“أنت أيضاً” المُغالطة المنطقيّة بنسختها السوريّة

“أنت أيضاً” المُغالطة المنطقيّة بنسختها السوريّة
Toi aussi est l'erreur logique dans sa version syrienne

نضال آل رشي

           تُعد مُغالطة “أنت أيضاً”، واحدة من أشهر المُغالطات المنطقيّة في الحوارات الجدليّة. إذ تقوم على محاولة تبرير خطأ أو انتهاك عبر الإشارة إلى أنَّ الطرف الآخر قد ارتكب الخطأ ذاته، وكأنّ الإدانة تسقط تلقائيّاً حين يُصبح الجميع مذنبين.

جذور هذه المغالطة تعود إلى قرونٍ سحيقة، حين كانت الحوارات في اليونان القديمة تُدور بين الفلاسفة والخطباء السياسيين. إذ ناقش أرسطو في كتابه “الجدل” فكرة الانحراف عن مناقشة الفعل إلى مهاجمة الشخص. أمّا المصطلح اللاتيني “Tu Quoque” فقد ظهر لاحقاً في الخطابة الرومانيّة للدلالة على هذا النوع من التلاعب الخطابي، قبل أن يتم تطوير فهمه الحديث عبر فلاسفة من أمثال جون لوك وستيفن تولمين، ليُعاد تصنيفُها ضمن فئة مغالطات “الطعن الشخصي”.

في سياقنا السوري، وبعد سقوط نظام الأسد وصعود سلطات وقوى جديدة على المسرح، وجدت مغالطة “أنت أيضاً” تُربة خصبة لتزدهر. وبدل أن يكون نجاح الثورة قطيعة أخلاقيّة مع الماضي القمعي، يُعاد اليوم اجترار منطق قديم في مواجهة كل من يجرؤ على مُساءلة سلطة الأمر الواقع. فأصبح شائعاً أن يُواجه أي نقد مهما كان بسيطاً بانفجار من الأسئلة الاتهاميّة: “أين كان هذا الرأي أيام الأسد”؟ “نظام الأسد كان يفعل كذا وكذا”، “أيام الأسد كنتم صامتين” …إلخ. بالرغم من أن قائل مثل هذه العبارات في الغالب هو ليس بصاحب رأي واضح لا أيام الأسد ولا اليوم، وعلى الرغم من أنّه في الغالب لم يثر فعليّاً على أي نظام، بل رُبّما كان “شيخ الصامتين”، يتحوّل هذا السؤال إلى أداة حادّة تقطع الطريق على أي مُساءلة أو نقد داخلي من قبل عامّة الناس، ويمنح غطاءً “أخلاقيّاً” مُزيّفاً للانتهاكات الحاصلة، فقط لأنّها تبدو كـ “رد طبيعي” على مظالم سابقة.

غير أنّ مقارنة الجرائم لا يلغي بشاعتها. والتاريخ مليء بأمثلة عن حركات تحرُّر سقطت في هذا الفخ. على سبيل المثال، شهدت الثورة الإيرانية عام 1979 صعود تيّارات بررت القرارات الخاطئة لسلطة الأمر الواقع آن ذاك بحجّة الضرورات المرحليّة. وبررت الأفعال الانتقاميّة التي راح ضحيتها آلاف الأشخاص بحجّة جرائم الشاه. وبررت بعدها قمع المُعارضين، فتم إعدام أكثر من 5000 سجين سياسي صيف عام 1988 أي بعد أقل من 10 سنوات على الثورة بحجّة قمع الشاه للمُعارضين في السابق. مما ساهم في تأسيس دولة استبداديّة جديدة لكن بملامح دينيّة هذه المرّة.

في المُقابل، قاومت حركة المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) في جنوب أفريقيا إغراءات الانتقام بعد سقوط نظام الفصل العنصري، وأصرّت بقيادة نيلسون مانديلا على تأسيس لجنة “الحقيقة والمصالحة”، التي اعترفت بالانتهاكات من كل الأطراف دون تبريرها، فقامت اللجنة باستدعاء أكثر من 21000 ضحيّة أدلوا بشهاداتهم في أكثر من 2500 جلسة استماع، إيماناً بأنّ الشرعيّة الثوريّة لا تحمي من المُحاسبة. فصارت مثالاً يُحتذى في العدالة والإصلاح المُجتمعي.

إذا كان بإمكاننا استنتاج شيء من هذين المثالين فسوف يكون التالي: التاريخ لا يرحم من يعيدون إنتاج أدوات القمع باسم الضحايا، والثورات التي انتقمت انهارت سريعاً وتحوّلت إلى أنظمة أسوأ، وذلك لأنّ التبرير لا يحمي الحركات التغييريّة بل يُضعفها:

داخليّاً، يشعر الناس العاديّون بالخُذلان التدريجي حين يرون أنّ من رفعوا شعار الكرامة أصبحوا يمارسون الإقصاء والقمع. هذه الخيبة تدفع قطّاعات واسعة من الناس إلى الانكفاء بصمت أو الانضمام إلى معسكر اللامبالاة.

خارجيّاً، تفقد الثورة قدرتها على اجتذاب الدعم الأخلاقي حين تبدو ممارساتها امتداداً مشوّهاً للنظام الذي أطاحت به. فالدعم الدولي، وعلى عكس ما يظن البعض، لا يقوم فقط على المصالح بل يحتاج دوماً إلى سرديّة أخلاقيّة مُقنعة. وحين تسقط الثورة في فخ تبرير الانتهاكات، تفقد هذه السرديّة وتصبح مُجرّد نزاع مُسلح آخر في منطقة مُضطربة.

بناءً على ما سبق، لا يجب أن يكون سؤال المستقبل على شاكلة: أين كنت؟ أو ماذا فعل الخصم بالأمس؟

السؤال يجب أن يكون: ماذا نفعل نحن اليوم؟ هل نبني معايير جديدة للحُريّة والعدالة، أم نُعيد إنتاج الاستبداد؟

الجواب على هذا السؤال لن تحدده البيانات الرسميّة ولا المؤتمرات الصحفيّة، بل سلوكيّاتنا اليوميّة وطريقة تعاملنا مع النقد وقدرتنا على مُساءلة أنفسنا قبل أن نُحاكم الآخرين.

قد يعتقد البعض أن محاربة هذه المُغالطة يتعارض مع مبادئ العدالة الانتقاليّة، غير أنّهُ في الواقع شرط أساسي لنجاحها. فالعدالة الانتقاليّة ترتكز على الاعتراف بجميع الانتهاكات ومحاسبة المرتكبين، فيما تُفرّغ هذه المُغالطة عمليّة المُساءلة من مضمونها، عبر تحويل كل نقد إلى عمليّة تصفية حساب مع الأشخاص الخطأ.

وعليه، فإنّ مُحاربة مغالطة “أنت أيضاً” بنسختها السوريّة، ليس ترفاً ديمقراطيّاً بل شرطاً وجوديّاً لا غنى عنهُ لكي تبقى الثورة “ثورة” ويكون السقوط “سقوط”، لا مُجرّد محطّة أخرى في رحلة الاستبداد الطويلة.

وكما قال المفكر الجنوب أفريقي ديزموند توتو:

“إذا كنتم تحلمون بالحريّة، فابدؤوا بممارستها أنتم أوّلاً، ولا تجعلوا ماضي الظالمين حُجّتكم لتكرار ظلمهم”.

Visited 31 times, 23 visit(s) today
شارك هذا الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!