ليس جديدًا البتة، لكنه اتخذ مع انطلاق الربيع العربي من تونس عام 2010، وبلوغه سوريا ربيع العام 2011، بعد شموله مصر وليبيا واليمن والسودان، ورفع الشعار الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام”. فقد تحولت المنابر والمؤسسات والأصوات والمنصات اليسارية إلى ماكينة إعلامية هائلة تشوّه الإنتفاضات الشعبية العارمة وتعمم الروايات البوليسية للأنظمة وتشكك في القوى الشبابية والأهلية التي تقود التحركات، وتصر على ربطها، وخصوصًا تشكيلات المجتمع المدني بأجندات خارجية (أميركية وغربية)، أو رمّيها بتهمة التطرف الديني. وأتخذ هذا المنحى بعدًا جديدًا بعد صمود نظام الأسد الإبن وتحويل الحراك السوري إلى حرب أهلية دامية.
انطوى موقف الطيف اليساري التقليدي عمومًا على جملة تناقضات فاقعة لا يمكن تفسيرها أو تجسير الهوة بين أقطابها، ففي الوقت التي قدمت فيه معطى القضية الوطنية على أية أولويات أخرى، لتبرير مواقفها وتحالفاتها، تغاضت عن أبسط بديهيات السياسة الوطنية وأختزلتها في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولم تتوقف في هذا السياق في لبنان مثلًا، عند حقيقة تحالف الأنظمة التي تتعاطف معها مع قوى استهلت دخولها معترك المواجهة مع الاحتلال بالقضاء المادي والعملاني على دور القوى اليسارية، نفسها التي تم اغتيال مفكريها وأقطابها، وخصوصًا من أبناء طائفة معينة تباعًا، والتي كانت العمود الفقري للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى درجة منعت القوى الناشئة اليسار من القيام بأي نشاط في مناطق سيطرتها. وفي المعطى الوطني أيضًا، تنازل اليسار عن مفهوم السيادة، ففي الوقت الذي يبدي حساسية مفرطة تجاه أي وجود غربي أو أميركي، والآن تركي، على أية أرض عربية، بغض النظر عن طبيعته، حتى لو كان سفارة، لا يرى ضيرًا في الوجود العسكري الروسي مثلًا، ولا في التمدد الإقليمي الإيراني في أكثر من دولة عربية مصحوبًا بميليشيات وتشكيلات من دول كثيرة، لذلك كانت وطنية اليسار انتقائية وبلا سيادة.
ودون الدخول في مسألة الالتزام الإيديولوجي والمبادئ الفكرية التي يركز اليسار كثيرًا عليها في أدبياته، تبين أن اليساريين غير قادرين على التكيف مع الوقائع الجديدة، واعتمدوا نظريات المؤامرة لتفسير كل شيء بدءًا من انهيار التجربة السوفياتية والمعسكر الإشتراكي (والذي كان مؤامرة نفذها غورباتشوف) ووصولًا إلى قيام تنظيم داعش عام 2014، مرورًا بالربيع العربي (الذي خططت له أميركا ونفذته)، دون إشارة إلى ما تسميه الأدبيات اليسارية نفسها “الظروف الموضوعية”، وتحت هذه المظلة الفضفاضة رتب اليسار التقليدي تحالفاته الجديدة التي صارت بديلًا عن كل الأهداف اليسارية التاريخية، فلم يعد هناك اهتمام بالعمل النقابي ولم يلتفت أحد إلى حقوق الطبقات “الكادحة” وغاب عن الشاشة أي ذكر لتعزيز القطاع العام، ولم يعد الشأن الاجتماعي ـ المعيشي واردًا إلى درجة أنه عندما طفح كيل اللبنانيين بممارسات السلطة السياسية المنافية لأبسط قواعد العمل العام، وانطلقت انتفاضة تشرين 2019 في لبنان، تحالف اليسار ميدانيًا مع قوى السلطة الطائفية لإحباطها وتخوينها والإنقضاض عليها.
دأب اليسار العربي لسنوات طويلة على تخويف الناس من التطرف الديني، لكن وكما في المسألة الوطنية، كان انتقائيًا في ذلك، وهنا تماشى موقفه مع موقف الشاعر والمفكر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، الذي بكر بالوقوف ضد الإنتفاضة السورية عام 2011، لأنها تنطلق من المساجد، لكنه كان ولا يزال مع تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي انطلقت من المساجد والتي قادها رجل دين وبناها معممون ويحكمها الشيوخ والسياد حتى اليوم لأنها تنطلق من جوامع إيرانية. هكذا وقف اليسار مع التجربة الإيرانية بكل حماس وزخم، لكنه يُفرط في تحسسه من فئة واحدة من المتدينين، كذلك لم يبدر عن اليسار أي ملاحظة على إسلامية حليفه الأكبر “حزب الله” في لبنان، بل جاراه إلى درجة ان الحزب الشيوعي اللبناني البس شهيدة له حجابًا ليضع صورة لها ليُسمح له بالإحتفال في ذكرى استشهادها بعد عشرين عامًا من تنفيذها عملية فدائية ضد قوات الاحتلال، فيما صار تعبير بسم الله الرحمن الرحيم يتصدر بيانات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذا لا ضير في “إخوانية” حماس ولا الجهاد الإسلامي، وفي ذلك أيضًا انتقائية لا يستقيم معها أي منطق.
اما العلاقة مع الأنظمة والدفاع المستميت عنها فالسرد يطول، على الرغم من أن اليسار من المشرق إلى المغرب مرورًا بجزيرة العرب يعرف تمامًا السلوك الإقصائي والدموي لما يسمى بـ “الأنظمة التقدمية” فمن مصر أيام عبد الناصر إلى السودان أيام النميري إلى ليبيا أيام القذافي إلى الجزائر بعد الإستقلال إلى العراق وسوريا بعد انقلابات البعث جرى ذبح الشيوعيين واليساريين بشراهة مفرطة، لكن مصالح موسكو في حينه كان تملي على الشيوعيين العرب أن يصمتوا…فصمتوا، حتى أن الحكم “المنشفي” الذي وصل إلى موسكو بعد “مؤامرة غورباتشوف” صار القبلة الجديدة لليسار الذي يتباهى بفلاديمير بوتين ويصفح عن تدينه الأرثوذكسي الذي يجعل البطريرك الكسي الثاني يبارك بالماء المقدس الطائرات الحربية الروسية قبل أن تقلع لتشن غاراتها على الشيشان. أما الذين رفضوا من اليسار السير في هذا النهج ودفعوا ثمنًا باهظًا خصوصًا في لبنان حيث اغتيل جورج حاوي وسمير قصير (2005)، فاصبحوا مأجورين وعملاء ومرتزقة، وصار إبراهيم الأمين الذي بدأ مسيرته المهنية شيوعيًا في صحيفة النداء (الناطقة بلسان الحزب الشيوعي أيام العز) رئيسًا لتحرير صحيفة الأخبار الناطقة باسم الممانعة في لبنان مع نكهة يسارية “ملتبسة” ساهم فيها الفنان الشهير زياد الرحباني (عاشق ستالين وبطشه) والصحافيان الذميان بيار أبي صعب ونقولا ناصيف، وغيرهم ممن لحقتهم شبهة اليسار واستثمروا فيها.
ببساطة ينم موقف اليسار العربي اليوم…وخصوصًا في لبنان عن حالة نكران مذهلة. يتوجس اليسار “المحترف” من أي تحرك شعبي، مع أن قدس أقداس عقيدتهم هو “الجماهير”. هم لا يريدون الإعتراف بالحقائق الجديدة، ولا يتصورون مآلاتهم بعد أن يجف التمويل الإيراني لهم، حيث سيكون عليهم أن يعملوا ليأكلوا ولن تكون أمامهم شاشات تسعى لإستضافتهم وإسترضائهم، ولذلك لم يبق لهم سوى أن تتحقق نبوءاتهم بالتطرف الديني للقيادة السورية الجديدة، التي تسفه أحلامهم يوميًا، وتحبط الساحات السورية، التي تشهد نبضًا لم يكن مألوفًا لستة عقود، آمالهم، أي أنهم يتمنون في سوريا جنازة قوامها الاف الضحايا، ليشبعوا لطمًا. الذين عانوا من النظام العائلي الذي انهار خلال أيام قليلة، يعرفون أن في سوريا شعبًا يتوق إلى الحرية. هو شعب حي ومعطاء وكريم ولن يتوقف عند ترهات معتنقي متلازمة ستوكهولم (التضامن مع الجلاد) من يسار الخشب الذي تحول إلى بوق فارغ للإستبداد.