إطلاق سراح الكاتب الجزائري بوعلام صنصال
عمر بنعطية
بدأت القصة في يوم من أيام نوفمبر 2024، عندما حطت طائرة الكاتب الروائي الكبير، بوعلام صنصال، أرض مطار هواري بومدين في الجزائر. صنصال، الذي تجاوز الثمانين من عمره، لم يكن عائداً للراحة، بل كان عائداً ليواجه مصيرًا كان يلوح في الأفق. فبمجرد وصوله، اعتُقل صنصال، الذي يُعرف بجرأة قلمه وبمرجعيته الجزائرية-الفرنسية، ليُحال إلى القضاء.
لم تمضِ أشهر قليلة حتى أصدرت المحكمة، في مارس 2025، حكمًا قاسيًا: خمس سنوات سجنًا نافذًا وغرامة مالية ضخمة.
كانت التهمة المعلنة هي “ألمساس بالوحدة الوطنية والإضرار بالمصلحة الوطنية”، وهي تهمة وُلدت تحديدًا من تصريحات أدلى بها الكاتب لوسائل إعلام فرنسية، حيث شكك في الرواية الرسمية حول الحدود، زاعماً أن الجزائر “ورثت أراضٍ مغربية كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي”. كان الحكم رسالة شديدة اللهجة ضد أي تشكيك في ثوابت الدولة.
صرخة القلم والضغط الخارجي
لم يكن اعتقال صنصال، الذي حصد جوائز عالمية وتُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات، أمرًا يمكن أن يمر مرور الكرام. تحوّلت قضيته إلى قضية رأي عام دولية، وبدأت أصوات الاحتجاج ترتفع كالجوقة من مختلف العواصم:
في باريس، ضغط الرئيس إيمانويل ماكرون بشكل مباشر. في بروكسل، أصدر البرلمان الأوروبي قرارًا يدين الاعتقال. أما كبار الكتاب والمثقفين، من سلمان رشدي إلى ياسمينا خضرا، فقد وقعوا بيانات استنكار، محذرين من تكميم الأفواه.
لكن الميزان لم يرجح إلا بتدخل ثقيل وحاسم. جاءت اللحظة الفاصلة قبل أيام قليلة، عندما زار الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير الجزائر. لم يكن طلبه دبلوماسيًا عامًا، بل كان طلبًا إنسانيًا مباشرًا ومُركّزًا قُدّم إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
العفو الإنساني.. والصفقة الألمانية
كان مفتاح الإفراج هو ورقة الوضع الصحي، حيث أن صنصال يبلغ من العمر 81 عاماً ويعاني من مرض السرطان. استجابت الرئاسة الجزائرية لـ “اللفتة الإنسانية”، معلنةً اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025، عن إصدار عفو رئاسي عن الكاتب.
لكن العفو لم يكن مجانيًا، بل كان مرفوقًا بضمانات. أعلنت الجزائر أن العفو تم على خلفية تعهد دولة ألمانيا بـ “تولي مسؤولية نقل صنصال وتوفير الرعاية الطبية اللازمة له”، مما يعني فك الارتباط المباشر بين الكاتب وأي نشاط سياسي أو قضائي على الأراضي الجزائرية.
وبهذا القرار، نجحت الجزائر في امتصاص الضغط الدبلوماسي الكبير الذي كان يهدد علاقاتها مع الغرب، خاصة فرنسا وألمانيا، مؤكدة أنها تصرفت من منطلق إنساني رغم الجرم الذي ارتُكب في حق “الوحدة الوطنية”. ومع ذلك، فتح هذا الإفراج الباب أمام تساؤلات داخلية حول معايير تطبيق العدالة، ومصير مساجين رأي جزائريين آخرين، مما يؤكد أن قصة بوعلام صنصال انتهت بفصولها الخاصة، لكنها تركت خلفها أسئلة صعبة تتعلق بالحرية والسياسة في الجزائر.
شخصية مثيرة للجدل
رغم شهرة الكاتب بوعلام صنصال ومكانته الأدبية، فإنه يُعد شخصية شديدة الإثارة للجدل وتُوجه إليه انتقادات ومؤاخذات حادة، خاصة في العالم العربي والجزائر، تتعلق بمواقفه السياسية والفكرية.
تتركز الانتقادات والمؤاخذات التي تُوجَّه ضد بوعلام صنصال في ثلاثة محاور رئيسية: موقفه من الصهيونية وإسرائيل، موقفه من الإسلام والعربية، وموقفه من الأنظمة العربية والجزائر.
ويُتهم صنصال بتبني مواقف تتعارض مع الإجماع العربي، كون صنصال شارك في مؤتمرات وفعاليات داخل إسرائيل وزارها علنًا، وهو ما يعتبره النقاد العرب تطبيعًا سافرًا مع دولة احتلال، وخرقاً للموقف الجزائري الرسمي.
وكان صلصال مُنح جائزة “القدس” (Jerusalem Prize) التي تُقدمها بلدية القدس، في خطوة فُسرت كدعم لموقف إسرائيل من المدينة.
وهو ما أدى إلى اتهامه بشكل مباشر بالتعاطف مع الفكر الصهيوني والدفاع عن حق إسرائيل في الوجود دون أي تحفظات، متجاهلاً بذلك القضية الفلسطينية وما يرافقها من انتهاكات.
كما يُعرف صنصال بانتقاده الشديد للإسلام السياسي (الإسلاموية)، لكن انتقاداته تتجاوز ذلك في نظر منتقديه لتصل إلى الثقافة العربية والدين نفسه، إذ يركز صنصال في كتبه ومقالاته (مثل روايته الشهيرة “قرية الألماني”) على فكرة صعود الأصولية الإسلامية كخطر عالمي يهدد الغرب والحداثة، وهو ما يراه البعض خطاباً مبالغاً فيه يصب في مصلحة حملات “الإسلاموفوبيا”.
إضافة إلى اتهامه بازدراء اللغة العربية، حيث يرى أنها لغة “غير صالحة للحداثة” و”لغة غير منتجة للفكر الإبداعي”، ويدافع عن الفرنكوفونية، مما يجعله هدفاً لنقاد الهوية في العالم العربي.
ويدافع صنصال عن علمانية متشددة يراها منتقدوه معادية للهوية الدينية والاجتماعية في المنطقة، مما يجعله شخصية مستفزة لقطاعات واسعة من الجمهور المحافظ والوطني.
بالإضافة إلى مواقفه الخارجية، يثير صنصال جدلاً بمواقفه المتعلقة ببلده الجزائر والدول العربية.
اشتهر صنصال بنقده الحاد والدائم للنظام الجزائري، ويتهمه بالفساد والاستبداد وغياب الديمقراطية. هذا النقد هو سبب سجنه المتكرر.
غير أن التهمة الأخيرة التي سُجن بسببها (نوفمبر 2024)، تتعلق بتشكيكه في الحدود الجزائرية الموروثة عن الاستعمار، وزعمه أن مدناً في الغرب الجزائري كانت تاريخياً مغربية. هذا الموقف يعتبره النظام وقطاعات واسعة من الجزائريين مساساً بالوحدة الوطنية وتجاوزاً لخطوط حمراء مقدسة.
ويُتهم صنصال باللجوء إلى الأجندات الغربية (خاصة فرنسا وألمانيا) للضغط على الجزائر، مما جعله في نظر البعض “عميلاً” يستخدم نفوذه الدولي لأغراض سياسية.
يمثل بوعلام صنصال شخصية منقسمة ومتناقضة: فهو من جهة كاتب موهوب يجرؤ على نقد الاستبداد والفساد، ومن جهة أخرى، يُنظر إليه كـ “بوق للتطبيع” و”معادٍ للهوية العربية والإسلامية”، تستخدمه الأجندات الغربية لتأجيج الخلافات الإقليمية.
