الحرة أو بلقيس الصغيرة والخليفة

لحسن أوزين
“إن نعت الأسياد للفقراء والعبيد والنساء بأنهم أقلّ شأنا لا يعني أنّ هؤلاء يقتنعون بذلك ويخضعون له”
بعد الانقلاب الخطير ضد مفهوم المجال الجديد الذي أسسه الإسلام من خلال تجربة النبي وأعطى فيها مكانة للمرأة مقارنة بما هو سائد في تلك الفترة التاريخية، من وأد وتهميش وتحقير وإقصاء، لم تكن العامة من الفقراء والفلاحين والعبيد والنساء لتستسلم، بل ظهرت ثورات غاضبة تطالب بتحقيق النموذج العادل للقيم والأفكار والمبادئ الإسلامية. فكانت الإمبراطورية الإسلامية -من دلهي إلى الأندلس- مكانا خصبا لبروز الثورات والاحتجاجات التي تحامل عليها العلماء والمؤرخون والفقهاء ووصفوا الثوار بأبشع الأوصاف والنعوت، وكانت ثورة الزنوج التي قمعت بالسيف والمجازر الرهيبة خير مثال على عداء الخليفة للعامة والنساء. و“إذا ما قارنّا التأثير المحدود الذي مارسته هذه الثورة التي قامت على المستوى العسكري بثورة الجواري نجد هذه الأخيرة أعمق وأكثر استمرارا لأنّها تمت على المستوى العاطفي والايروسي.” واستطاعت ثورة الجواري أن تخلق مفارقات مدهشة لكشف الوجه الحيّ للحقيقة في علاقتها بالسلطة والمقدس، حيث كان أغلب الخلفاء من أبناء جواري، ومن بينهن نذكر “الخيزران” التي حكمت من خلال زوجها وأبنائها، وهناك أيضا “شغف” أمّ الخليفة المقتدر التي تجرّأت فعيّنت امرأة اسمها “تومال” على رأس ديوان المظالم. يخبرنا الطبري بأنّ “تومال” قامت بمهمّتها أحسن قيام، و“أنّ الناس أحبّوها وقدّروا طريقتها في العمل رغم أنهم رفضوها في البداية” وإذا كان الطبري قد أنصف تومال فإنّ الكثير من التفاصيل المتعلقة بحكم النساء ستغيب وتختفي من كتب المؤرخين والتراجم. فبعد الطبري بقرن سيرمي الفقيه العاشق صاحب “طوق الحمامة” بسهم مسموم في حقّ أمّ المقتدر معتبرا “تعيين تومال على رأس ديوان المظالم كإحدى الغرائب التي تشكل فضائح لم تعرف الدنيا مثيلا لها حتى عصره”
عندما نعرف حجم الثقوب التي أصيبت بها المصادر القديمة والحديثة إزاء كل ما هو رائع وايجابيّ من تاريخ النساء والعامة، بما في ذلك لسان ابن منظور الذي يفقد ذاكرته التأصيلية وهو يبحث عن أصول الألفاظ والمعاني وجذورها، عند ذلك ندرك مدى العداء للمقاربات والمنهجيات العلمية الحديثة على مستوى العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى حدّ اعتبار النقد التاريخي بدعة أو شبهة كفر لا لشيء إلا لأنّ هذه المنهجية وغيرها تحاول إزالة الأقنعة وأشكال الحجاب التي تخفي الحقائق ومن ضمنها النساء الحاكمات في الإسلام اللواتي استطعن الوصول إلى الحكم وخلخلة المضمون الارستقراطي لحقيقة سلطة المقدّس التي يؤسسها مقدّس السلطة، وذلك من خلال الوصول إلى أن تقدّم خطبة الجمعة بأسمائهن والى ضرب السكة“. والنساء النادرات اللائي أقيمت بأسمائهنّ الخطب من أعلى المنابر كنّ استثنائيات في التاريخ الإسلامي بما أنهن نجحن في أن يتمّ رسميا الإقرار بخرق الممنوعات، وإذا أدركنا العلاقة الإشكالية بين الأنثوي والديني والغموض الذي يلفّ شرعية النساء في الوجود بالمسجد – وهو غموض تم التعامل معه بشكل مخالف حسب الأمكنة والثقافات والمراحل التاريخية- سندرك بشكل أفضل الثقل الرمزي والسياسي لهؤلاء النساء النادرات اللائي توصلن إلى أن تلقى الخطب بأسمائهن” هذا هو الوجه الحقيقي لا للذكورات المنبوذة ولا للأنثوي الغريب والفضائحي على حدّ تعبير ابن حزم فقط بل للنوع الإنساني المنبوذ“ قلت إن النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في القيمة الإنسانية، ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة”.
في علاقة النوع النسائي بالسياسي تنكشف إيديولوجية الذكورة كسلطة تأخذ مظهرا مقدّسا يتحجب فيه السياسي الخليفة كممارسة سياسية تسعى إلى تغييب إرادة النساء وإرادة العامة وبالتالي الاستئثار بالسلطة بتغييب المجال السياسي كميدان لإدارة الصراعات وكل أشكال التنافس وتدبير الاختلافات بين السلطة والمعارضة عوض الاحتكام للسيف لتصفية التنوع والتعدّد والاختلافات، قلت في علاقة النوع النسائي بالسياسي تنكشف حقيقة المقدّس الذي ليس أكثر من مقدّس سلطة الذكورة أي عبارة عن ممارسة للمدنس السياسي تستثمر فيه المقدّس لصالحها، هذا هو مصدر كل حالات الحروب والازدواج بين الأنا الخيّرة والآخر الشرّ التي تميّزنا في التعبير والتفكير وفي علاقتنا بالذات والآخرين والعالم. حالات من الانشطار الانفعالي والعاطفي والمعرفي والعصبي والمذهبي والطائفي. وفي هذا السياق مثلا نحن لا نعرف الشيء الكثير عن نساء مارسن الحكم في البلدان العربية والإسلامية وحملن ألقابا كثيرة كالسلطانة والحرة وستّ الملك والخاتون… ولم تكن هذه التجربة في الحكم سهلة لأنّ الأمر يتعلق بتمزق الحجاب السياسي لتهتز كل المستويات الأخرى للعلاقات والتفاعلات بين السلطة والمقدّس والجنس وهي مستويات كانت تشكل الأرضية الصلبة للعقلية الذكورية كممارسة سياسية تعبر عن قيم وأفكار ومبادئ قهرية تسلطية حاملة للعنف والفتن والحروب. وفي السياق نفسه نجهل تاريخا يتحدث عن بلقيس الصغيرة أو حاكمتيْ اليمن أسماء وأروى لسبب بسيط أنهن من الشيعة“غدا فقدان الذاكرة امرأ مرغوبا أكثر من طرف. كل أولئك الذين لا يريدون الغوص نحو عمق المشكل ألا وهو مستقبل الديمقراطية في الإسلام. ذلك أن الخلاف بين السنة والشيعة هو مجرد حوار مؤلم وطويل ومجهض شأن مسألة التمثيلية في السلطة، وكل حوار مجهض ستحدث خيبة أمل لدى المشاركين فيه ويجرهم إلى حمام عنف دموي. لكن من شأن الذكرى عن ثمن الدم الذي أريق بسبب الحوار الفاشل عند أجدادنا أن تفيدنا اليوم كمسلمين ومسلمات” وفي ذلك التلاعب من طرف السلطة برمزية المقدّس يكمن سر المفارقات التي لا تفارقنا في كل أبسط وأعقد مظاهر حياتنا اليومية، وهي المفارقات التي أرقت القدماء حيث كانت مثلا هواجس وأفكار، وهموم أبي حيان التوحيدي خير تعبير عن هذا الانشغال العميق بسطوة المفارقات. فإنّنا نجد في وقتنا الراهن مفكرين آخرين حملوا هذا الهم نذكر من بينهم عبد الله العروي في كل كتاباته المفاهيمية التأسيسية خاصة مفهوم العقل، إلى جانب محمد جابر الأنصاري في كتابه صراع الأضداد حيث استغرقته إشكالية اللاحسم إزاء عقبة مفارقات هي في إبرز مظاهرها توفيقية وهي ليست أكثر من مدنس سياسي يتزين في ممارسته السياسية بإيديولوجية المقدّس لذلك نرى في انفتاح النساء والعامة كوجه آخر مضمر مخفي للذكورة المنبوذة على السياسي سقوط للكثير من القيم والأفكار والمبادئ التي تتقنع بها أيديولوجية الذكورة بمعنى أن دخول النساء والشعب إلى المجال السياسي كمجال يؤسس لتكامل النوع الإنساني رجالا ونساء وتحقيقا للوجود والحضور والتعدد والاختلاف والمعارضة هو نهاية للوصاية والحجر والاستبداد وبالتالي سقوط تلقائي لكل أشكال التراتب والتفاضل السلطوي والثقافي والاجتماعي بما في ذلك القوامة والحجاب السياسي والطائفية والمذهبية والعصبيات. لأنّ هذه الحروب والتناقضات الرمزية والمادية تجد حلها في تأسيس مفهوم المجال الذي يسع الجميع بحق الأفراد في كل المجالات وانطلاقا من هذا الحق وعلى أرضية الحضور في المجال السياسي يتأسس المفهوم العميق للمساواة كنقيض لمفهوم المساواة المنبوذة التي تختزلها العقلية الذكورية في منطق استحالة التشابه والتطابق البيولوجي “كانت مأساة الخلافة تتمثل دائما في الهوة التي فصلت الخليفة عن العامة هوة ملأتها النخبة ثم العسكريون. يفتح الاقتراع العام الذي يجعل من النساء والعامة فاعلا رئيسيا في الساحة السياسة أبواب الممارسة الإسلامية على أفق جديد غريب عنها ولكنه ليس كذلك بالنسبة للحكم النموذجي العادل. تكشف الديمقراطية البرلمانية أفقا حيث يغدو المبعدون عن المسؤولية أمس أي العامة والنساء اللائي يلقين نفس المصير مشاركين أساسيين في اللعبة انه العالم بالمقلوب مما يبعث على الدوار”.
بناء على هذه الملاحظات السريعة التي تتطلب تحليلا أعمق نفهم بأن تجربة النساء في الحكم كانت بمثابة الوجه الآخر للذكورات المنبوذة ويتضح لنا ذلك من ردّ الخليفة المستعصم على طلب شجرة الدر من الخليفة مباركة حكمها والموافقة على منحها هذا اللقب حيث اعتبر ذلك نشوزا وذكورة منبوذة لا ينبغي قبولها أو السماح لها بالوجود، فأخبر المصريين عن استعداده لمدهم برجال قادرين على الحكم بما أنهم اضطروا لاختيار امرأة للحكم. لكن هذا الخليفة المعتز برجولته وذكورته لم يكن قادرا على ردّ الغزو المغولي، كما لم يكن مؤهلا للحكم على شجرة الدرّ التي استطاعت بفضل قيادتها لدولة المماليك وقف زحف المغول كما واجهت الحصار الصليبي وأسرت ملكهم.
والصعوبة نفسها واجهتها كل النساء الحاكمات لكن ذلك لم يحل دون استمرار ممارستهن للحكم مهما كلفهن ذلك “ورغم الفتاوى ومقاومة الخلفاء وانتهازية رجال السياسة فإنّ هناك خمسة عشر ملكة مسلمة اعتلين عروش الدول الإسلامية بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر واتسمن بكل السمات والعلامات الرسمية التي تثبت السيادة”.