الماضي لا يمضي والآتي الذي سوف يأتي (11)

الماضي لا يمضي والآتي الذي سوف يأتي (11)
د. عبد الكريم برشيد
 
الفكرة التي أصبحت فكرت وفنا
   الأصل في هذه الاحتفالية هو أنها مجرد أفكار، رمزية وحية ومتحركة، وذلك بمحرك حيوي داخلي، وهذا هو منطلقها الأساسي والتأسيسي الأول، ولقد تدحرجت هذه الفكرة، مثل كرة ثلج، وتفاعلت مع الأفكار الأخرى، في العقول الأخرى، وفي الثقافات الأخرى، وقرأت خرائط النفوس وخرائط الوجود وخرائط الوقائع في التاريخ الحديث والمعاصر، ولعل أهم ما يميز هذه الفكرة هو أنها شفافة، وهو جرأتها أيضا، وهو عنفها وعنفوانها، وهو انحيازها المبدئي للحق والحقيقة، وهو تأكيدها على الجمال والكمال، وعلى الصدق والمصداقية، وعلى الإبداع والإقناع، وعلى الحرية التحرر، وهي بالتأكيد فكرة – افكار بريئة ومسالمة، ولكنها أبدا غير محايدة، وغير رمادية اللون، وغير حربائية، وغير موسمية، وإن كان هناك اليوم، من النقاد من يرى غير هذا، وعكس هذا، فله الحق في ما رأى، ولنا الحق في كل ما لدينا، والذي هو عنوان وجودنا، وهو جلدنا وليس مجرد أزياء خاصة، يمكن ان نرتديها في مناسبات خاصة، وأن نغيرها بحسب تغير الظروف والمناسبات العابرة.
   وهذه المفكرة – الأفكار، لمن يريد أن يعرف مصدرها ومنابعها ومسارها وتاريخها، لم تخرج من عدم، ولم تأت من فراغ، ولم تأت بها الرياح القادمة من الغرب، ولا تلك الأخرى القادمة من الشرق، لأنها أساسا تأملات ومعاناة ومكابدات واجتهادات وتحديات واختيارات ورهانات ومواجهات، ولقد ظهرت على هذه الأرض، بعد أن بشرت بها مقدمات وعلامات كثيرة جدا، ولقد تشكلت داخل الزمن، وليس خارجه، ولقد نبتت بشكل طبيعي ومنطقي في عقول ونفوس وأرواح إنسانية حية، ومن حسن حظها أنها وجدت مناخا طيبا فنمت وارتقت وعاشت وتجددت وغابت وحضرت وفعلت وتفاعلت، وسافرت في كل الجهات، ولقد وجدت نفسها داخل أجساد ونفوس وأرواح حرة ومستقلة، فتحررت بهم وفيهم ومعهم، وكان ضروريا ومنطقي ان يكون كل ذلك الذي كان.
   وإذا كان هناك في الناس، ممن يقاسموننا حياة هذا المسرح ومسرح هذه الحياة، من يرى هذه الاحتفالية أشخاصا فقط، وذلك بأسماء خاصة، ويراهم مشاغبين ومشاكسين ومزعجين منافسين وفضوليين في الفكر والعلم والفن، فهذا شغلهم وحدهم، وهو شيء لا يلزم الاحتفالية العالمة والفاهمة في شيء، ونعرف أن من طبيعة هذه الفكرة – الأفكار الرمزية والشفافة، مثلها مثل كل الأجساد الحيوانية الحية في الحياة، أن بإمكانها أن تحيا، وأن تعيش، وأن تتمدد في الجغرافيا، وأن تتجدد في التاريخ، إذا كانت فعلا تتوفر على مقومات الوجود والحياة، وكان في جسدها كل مقومات البقاء والارتقاء، وكان بداخلها محرك عاقل يحركها بعقلانية، وكان لهذا المحرك طاقة حيوية محركة ومجددة ومتجددة، وكان لها ـ بداخلها ـ مناعة حيوية، وكانت لها حصانة تقيها غارات الأفكار الأخرى المختلفة والمخالفة، والتي قد تكون متسامحة، أو قد لا تكون، والتي قد يكون بإمكانها أن تحاور الأفكار الأخرى ( بالتي هي أحسن) أو تحاورها (التي هي أسوأ).
   وهذه الاحتفالية، وكما يقول عنها أحد عشاقها في (الرحلة البرشيدية) (هي علم وليست معلومات.. هي علم النفس الإنسانية، وهي علم الأنفاس الحارة والملتهبة، وهي علم الروح البشرية، وهي علم الحياة اليومية، وهي علم الحالات والمقامات، وهي علم العبقرية المنفلتة، وهي علم الوجدان الجماعي، وهي علم الخيالات والتأملات).
   هي إذن معرفة قبل كل شيء، وهي أساسا علم، أو هي عشق مشروع للعلم والعلماء، وهي أيضا حكمة حكماء، وقد تكون فقط، مجرد محبة عذرية للحكمة، وقد تكون مجرد أسئلة فقط، ولا شيء أكثر من ذلك، أسئلة اقترحتها وأملتها مسائل وجودية واجتماعية وفكرية وجمالية وأخلاقية حقيقية.
   ولعل أخطر كل الأسئلة التي طرحتها هذه الاحتفالية على نفسها، خصوصا في بداياتها التأسيسية الأولى، هي الأسئلة التالية:
ــ كيف يمكن لهذه الاحتفالية الحية أن تعيش وتحيا، في الواقع الحي، وفي عالم الناس الأحياء؟
ــ وكيف يمكن أن يكون لها موقع في الواقع، وأن تساهم في صناعة الوقائع الجديدة في هذا الواقع الجديد، وأن يكون لها امتداد في الجغرافيا الممتدة شرقا وغربا وشملا وجنوبا، وأن يكون لها صوتها المسموع في التاريخ، وأن يكون لها موقفها الخاص والمتميزة، بين كل المواقف الفكرية والجمالية والأخلاقية المتعددة؟
   ولعل أهم ما ميز ـ ويميز دائما ـ هذه الأفكار الاحتفالية، هو أنها قد ولدت ولادة طبيعية في واقع طبيعي، وأنها قد جاءت هذه الحياة، وذلك استجابة لنداء الحياة، وأنها قد فكرت وأبدعت وناضلت استجابة لنداء التاريخ، وهي أساسا حياة وحيوية، وهي حياة رمزية (لها أعمارها وأنفاسها، ولها أجسادها وظلالها، وليست مجرد أسماء فقط، كما يتوهم المتوهمون، ولا هي مجرد أحداث ووقائع، لها توقيت وتاريخ وشهود زور، ولا شيء غير ذلك، إنها تربة صلبة، في أرض صلبة، وليست رمالا متحركة، وهي جمر ملتهب، وليست رمادا باردا، ومن يبحث عنها وسط الرماد، فإنه ـ بالتأكيد ـ لن يعثر على أي شيء، وهي نار مشتعلة، وليست مجرد دخان، وكثير من الناس لا يعرفون، أن هذا الدخان من تلك النار، وأنه لا وجود أبدا لدخان بلا نار). هكذا تحدث الاحتفالي في تلك الرحلة الافتراضية التي تحمل اسم (الرحلة البرشيدية).
   وهذه الاحتفالية، وبخلاف ما قد يظن البعض، ليست هي فعل الاحتفال الخام، العابر، والذي له وقت محدد، وله فضاء مكاني محدود، وله تقنيات وآليات خاصة، وله أزياء وأقنعة خاصة، لأنه أساسا كينونة وهوية، كينونة محورية ثابتة ثبوت مجرى النهر، وهوية متحركة ومتغيرة كتغير الماء في هذا النهر، وهذه الاحتفالية ليست حدثا مناسباتيا يظهر ويختفي، داخل حيز زماني ومكاني محدد، ولكنها نظام حياة، ونظام وجود قبل كل شيء، وهي نظام صناعات إبداعية كثيرة جدا، من بينها المسرح والسينما والسيرك والتشكيل والسينما وفنون أخرى غيرها، ولعل أخطر كل الفنون هو فن العيش وفن الحياة، ولعل أصدق كل المعارف هو أن يعرف الإنسان نفسه أولا، وأن يعرف هو من هو ثانيا، وأن يعرف مع من هو ثالثا، وأن يعرف معنى وجوده رابعا، وأن يفعل يتفاعل وينفعل، وأن يعرف ماذا يفعل خامسا، وأن يعرف أين هو سادسا، وأن يعرف كيف يحيا هذه الحياة، بشكل أصدق وأجمل وأكمل وأنبل سابعا، وأن يعرف لماذا يحيا هذه الحياة أصلا، ومع من يمكن أن يحياها ، وكيف يمكن أن يقتسم ساعاتها ولحظاتها العيدية مع الآخرين.
 
التراث الحي يحيا في النفوس الحية
   وإنني، أنا الاحتفالي الحي، حتى إشعار آخر طبعا، قد قلت دائما، وكتبت، بأنني مقتنع، تمام الاقتناع، بأننا ـ نحن الأحياء في هذا الوجود الحيـ نعيش، فعليا وافتراضيا، في هذا الحاضر التاريخي المتحرك، ولكننا بالتأكيد قد ولدنا وتربينا واكتسبنا لغتنا وثقافتنا وأخلاقنا وذوقنا في ذلك الماضي (الغائب) والذي قد يراه الآخرون بعيدا، أو غائبا، أو ميتا، ولكنه ـ بالنسبة إلينا، في الأسرة الاحتفاليةـ يظل قريبا جدا منا، مثل ظلالنا التي لا تبتعد عنا، ولا تفارقنا، ونحن نعرف بأننا كائنات ثقافية، وبأن هذه الثقافة ـ ثقافتنا ـ لم نتسوقها اليوم من الأسواق العالمية الكبرى، ونعرف أيضا، بأننا قد تربينا في الماضي، وبأنناـ ومن حيث نريد أو لا نريد ـ محكومون بالماضي، بكل ألوانه وأضوائه وظلاله وأصدائه وإكراهاته، وماذا يمكن أن يكون هذا الحاضر ـ في معناه الحقيقيـ سوى أنه ذلك الماضي الذي لا يمضي، والذي هو اليوم غير ذلك الذي كان، إنه ماض جديد ومتجدد، بأزياء جديدة وبأقنعة جديدة، ونحن نقرأ كتابه الجديد وهو في طبعات أخرى؛ جديدة ومتجددة، ومزيدة ومنقحة ومحينة ومستعادة ومطورة ومصنعة بصناعات الآن ـ هنا، وعليه، فقد أكدت هذه الاحتفالية دائما على أن من لا ماضي له لا مستقبل له، وعلى أن الذاكرة مستودع الهوية، وبأن من لا يرى ما يقع أمامه وخلفه وحوله، لا يمكن أن يسلم من حوادث السير في الطريق، وقد لا يكون له موقع ومسار في هذا الطريق الوجودي السيار، وانطلاقا من هذه القناعة، فقد رفضت الاحتفالية مفهوم التعامل مع التراث، أو توظيف التراث، مسرحيا وشعريا وسينمائيا، وفي كل الآداب والفنون المختلفة، وبدل أن يقول الاحتفاليون (نحن والتراث) فقد قالوا وكتبوا ورددوا دائما ما يفيد (نحن التراث).
   والتراث الرسمي موجود في الكتب، والتي قد تكون بيضاء أو تكون صفراء، ولكن التراث الشعبي الحي موجود في الاحتفال اليومي الحي، وهو موجود في الأعياد التي لا تمضي إلا من اجل أن تعود، تماما كما تغيب الشمس مساء كل يوم، لتعود صباح كل يوم، وهذا هو ما جعل الاحتفاليين يختزلون هذا المعنى في الشعار التالي.
 
الحفل أصدق أنباء من الكتب
   وعندما أكد الطيب الصديقي، في مسرحه الاحتفالي، على ساحة جامع الفناء في مراكش، فما كان ذلك سوى لأن هذه الساحة هي فضاء للاحتفال والتعييد الشعبي اليومي الحي، ولقد أكدت اليونسكو هذا المعنى، عندما اعتبرت هذه الساحة تراثا إنسانيا كونيا، وهذا التراث ولد فعلا في الماضي، وتحديدا في مدينة مغربية تسمى مراكش، ولكنه ينتمي إلى اليوم، وإلى الحاضر، وإلى كل الثقافة الكونية والإنسانية، وهذا هو المعنى الذي أكدت عليه الاحتفالية عندما أصدرت بيانها الجماعي الأول من مدينة مراكش في ربيع سنة 1979.
   ولعل أجمل وأنبل وأصدق ما في فعل هذا الاحتفال، هو حياته وحيويته، وهو صدقه ومصداقيته، وهو ذاكرته ومتخيله، وهو تلقائيته وشفافيته، وهو أنه لا يتحقق، بشكل حقيقي وكلي، ولا يمكن أن يكتمل معناه إلا بالحضور، الآن هنا، وبالمشاركة أيضا، وبالاقتسام، وعليه، فإنه لا وجود لاحتفال حي إلا داخل مناخ إنساني ومدني حر، مناخ سليم وصحي، وأن يتم هذا الاحتفال الجماعي داخل طقس يتكرر ويتجدد، بشكل دائم، تماما الفصول في الطبيعة، وكما تتجدد الدماء في العروق، وكما تتجدد الحالات في النفوس، وكما تتجدد الأفكار في العقول، وكما تتجدد المياه في الأنهار وفي السواقي الجارية
الماضي الحقيقي ياتي من المستقبل.
   وعليه، فإن الاحتفالي الصادق والحقيقي هو الذي لا يعيش حياته الواقعية والفنية بالتقسيط، ولا يحيا حياته قطعة قطعة، لأنها حياة واحدة، ولأن خط الزمن في هذه الحياة الواحدة هو خط واحد أوحد، وعليه، فإنه لا يحق لنا أن نقول :هذا الماضي مضى، وأن نرميه في سلة المهملات، وأن نبحث عن حاضر جديد مصنوع صناعة جديدة خالصة، أي لا ذرة فيه من ذرات الماضي، ولا ظل فيها من ظلال الماضي، ولا معنى فيه من معاني الماضي، ويحرص الاحتفالي على أن يقول بأن الحداثة الحقيقية لا تنزل من السماء، وبأنه لا شيء جديد في هذا الكون القديم، وأن كل شيء فيه مجدد ومتجدد إلى ما لا نهاية، وأنه أيضا لا شيء حديث حداثة نهائية، وكل الأشياء والمعاني والأفكار مستحدثة ومحيّنة، وخاضعة لنظام تدوير وتحوير وتجديد الأفكار (القديمة) ولنفس العناصر المادية والرمزية في الطبيعة والحياة، وبالنسبة اللاحتفالية، فإن أي شيء، لا ينبع من منابعه الأصلية والحقيقية، ولا يكون له مسار واضح، ولا يأتي من داخل شروطه الذاتية والموضوعية، ولا داخل سياقاته الفكرية والجمالية والأخلاقية، فإنه يظل بلا معنى، وهذا هو ما جعلناـ في الاحتفالية ـ نؤكد دائما على القناعات التالية:
ــ أن الحداثة ( الخالصة) وحدها لا وجود لها، وعلى أنها مجرد وهم متوهمين وادعاء مدعين، وكل حداثة هي تحديث، وكل جديد هو تجديد، وكل حاضر، الآن ـ هنا، هو ماض، سابقا هناك
   وفي المقابل، فإن الأصالة لا تعني الماضي بالضرورة، وليست وجودا موجودا في الخلف، وليست تخلفا، لأنها القاعدة التي لا يمكن أن تنفيها الاستثناءات، وما هو أصيل اليوم، سوف يبقى كذلك دائما وأبدا، وكل أصالة غير متأصلة، في تربة الأرض، وفي أعمق أعماق النفوس، فإنه لا معنى لها، وكل حداثة لا تنبع من نهر هذا المعطى الثقافي الأصيل، فهي مجرد أوهام وادعاءات وإشاعات، ولا شيء غير ذلك، أو أكثر من ذلك.
   وإذا لم تكن هذه الأصالة حية ومتنورة ومتحركة ومتجددة وفاعلة ومتفاعلة ومثيرة ومستفزة ومحرضة ومقنعة وممتعة، ولم تكن منفتحة على ما حدث بالأمس وعلى ما يحدث اليوم، وعلى ما يمكن أن ان يحدث غدا وبعد غد، فإنه لا يمكن أن يعتد بها أبدا.
   ومن المؤكد أن هذه الاحتفالية، في أصالتها المحدثة، وفي ماضيها الذي يذهب ويعود، ويغيب ويحضر، ويختفي ليظهر، هذه الاحتفالية ولدت في التاريخ ولادة واحدة، ولا وجود لجسد حي، يمكن أن يولد أكثر من مرة، ولهذا فبعد فعل ذلك التأسيس الاحتفالي الذي كان في السبعينات من القرن الماضي، جاء اليوم فعل التجديد، أي تجديد هذه الاحتفالية الأصل، ومنعها من أن يلحقها القدم، وأن تنال منها الشيخوخة، وأن تلحقها أعراضها القاتلة، وبهذا يكون الاسم الذي يوافق هذا الجسد الفكري والجمالي (الجديد) هو (الاحتفالية المتجددة) وبهذا تكون هذه الاحتفالية طاقة حيوية في الحياة، وأن تكون موارية للطاقات الفيزيائية الموجودة في الطبيعة الحية.
   وهناك كلمتان اثنان لا تراهن عليهما الاحتفالية، وذلك في معجمها، وهما كلمة الشباب وكلمة الجديد، لأن الشباب فترة عابرة، وكل ما هو عابر وغير مقيم، لا يغري الاحتفاليين، والكلمة الثانية هي الجديد، لأنه لا وجود لجديد دائم، وما قد نعتبره اليوم قديما، قد كان جديدا في زمن من الأزمان، وهذا العمر الجديد، من اعمار هذه الاحتفاليةالمتجددة، هو الذي بشرت به ( بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة ) والتي صدرت بمدينة الدار البيضاء مع مطلع سنة 2023
   هذا بالنسبة لهذه الاحتفالية الحاضرة اليوم، أما الاحتفالات الأخرى، فسوف تأتي بها الأزمان الأخرى.
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *