الآن هنا… في راهنية مهدي عامل

الآن هنا… في راهنية مهدي عامل

لحسن أوزين

             لم يكن من السهل علي أن أكتب عن مهدي عامل، لأنه لا يقبل بهذا الشكل السائد من التفكير البديهي الشائع  حول الكتابة كتمرين إنشائي خال من أي حس، أو وعي بجسامة المسؤولية، كممارسة اجتماعية تاريخية لها خلفيات ايديولوجية سياسية. هذا يعني أنها تجد نفسها بشكل أو بآخر منخرطة في سيرورة أحد مظاهر الصراع الاجتماعي السياسي السائد في المجتمع. أن تكتب عن مهدي عامل، يعني أن تفكر معه أو ضده، وفي كلتا الحالتين فأنت لا تنتج التماثل والتكرار، لان منطق فكر مهدي يلزمك بإنتاج كتابة الاختلاف. وفي هذا تكمن راهنية فكره. لأنه ليس فكرا متكونا او ناجزا، كما ليس حقيقة مطلقة ونهائية.

 بهذا الفهم والاستيعاب لفكره المتضمن لسيرورة النقد والتجاوز، يواصل مهدي عامل حضوره الحي كممارسة فكرية وسياسية فاعلة في صيرورة الحركة التاريخية الخاصة بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وفي ما يحدث أيضا في السياقات المهيمنة عالميا، أي في إطار ما سماه العلاقة الكولونيالية.

راهنية مهدي عامل وقوة حضور فكره الحي ليست في ما هو معلب وميت في فكره، ولا فقط في المخاطرة النظرية التي مارسها بفرح لا يخلو من وجع وألم الكتابة، بل في انتصاره كمعرفة وفكر، وممارسة سياسية على مفهوم الموت الكامن في الوعي المتخلف، و الممارسة السياسية البشعة للصراع الفكري السياسي، كاغتيال إنساني و فكري و سياسي، من قبل ممارسة طائفية سياسية لا تدرك اطلاقا العمق الفكري والسياسي لما أنجزه مهدي عامل نظريا وسياسيا وإنسانيا.

إن ما يحدث اليوم في المنطقة العربية والإسلامية، وعلى المستوى العالمي من تحولات وأزمات اقتصادية و مالية وسياسية واجتماعية وايكولوجيىة  وثقافية، الى جانب حروب بشعة في حق الانسانية بمظاهر إبادية، في فلسطين، و عنصرية وفاشية إرهابية طائفية. سواء كحروب طائفية أهلية أو كحروب استعمارية ضد الارهاب في لعبة مكشوفة لإعادة إنتاج السيطرة والهيمنة في التأبيد للاستبداد والعلاقة الكولونيالية ضد حركة تاريخ الشعوب في عيش التغيير. نعم إن ما يحدث اليوم يؤكد بالملموس راهنية مهدي عامل بحيث يمكن لكتاباته، الى جانب كتابات أخرى نقضية للمعرفة الاستعمارية، أن تساعدنا في فهم الكثير من التناقضات والالتباسات، ومختلف أشكال الصراع الاقتصادي والايديولوجي والسياسي. هكذا تبدو أهمية الاستعانة بشكل او باخر بمنطلقات فكره وآلية تفكيره، في إنتاج المعرفة القادرة على ممارسة التملك المعرفي السياسي للواقع الحي .

1 – القدرة على التفكير النقدي

     يمكن أن أجازف منذ البداية في القول، وبنوع من التحدي البعيد عن منطق المعجزة، أن فهم ومقاربة ما يحدث اليوم لا يمكن أن يتم بدون الحضور القوي والفاعل لفكر مهدي عامل كسؤال نقدي قادر على حد تعبير محمد دكروب على تحريك العقل وتفتيح العيون. ليس فقط في الصراع الفكري والسياسي مع الخصم، بل ايضا في الحذر المنهجي والمعرفي والسياسي من الانزلاق الى الخلفية الايديولوجية نفسها التي يخاض الصراع ضدها. ” إن على الفكر الماركسي ان ينتج اختلافه في إنتاجه المعرفة التي ينتج، وإن عليه أن يعيد إنتاج اختلافه كلما كان عليه أن ينتج معرفة. إنه إذن سيرورة إنتاج مستمر. كالثورة تقضي في سيرورتها المستمرة، بإنتاج معرفة سيرورتها إنتاجا مستمرا. لذا وجب النقد أيضا مستمرا.” في هذا العمق الفكري لعلمية النقد يتجلى بوضوح ما أقصده براهنية مهدي عامل التي لا يمكن تجاوزها، لأنها ببساطة سيرورة إنتاج مستمر.  وليس في هذا من تناقض في القول بقدر ما تعلن صراحة رفضها ونقدها للمتكون الجاهز أو لطمأنينة الفكر في الانغلاق داخل بديهيات ومسلمات وحقائق ثابتة. وطموحها الدائم الى تجاوز نفسها باستمرار، لإنتاج معرفة بالواقع الذي لا يكف عن التغير والتغيير. إذن مهدي عامل ليس مجرد مقدمات نظرية جاهزة أو فكرا معلبا بقداسة الخلفية الفلسفية والأيديولوجية، أو ما شاكل ذلك من ادعاء الحقيقة العلمية. صحيح أننا نجد الكثير من هذا القبيل في كتب مهدي عامل، لكن لا ينبغي أن تقرأ بمعزل عن ألم ومعاناة السؤال النقدي، الذي كان يؤرقه بشراسة لا ترحم قلقه الفكري، الذي لا يعرف الراحة و الاستقرار. لهذا يمكن القول بأن مهدي عامل لم ينتج كتبا جاهزة للتلقين والحفظ، ولا إجابات  مانعة جامعة شاملة. بقدر ما فتح ورشة التأسيس لسيرورة السؤال النقدي في الفكر والثقافة العربية، وفي الممارسة السياسية المستقلة للشعوب، في صراع سياسي يتمفصل فيه الوطني بالطبقي وبالعالمي الامبريالي. ومن هذه الزاوية يمكن التعامل مع المشروع النقدي الذي أنتجه، الشيء الذي يجعلنا في غنى عن طرح الاسئلة الساذجة حول نهاية وموت فكر مهدي عامل، أو الاستحضار النمطي لذكرى اغتياله بشكل لا يخلو من وقاحة مبطنة في قول : ” ماذا تبقى من مهدي عامل؟” أو ” ماذا كان سيقول مهدي عامل بعد كل ما حدث من هزائم و انتكاسات…؟ ”

بهذا الفهم للسؤال النقدي الذي حاول مهدي عامل تأسيسه، و الذي نعتبره جديرا بالنقاش والحوار ومواصلة سيرورة إنتاجه، نفهم حاجتنا الماسة الى تفعيل هذا الوعي بالحضور الحي الان هنا  لمهدي عامل، خاصة وأن المنطقة العربية والإسلامية والعالمية تلتهب بالكثير من المشكلات والاشكالات التي كانت وراء الإنتاج الفكري الذي خلفه مهدي عامل، بما في ذلك نقده الصارم للفكر اليومي الذي تناسل بصورة مخيفة. ليس فقط من طرف أعداء الشعوب وثوراتها، بل ايضا من قبل الكثير من الاقلام التي لم تأخذ الدرس النقدي لمهدي عامل بكامل الجدية المعرفية، والمسؤولية الفكرية والسياسية. وهي تكرس من حيث لا تدري طروحات الايديولوجية الاستبدادية والامبريالية، في الصراع السياسي الذي يخاض بعنف الجرائم ضد الإنسانية، من طرف الانظمة الطائفية الاستبدادية بالتحالف مع القوى الاقليمية والامبريالية الدولية، وبمباركة من مؤسسات المنتظم الدولي.

2 – النقد وتحرير مكبوت النص والواقع

     كتابات مهدي عامل لا تقبل بمتعة القراءة والترف الفكري، لان استراتيجية الكتابة النقدية فيها تؤسس لجدلية القراءة في الممارسة.  يعني هذا كما لو أنها تتعمد ان تكون قولا ناقصا غير مكتمل، إلا من خلال جهد وفعل القراءة. كممارسة ايديولوجية في تعقيد المشكلات، وبلورة المزيد من الاسئلة للقضاء على الكسل الفكري في إنتاج معرفة الواقع. وتخطي ما يسيطر على سطح الكثير من الكتابات التكريسية للأمر الواقع. كما لو أنه معطى طبيعي موضوعي لا دخل للأساس المادي لتناقضات الواقع الاجتماعي التاريخي في تحديد سيرورة أشكال صراعه الاقتصادي والايديولوجي والسياسي، التي تعتمل في آلية حركة تطوره الداخلي. بمعنى أن النقد عند مهدي عامل يأخذ موقعه في السيرورة الثورية لكشف مكبوت الواقع الحي، الذي تحاول ممارسة ايديولوجية سياسية نقيضة اخفاءه، من خلال، تغييب  المستو ى الاقتصادي والسياسي للكل الاجتماعي. وذلك بإعطاء الهيمنة للمستوى الايديولوجي كإطار لحركة التاريخ. ” إن تحرر الايديولوجي من السياسي هو الذي يقود الى تحرره من الاقتصادي، ويجعل منه بالتالي المستوى المهيمن. وبتحرره المزدوج هذا يستحيل الايديولوجي إطارا اجتماعيا عاما فيه تجري حركة التاريخ، وبه تنتظم. بل إنه الإطار الثابت المترسخ المتكرر المتماثل الواحد الاوحد الذي فيه يجري التاريخ الى مستقر له.”  وللأسف لانزال الى حدود اليوم نرى الكثير من الكتابات على صفحات مواقع الانترنيت التي تنتصر للفكر الطائفي، وهي تتناول حروب الانظمة السياسية الطائفية في سوريا والعراق… بلغة الثقافة الايديولوجية الماضوية، وهي تشوه حقيقة الثورات العربية بالتحليلات الثقافوية، المسيجة بقدسية ثوابت الجذور التاريخية لتشكل المجتمعات العربية و الإسلامية، في صورة فسيفساء عرقية واثنية ودينية ومذهبية طائفية…

يتم هذا التحليل بعيدا عن الشروط المادية للواقع الراهن. ويمكن للقارئ أن يقرأ عددا لا يحصى من الكتابات نفسها التي قام مهدي عامل بنقدها ونقضها في أغلب كتبه مثلا في ” مدخل الى نقض الفكر الطائفي”، أو “في الدولة الطائفية”. كما تناولها بالكثير من التحليل النقدي في كتابه “نقد الفكر اليومي” مثلا، عند أدونيس ، موسى وهبة، وعباس بيضون… وهذا الأخير نشرا مقالة ” مستقبل الإسلام “، في جريدة السفير. وهي مقالة لا تختلف في شيء عن كتاباته الثقافوية نفسها التي ناقشها مهدي عامل في “نقد الفكر اليومي” بعمق نقدي فكري وسياسي مبينا انتصارها للطائفية السياسية، كنظام سياسي بورجوازي. وبعد الانتهاء من قراءة نص عباس بيضون ” مستقبل الإسلام”، يستحضر قارئ مهدي عامل قولا مناسبا له في نقد مثل هذا الفكر اليومي ” بمثل هذا الفكر يتجوهر التاريخ ويتجوهر الاجتماع أيضا، فلا يبقى سوى غرب يسيطر بالعنف وحده، وإسلام يقاوم، لأن الإسلام وحده هو الرد على الغرب”. 

وفي هذا السياق يمكن أن نشير الى مقالة منير الخطيب “السفح السلطوي للإشكالية الطائفية في سورية” او في الخلط بين الايديولوجي و السياسي لما كتبه غازي الصوراني ” البعد التاريخي للصراع الطائفي بين السُنَّة والشيعة “.  بالاضافة الى كتابات اخرى تقارب الثورات العربية والحروب الأهلية الطائفية بالمنظار الماضوي الايديولوجي الديني الطائفي. باحثة فيما تسميه جوهر الشرق التاريخي، الاثني المذهبي الديني والحربي الطائفي…، عن أجوبة تبرئ الانظمة السياسية في سوريا والعراق واليمن… ” تتم تبرئة الاستبداد  ونظامه من كل مسؤولية تاريخية سياسية، عن تفتيت المجتمع وتمزيقه. وفي مثل تلك المقاربات الثقافوية يتم تغييب مسألة عجز الأنظمة الاستبدادية الطبقي عن توحيد المجتمع والدولة.

المجتمع، في هذا الفهم للمسألة الطائفية، هو المسؤول عن التفكك والتمزق، بسبب من تعدد طوائفه.  والمسؤول عن انهيار الكيان هو الكيان نفسه بسبب أيضا من تعدد طوائفه”. إنها حقا كتابات تبرئ هذه الانظمة الاستبدادية الطائفية من مسؤوليتها السياسية في الخراب والدمار. والمجازر والتدمير شبه الكامل لشعوبها ولأوطانها. ومن جملة هذه الكتابات ما قرأته لعبد الاله بلقزيز :” الربيع العربي :جردة حساب أولية” وهو نص منشور بمجلة المستقبل العربي عدد شهر ايار، ورغم كل ما في هذا النص من أفكار قد تبدو تحليلية نقدية إلا أنها لا تتجاوز أفق المعلومات السطحية التي يوفرها الاعلام اليومي الحدثي بامتياز كبير. مما يبين عجز المثقف العربي عن تكوين تصور واضح حول حقيقة الصراع المعقد، ليس بمنظور محلي يخص سوريا وحدها بل يشمل مستقبل كل الشعوب التي تفجر فيها الربيع العربي. والخطير في هذا النص أنه عاجز عن رؤية مسؤولية النظام في كل ما حدث ملمحا بطريقة واضحة الى مسؤولية ما يسميه الفكر الطائفي إرثنا التاريخي الاجتماعي والديني،  والثقافي المضاد للتغيير بشكل أو بآخر.

” إن تلك الظاهرة- الطائفية- لا تجد في ذاتها مبدأ تفسيرها وتفسير  بقائها واستمرار حضورها في البنية الحاضرة. إنها بالعكس تماما تجد مبدأ هذا التفسير في حاضر هذه البنية وفي آليتها الداخلية الخاصة. إنهم يفسرون الحاضر بالماضي ويسمون هذا تاريخا…أفسر الماضي بالحاضر، وبالحاضر لا بالماضي أفسر أيضا استمرار حضور الماضي فيه. أما التاريخ ، فشيء آخر غير التكرار في التماثل إنه اختلاف. وفي اختلاف الحاضر يكتب تاريخ الماضي، وفيه أيضا، يصنع التاريخ مختلفا.”

وها نحن نرى اليوم ما قام به مهدي عامل من تفكيك للفكر والواقع العربي، بوضوح أكبر. سواء في انفتاح أفق السؤال النقدي على إشكالية علاقة الفكر بالواقع، وهو مدعو دائما الى تجاوز كل الفكر الجاهز المتكون نحو إنتاج الادوات النقدية والمفاهيم النظرية، القادرة على التملك المعرفي لسيرورة الواقع. أو في نقده للممارسة الايديولوجية للبرجوازيات الكولونيالية، بما في ذلك للكثير من طروحاتها الفكرية.

فاليوم يتأكد بالملموس أهمية  الضرورة السياسية للوجود السياسي المستقل للشعوب، حتى تستطيع بالفعل خوض غمار التغيير. كما يتأكد التحليل النقدي لمسألة العلاقة الكولونيالية، في اللجم السياسي، أو العسكري من قبل الامبريالية لحركة التطور الداخلي، كثورة مضادة في وجه أي تحول نوعي قد تعرفه مجتمعاتنا. والهجمة الإبادية في غزة وكامل فلسطين أكبر درس لنا في الطبيعة الكولونيالية الامبريالية للغرب الأوروأمريكي. من هنا يبرز إلحاح مهدي عامل على أهمية وأولوية نقض المعرفة الاستعمارية. فمن بين الابداع المعرفي الكبير لمهدي عامل نشير الى تناوله للفكر الطائفي، انطلاقا من تحديد مفاهيمه، كإنتاج معرفي نظري في مقاربة الصراع السياسي بكل اشكاله المختلفة. بدءا من تحديد مفهوم الطائفة كعلاقة سياسية، مع تحديد الطائفية كنظام سياسي للبورجوازية الكولونيالية. محررا بذلك مكبوت الواقع كصراع سياسي حقيقي، لا علاقة له اطلاقا بالانقسامات السوسيولوجية  العمودية، التي تعرفها أغلب المجتمعات في العالم، على مستوى اللغة والعرق والدين والمذهب… 

 ومحررا أيضا مكبوت النص الطائفي الذي يخفي حقيقة الصراع السياسي. إما بوعي منه- النص الطائفي- أو منزلقا من حيث لا يدري الى تربة الفكر الطائفي، المولع بالتكرار والتماثل.

” من موقعه في تلك السيرورة الثورية ينطلق النقد ، ويلعب لعبة الصراع الفكري مكشوفة، السياسي هو الحقيقي، في هذا الصراع، كما في غيره. والسياسي هذا، بوضوح كلي، هو الكامن في هذا السؤال: أتغيير النظام السياسي الطائفي القائم، أم تأبيد له؟”  وهنا تكمن راهنية مهدي عامل في قراءة واقع سيرورة الحركة التاريخية لمجتمعاتنا. إذ إن الأمر لا يتعلق بالنظام السياسي الطائفي اللبناني فقط، بل السؤال في صيرورته يشمل جميع الأنظمة. لأنها طائفية بشكل أو بآخر في نظامها السياسي، وأيضا في ممارستها السياسية للصراع السياسي. والنقد في بعده النظري كممارسة ايديولوجية للصراع السياسي، لا يقف عند هذا الحد من نقد ونقض الممارسة النظرية السياسية للفكر البورجوازي الطائفي. وإنما يتخطاه الى نقد فكر الموقع الثوري الذي يتورط  دون وعي منه في تكريس سيطرة الفكر الطائفي، بتبني خلفيته النظرية ولغته وأدواته النقدية، مما يجعله ضحية لإعادة إنتاج الوعي الطائفي

3 – التناقض المأزقي بين الموقع النقدي، الثوري، والوعي الطائفي

     لقد كتب الكثير حول الدور الخطير الذي قامت به الانظمة الاستبدادية في تجفيف ينابيع الفكر والثقافة والسياسية، إلى درجة جعلتنا نتكلم عن التصحر المعرفي والسياسي. وهذا ما يعقد سيرورة التحولات التي يعرفها تطور الحركة التاريخية الاجتماعية لمجتمعاتنا. ويزداد الامر تعقيدا في المنعطفات النوعية التاريخية لأي مرحلة انتقالية تنفتح على أفق التغيير.  وفي هذه الاعاقة للسيرورة التاريخية يكمن مدى تجذر القوة المادية لفكر الثورة المضادة، كممارسة ايديولوجية تغيب السياسة والسياسي بالمعنى الاقرب الى الاغتيال. وهذا ما يعيد الوعي الشعبي إنتاجه في صراعه السياسي، لأنه يعاني بصورة مزمنة من فقر الدم المعرفي والسياسي. إلا أنه ناذرا ما كتب شيء عن دور فكر الكثير من النخب المثقفة، ليس فقط تلك التي تأخذ حصتها من غنيمة الاستبداد، بل ايضا تلك التي تعتبر نفسها ثورية، نقدية ومستقلة. وفي نقد مثل هذا الفكر الذي يكن عداء صريحا للسياسة، ليس فقط بالعمل على تغييبها، بل أيضا في ترسيخ وعي شعبي سلبي بنوع من الرفض المطلق لكل ما هو سياسي، كتب مهدي عامل كتابا رائعا، بين فيه خطورة ما يعيد إنتاجه هذا الفكر اليومي من وعي أيديولوجي. يخدم الممارسة السياسية للبورجوازية الكولونيالية، أي أنه يشوه الوعي الشعبي لحقيقة الصراع السياسي الدائر في داخل المجتمع. إذن فالمسؤولية الفكرية والسياسية لموت السياسة في مجتمعاتنا تعود في الاساس الى هذا التحالف السري، بين مثل هذه النخب والاستبداد.

والمسؤولية لا تنحصر فقط في نشر التصحر السياسي، بل تطال أيضا كل إشكال التفتيت والتمزق والحروب التي تعيشها المنطقة اليوم. لأنه غالبا ما تخاض اليوم التحولات من موقع سيرورتها الثورية، بوعي طائفي سياسي، كيف ما كان شكله الاثني او الديني او مذهبي…، ولنا في الحروب التي تخاض اليوم في اليمن، العراق، سوريا…خير مثال على ممارسة التغيير بوعي طائفي سياسي. الشيء الذي يجعل من الصعب أو بالأحرى من المستحيل تحقيق التغيير في غياب السياسة. وبتعبير أدق الممارسة السياسية المعبرة عن الوجود السياسي المستقل للقوى الشعبية، أي تلك الممارسة النقيضة للوعي السياسي الطائفي الذي هو في حقيقته السياسية عبارة عن الممارسة الايديولوجية الاستبدادية للصراع السياسي.

بناء على هذا النقد للفكر الطائفي واليومي الذي أنجزه مهدي عامل نفهم حقيقة التفتيت والتمزق والحروب الاهلية، والارهاب. بمعنى ان المجهود النظري والنقدي والسياسي، الذي قام به مهدي عامل، يمثل استراتيجية إرشادية لتجاوز غموض و ضبابية الالتباسات الحاصلة في صيرورة التحولات، التي تعيش هذه المجتمعات. ولذلك نفهم الارهاب و الوعي الطائفي السياسي القبلي والاثني والديني المذهبي المسيطر، كشكل سياسي للصراع الدائر على الأرض، وفي ساحة الفكر والثقافة والاعلام…، وهذا يدل على نجاح الاطراف المحلية والاقليمية والدولية كقوى مضادة للتغيير في لجم حركة التغيير وتحريف مساراتها. وذلك بعمل تلك الاطراف على تأبيد الحل الطائفي السياسي، وتكريس المأزق التناقضي لقوى التغيير بين موقعها الثوري ووعيها الطائفي.

لا يمكن للتفكير مع أو ضد مهدي عامل أن يكون حاسما ونهائيا، لذلك تبقى الكتابة مفتوحة النهاية، بل تنفتح الكتابة نفسها بعد إعادة قراءتها على ضوء أسئلة نقدية ذاتية، في نوع من ضرورة موضوعية لاستئناف سيرورة الإنتاج باستمرار. وفي هذا يتمثل قلق الفكر البعيد عن الوثوقية والحقائق اليقينية. هذا هو سر حضور، الآن هنا،  راهنية مهدي عامل التي تتجاوز موته واغتياله السياسي.

 4 – السنّة والشيعة، وداعش الثَّالثة الاخرى

     ما الذي يجعل الحروب الاهلية والطائفية التي تخاض في المجتمعات العربية، تبدو وكأنها حقا حروبا دينية ومذهبية؟ كيف يأخذ التأسيس الايديولوجي للصراع السياسي هذا الشكل الديني والمذهبي والطائفي؟ ولماذا تم تسييد هذا الفهم والتصور للواقع في السياسات الاعلامية والتواصلية بمختلف اشكالها. و في أغلب الكتابات، وكأنه الامر الواقع لحقيقة ما يجري من صراعات داخل هذه المجتمعات؟ وما دور الالهة المذهبية، التي خلقها الاجداد وباركها الاحفاد بنوع من الاجتياف النفسي والثقافي الاجتماعي المستعصي على التغيير، في تأجيج الصراعات والرفع من سقف الدم المهدور والشعب المنكوب والبلد المهدوم لتشويه حقائق الواقع وما يعتمل في داخله من صراعات؟

نعتقد أن محاولة تأسيس إجابات موضوعية حول هذه الأسئلة، ينبغي أن تنطلق من ظروف وشروط الواقع الراهن، أي انطلاقا من سيرورة تاريخية، وما تنتجه التناقضات المجتمعية بين الفئات الاجتماعية من صراعات مختلفة اقتصادية واجتماعية وسياسية وايديولوجية. هذا يعني البحث في الأسس المادية للمواقع والمصالح  الاجتماعية، وفي الممارسات الايديولوجية والسياسية، بصورة أساسية. وهذا ما سيجرنا الى استحضار جملة من المعطيات حول طبيعة مجتمعاتنا التي سميت متخلفة، سائرة في طريق النمو، عالم ثالث، كولونيالية…

 وبالتالي استحضار كذلك موقعها في وحدة التاريخ العالمي الذي أفرزه التراكم الرأسمالي في إطار عالم غير متكافئ. وفي سياق هذا الاستحضار لا بد من الوقوف على طبيعة الانظمة السياسية العربية، التي سميت رجعية. أو التي سميت تقدمية بمشهديهما السياسي وما يتضمنه من قوى حزبية سياسية ونقابية وحقوقية وفكرية ثقافية…

طبعا لن نتناول كل هذه المعطيات بالتحليل والنقاش، بقدر ما ننبه القارئ الى ضرورة استحضارها اثناء محاولة فهمه لحقيقة الصراعات، التي تعيشها مجتمعاتنا. لأننا نفترض بان القارئ يدرك كل هذه المعطيات بشكل او باخر.  أي أننا أوطان ومجتمعات تاريخية اجتماعية اقتصادية سياسية وثقافية، ولسنا بجماعات عجائبية غرائبية اثنية ودينية ومذهبية طائفية، تحكمها خصوصية ما تميزنا عن سائر الشعوب. كما يروج لذلك الارهاب السياسي والحربي في شكله الديني السني أو الشيعي، كعلاقة سياسية مرتبطة بالنظام السياسي الاستبدادي الطائفي المحلي أو الإقليمي. أو مرتبطة بصورة ما بالهيمنة الامبريالية الروسية والأمريكية الاوربية، وأيضا بالإرهاب السياسي والحربي لهذه القوى الامبريالية. سواء في جعلها الإرهاب شكلا سياسيا عبر الاقتصاد والإعلام والتكنولوجية المعلوماتية… لمعاودة إنتاج السيطرة والهيمنة ولجم حركة التغيير داخل مجتمعاتنا حماية لمصالحها، أو في جعلها الارهاب آلية فاشية سياسية لتصريف أزماتها الداخلية الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. التي تتفاقم بشكل مستمر بفعل منطق تطور النيوليبرالية التي تلتهم كل يوم مكتسبات مجتمعاتها، التي حققتها عبر تاريخ الصراع السياسي والاجتماعي، لما يعرف بدولة الرفاه. لذلك نقول بأنه ليست هناك أية استعدادات دينية لغوية، عرقية مذهبية، واثنية تجعلنا أقرب إلى مجازر الحروب الاهلية والطائفية. وأبعد عن تأسيس مجتمعات متحضرة وكونية في قيمها الإنسانية الفكرية والثقافية والاجتماعية، في إطار دولة المواطنة الديمقراطية الحديثة.

 ومن ثمة فلا ضرورة إلى النبش في إرثنا الثقيل بعنف الحروب والدماء. لأن ذلك عبارة عن مراحل تاريخية لها سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أي عبارة عن صراعات سياسية تم استثمار فيها كل مظاهر الصراع السياسي في مستوياته الاقتصادية والأيديولوجية. وذلك للتأسيس الايديولوجي لمشروعية السطو على السلطة واحتكار العنف، من خلال التسييج الإلهي المقدس لشرعية هيمنة أحادية الحكم، بآلية التوحيد الديني التي لا تقبل بالمشاركة في السلطة. حيث تعتبر ذلك كفرا وشركا وتعددا للآلهة. كما لا ضرورة سياسية اجتماعية، ولا فكرية ثقافية، في تمثل  الوجه الآخر ”للمسلم الأعلى”. أي تقمص البعد النبوي في تجديد الفكر الديني، من خلال غزارة النصوص الحمضية السامة، للكثير من الكتابات الإسلاموية العاقلة بقناع العقل والتنوير في نقد الذات  الخصوصية المتجوهرة إسلاميا والمسؤولة عن الارهاب والحروب الاهلية.

يوجه مهدي عامل الكثير من النقد لكل أشكال الفكر الاستبدادي السياسي والديني، التي تشوه حقيقة الصراعات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وهي تحاول التحايل الايديولوجي من خلال مفاهيم الذات والخصوصية، وجوهر المجتمعات العربية الإسلامية الذي لا يتغير، وليس كمثله شيء. ينبهنا مهدي الى الانطلاق من الواقع المادي لعلاقات الانتاج الكولونيالية، من البنية الاجتماعية في تميزها واختلافها في إطار الارتباط التبعي البنيوي بالبنية الاجتماعية الغربية، من خلال العلاقة الكولونيالية. بمعنى أن مختلف الازمات التي تعيشها مجتمعاتنا مرتبطة بهذه البنية المادية الكولونيالية، من خلال الممارسة السياسية للأنظمة السياسية البورجوازية الحاكمة. عوض البحث في المكونات السوسيولوجية والثقافية والاثنية ، في جذورها التاريخية، ينبغي على الأقل تفكير العلاقة الكولونيالية. كسيطرة وهيمنة في مستوياتها السياسية، بدءا بمشاريع  الشرق اوسطي والمتوسطية.  وموقع اسرائيل منها ومن القمم التي تعقد بهذا الشأن في المدن العربية. والتنافس الى حد صراع الأدوار بين الاتحاد الاوربي وأمريكا وروسيا في المشاريع المطروحة، كشكل سياسي لإعادة انتاج السيطرة والهيمنة، بما يضمن ديمومة العلاقة الكولونيالية. وفي هذا السياق ظلت أمريكا تتحكم في المشهد السياسي العربي الاسلامي للأنظمة السياسية الحاكمة بمختلف أزماتها.

 وفي هذا الاتجاه نعرف الدور الأمريكي في المنطقة في فرض سياسته وشروطه سواء لحماية أمن اسرائيل وتقوية موقعها ونفوذها وتكريس استيطانها الاحتلالي، أو في خلق حالة من الهجوم الإرهابي في حق شعوب المنطقة. من خلال الضغط على أنظمتها السياسية الاستبدادية، في ايران وخاصة في العراق…، حيث عملت أمريكا ما يكفي لتمزيق العراق وتفكيكه، ولم تكن تطرح ذلك سرا، بل مارست في حق هذا الشعب عقوبات أشبه بالمجاعةّ المذبحة. وهي ترقى الى مستوى الجرائم ضد الانسانية. بالإضافة الى دورها في الصراع العربي الصهيوني، ومدى انتشارها العسكري في المنطقة الى درجة تنظيم مناورات مع بعض الانظمة العربية ضد جيرانهم عرب وغير عرب. ولا ننسى الادوات الاخرى التي يستخدمها الغرب و أمريكا لتأبيد العلاقة الكولونيالية، من خلال المؤسسات المالية والنقدية، كالبنك والصندوق الدوليين في فرض الاصلاحات الهيكلية والانخراط في العولمة من موقع الارتباط البنيوي.  وتحرير التجارة والنقد، والهدف واضح هو السيطرة على قوى الانتاج داخل الوطن، لتقوية الهيمنة على الارادة السياسية للأنظمة العربية وبالتالي السطو على امتلاك القرار السيادي بشأن مستقبل ومصير الوطن. وباختصار نقول إن الممارسة السياسية الامبريالية  تشتغل بشكل شامل وبنوع من التنسيق التعاوني بين ما هو رسمي وغير رسمي، مثل أشكال الفعل التي ينتجها رجال الاعمال والمؤسسات الاعلامية و البحثية بالتكامل مع ما تقوم به الديبلوماسية الرسمية.

أما الوجه الآخر للأرضية المادية لهذه الحروب الأهلية والطائفية، فيتمثل ليس في أزمة الحضارة العربية، بل في أزمة البورجوازيات الحاكمة في أساسها الاقتصادي وشكلها السياسي. حيث تمارس أبشع أنواع الاستبداد والهدر الاقتصادي والاجتماعي والفكري والجسدي… ، في إطار مشهد سياسي كل شيء فيه زائف ومزور في التنمية والنمو، في الانتخابات والحرية وحقوق الإنسان، في مسايرة التحولات العالمية، في الصحة والتعليم والتقدم العلمي والتكنولوجي…

لا حديث عن التنوع والاختلاف والتعددية الثقافية والسياسية، التي تعبر عن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة في تشكيل وتوحيد المجتمع.  وحدها مشاريع صناعة القمع والقهر والخوف والموت، وهدر مناعة وحصانة الوطن. وجعله أساسا خصبا للتفتيت والتجزيء، وللحروب الأهلية بمختلف مظاهرها الاثنية والدينية…، مع تأثيث المشهد السياسي بالكثير من الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية التي تشتغل، وهي لا تفكر في التغيير المجتمعي الشامل، بل عينها على السلطة كممارسة ايديولوجية لاستمرارية الشكل السياسي للبورجوازيات الحاكمة. بالإضافة إلى الجمعيات المسمات مدنية، لكنها في حقيقتها السياسية الاجتماعية هي أقرب إلى جمعيات المجتمع القبلي السياسي. كممارسة ايديولوجية سياسية شعارها فرق تسد وفاء للدرس الاستعماري في فرض التجزيء السياسي، المناطقي والطائفي. البعيد كليا عن جمعيات المجتمع المدني.

ما أبشع وضع المثقف في مجتمعاتنا عندما يقبل الخروج من التاريخ طواعية للولوج في عالم الأسطورة السحري، وهو يقرأ الحاضر بلغة الغيب والماضي، بل يزايد على عامة الناس باستحضار تاريخ الآلهة المذهبية  التي سماها الأجداد بدافع مصالحهم السياسية والاجتماعية.

شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!