أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَه..؟

أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَه..؟

د .السّفير محمّد محمّد  الخَطّابي  

عينَاكِ جَمرٌ مُتّقدٌ وَحَنِين

وَوَترٌ نَابضٌ غَامضٌ وأنِين

عيناكِ وطنٌ آليتُ ألاَّ أبيعَه

وألاّ أرى غيري له الدّهرَ مالكا

وَحبّبَ أوطانَ الرِّجَالِ إليهِمُ

مآربٌ قضَّاهَا الشّبابُ هُنَالِكَا.

آلَمَنَا التِّرْحَالُ والهِجْرَان

 وأضنَانَا التّجْوَالُ والحِرْمان

وفاتنا أنَّ الذي

يُحبِّبُ  إلينا الأوطانَ

 هُنيهَاتٌ ولحَظاتٌ وثوَان

قضّيناهَا فى جَذلٍ

 من عَيشِ سَعيد

 فى شرْخِ عُمْرِ بَعيد

 ورَيَعَانِ شبَابِ عَنِيد

أبكتْنا مَتاهَاتُ الغُربة والبِعَاد

وهكذا أضحتْ يا صاحِ

تمضي بنا السّنُون

تطوي المَسَافاتِ والأزمَانَا

 بطيئةً كئيبةً ، وئيدةً،أحيانا

مُسْرِعةً مُهرْوِلةً حَزنانا

وتمضي أيّامُنا بِلاَ عوْدَة

وتنقضيِ ليالينا بلاَ رِجْعة

وَتُمَزّقُ النّوىَ نِياطَ الفؤاد

و نحنُ  ما بَرِحْنا

فى كلِّ يومٍ وفى كلّ ليل

” نطيرُ من منفىَ إلى منفىَ

و ننتقلُ من بَابٍ إلى بَابْ

ونذويِ كما تذويِ

 الزنابقُ فى التّرَابْ “.

وَعلىَ حِينَ غِرّة

يدعُونا الحُبُّ والحَنين

 للعوْدة إلى ينابيعنا الأولى

إلى جذورنا  الضّاربة

فى عُمق الأرض والثّرىَ

وَإلى خِلْسَاتِ غفوَاتِ الكرَى

وما انفكّت أفئدتنا تنتقلُ

 ” حيثُ شاءت من الهوىَ

فمَا الحبُّ إلاّ للحَبِيبِ الأوَّلِ،

وقديماً قيل فى الشّعرِ الجَميلِ :

كَمْ مَنْزِلٍ فى الأرْضِ يألفُه الفتىَ،

وحَنينُه أبداً لأوَّلِ مَنزلِ “.

وفى متاهاتِ أضغاثِ أحلامنا

يُنازعنا الشّوقُ إلى الأوطان

بعد عَناءٍ وغِيَاب

ومُكابداتٍ وسَرَاب

 واستلابٍ وعَذابٍ

ويَبَابٍ وخرَاب

  بعد أن نَضبَتْ فى الجُفون

 مَيازيبُ  الدّمُوعْ

 وجفّتِ مآقينا

وخَفتَتِ الشّمُوعْ

وفاضَتْ فوّارَاتُ الظمأ الهَلوعْ

وفارَتْ شرايينُ الحَشَا والضُّلوعْ

 هوىً وجَوىً وصَبَابةً وخُشُوعْ

وفاتنا حَنَقاً وكمَداً أوَانُ الرُّجُوعْ

فجَالتِ الأعْيُنُ فى السَديم الأبلقْ

وتاهت الأنفسُ فى مَخدَعِها الأعمَقْ

نرجوُ أمراً فى آخر المدىَ الأزرَقْ

هوَاجسَ فيّاضةً جيّاشةً  تتدفّقْ

  فإذا حنايَا القلوبِ تتفتّقْ

 ونبضاتُ الجَنَان تتألّقْ

وخفقاتُ التراقي تتمزّقْ

نناشدُها عودةَ  الحيَاة

فى بَعْثٍ  جَديد

وفى ثَوْبٍ قشيبٍ

و فى عَيشٍ رَغِيد

ومن أعمق أعاميق الرُّوح

 تتعالىَ صيْحَاتُ البَّوْح

  فى فرَحٍ ومرَحٍ

وغِبْطةٍ وانشراح

فإذا بقنَادِيلِ اللَّيلِ الطويل

تدركُ دياجيَ الفَجْرِ العَلِيل

وتُعَانقُ  ضَوْءَ النّهارِ الجَميل

وتُنَاجي نَسَمَاتِ الصّباح البَلِيل

وَ أخيراً ها قد “خَفَّ القطينُ،

فراحُوا منكَ، أوْ بَكَرُوا..  

وأزْعَجتهمْ نَوىً

في صرفْها غِيَرُ “

 وطابَ المَرَام

وَصَمَتَ الكلام

وتوارىَ المَلام

واخْضَوْضَبَ المُدَام

وتضمَّخ  المَآب

فلم يبقَ لي فى آخرِ المَطاف

سوى الإجهَاش بكاءً

فبكيتُ على مَضَضٍ،

بكيتُ علىَ سِرْبِ القطا

إذ مَرَرْنَ بي ،

ومثلي بالبُكَاءِ جَديرُ،

فقلتُ والدّمُوع تنهمِرُ :

” أسِرْبَ القطا

هَلْ مَنْ يُعيرُ جَنَاحَه..؟

لعلِّي إلىَ مَنْ

 قَدْ هَوِيتُ أطيرُ** “..!

______________________________________________

 * الشكر العميق لضُيوف الشّرف الذين ضمّخواهذا البوْح بعطرِهم الفوَّاح، وبإطلالاتهم النديّة من شعرائنا النوابغ وفرسان اليراع والإبداع بالتوالي حسب ظهورهم فى القصيدة: قيس بن الملوّح، أبو تمّام، ابن الرّومي، البيّاتي، والأخطل.

  – تحريراً في  10 مايو 2025 ، فى حيّ المزمّة (أجدير) الحصين (الحسيمة)،  الخزاميّة الفيحاء.

شارك هذا الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!