الاحتفالية في مواجهة المأتمية

الاحتفالية في مواجهة المأتمية

د. عبد الكريم برشيد

   فاتحة الكلام

           يقول شومسكي بأن مهمة المثقف هي أن يقول الحقيقة، ولكن، قبل قول هذه (الحقيقة) والتي قد لا تكون حقيقية بالمعنى الحقيقي، ألا ينبغي أولا إدراكها والتأكد بأنها فعلا هي الحقيقية وليس ما يشبهها، وحتى أكثر الأميين والجاهلين، بينهم وبين أنفسهم،  يعتقدون بأن كلامهم هو وحده الحقيقية، وبأن كتاباتهم هي الحقيقة، ورحم العلماء الذين كانوا يختمون أبحاثهم العلمية بأن يقولوا (والله أعلم)، يرددون قول الله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

ووجودي اليوم، أنا الاحتفالي، العاشق المعرفة والحكمة،في كل الواجهات وفي كل الجبهات الفكرية والعلمية والفنية دليل على أن معركة المعرفة الاحتفالية لم تحسم بعد، وعلى أن هذه الاحتفالية أكبر وأخطر من الاحتفالي.

ولقد اقتنعت، أنا الكاتب المسرحي، أن نصوصي المسرحية، وحدها لا تكفي لإدراك حقيقة هذه الاحتفالية، ولهذا فقد أصدرت بيانات بعد بيانات بعد بيانات بعد بيانات.. وذلك على امتداد نصف قرن، وإلى حدود هذا اليوم، فإنني مازلت مقتنعا بأن هذه المسرحيات وهذه البيانات وحدها لا تكفي، ولهذا فقد بينت مسرحياتي وفلسفة مسرحياتي من خلال مقدمات نظرية، نشرتها في مفتتح هذه المسرحيات، والتي هي بيانات فكرية بصيغة أخرى. 

و إنني أنا الاحتفالي المفكر والمسرحي أقر وأعترف، بأنني لا أعرف من هذه الاحتفالية إلا شيئا قليلا، وبأن جهدي في البحث وفي التجريب يظل جهدا محدودا جدا، ولكنه، وفي المقابل، فإن هذه الاحتفالية تظل بلا حدود، ولقد أكدت دائما، وفي كل كتاباتي الفكرية والنظرية،على أن هذه الاحتفالية هي محيط بلا ضفاف، وعلى أنها حياة بلا موت، وعلى أنها بداية بلا نهاية، وعلى أنها وطن بلا حدود.

وهذه الحقيقة الاحتفالية التي أبحث عنها، ليست حقيقة واحدة، فهناك الحقيقة الاحتفالية الخفية، وهناك الحقيقة الاحتفالية المعتقلة وهناك الحقيقة الاحتفالية الغائبة، وهناك الحقيقة الاحتفالية المغيبة، وهناك الحقيقة الاحتفالية الممكنة الوجود، وهناك الحقيقة الاحتفالية المستحيلة، أو شبه المستحيلة مثل حقيقة الروح، والتي هي من أمر الخالق وحده.

وهناك الحقيقة الاحتفالية الماكرة، وهناك الحقيقة الاحتفالية الزئبقية، وهناك الحقيقة الاحتفالية الحلوة وهناك الحقيقة الاحتفالية المرة،. نحن من كل هذه الاحتفاليات التي لا عد لها لها ولا حصر، ما أوتينا من الاحتفالية إلا قليلا.

                 بداية غير احتفالية لمسيرة احتفالية

 والحياة الحقيقية لها ثمن بكل تأكيد، ولا شيء في هذه الحياة بالمجان، إلا بالنسبة للذين يتوهمون أنهم من الأحياء وهم شبه أحياء، ولعل أغلى ما في وجود حياة الناس هو التعييد الاحتفالي، أما أسوا شيء، بالنسبة لحياة الإنسان المدني، والذي هو كائن اجتماعي وثقافي واحتفالي، فهو أن يجد نفسه غريبا في عالم هو عالمه وفي كون هو كونه، وفي أيام هي أيامه التي تنكرت له، وتبرأت منه، ولقد أوضحت معنى هذه الغربة الوجودية وهذا المنفى الثقافي في احتفالية مسرحية أعطتها، أو أعطت نفسها، اسم (الناس والحجارة) حيث تحضر الحجارة الجامدة في سجن الوجود وسجن الحياة، وبغير الناس الأحياء في حيوية الحياة، فإنه لا يكون لهذه الحياة أي معنى، وعن مسار تلك الأيام، في ذلك السجن الأبدي والسرمدي، والتي لا جديد فيها، ولا عيد فيا ولا تعييد يقول ذلك السجين الذي ليس له اسم، وليس له أية تهمة معينة، سوى أنه موجود وحي، وليس له ملف لدى القاضي الغائب بشكل دائم، يقول السجين في هذه الاحتفالية المسرحية:

(إن كل الأيام داخل هذه الجدران هي يوم واحد، وكل الساعات فيه هي ساعة واحدة، فلا اختلاف فيها ولا جديد.. لا جديد.. هي لحظة واحدة، لها في النفس والروح شعور واحد، هو الشعور بالاحتضار الطويل.. وجودي هنا لحظة بطيئة جدا، ثقيلة وطويلة، مثل لحظة ما قبل الموت.. إننا نعيش يوما واحدا ليس له اسم، وقد نسيت كل أسماء الأيام، وكل أسماء الشهور، وما كل الساعات إلا ساعة واحدة، تبدأ ولا تنتهي.. ساعة تلتف حول نفسها، وتأكل نفسها، ولا تستطيع أن تخرج من جلدها).

وهذا اليوم، الذي يلتف حول نفسه، والذي يأكل نفسه، والذي يكرر نفسه، هو اليوم الذي بحثت له الاحتفالية عن الحياة وعن الحيوية عن الجديد وعن التجديد، وبذلك فقد أمكن أن نعتبر هذه المسرحية مدخلا أساسيا العيش الاحتفالي وللفكر الاحتفالي والفن الاحتفالي والتاريخ الاحتفالي الممكن الوجود.

وفي تقديمه لهذه (الاحتفالية) المسرحية، يقول الكاتب الاحتفالي في الطبعة التي نشرتها “إيديسوفت” بمدينة الدار البيضاء ما يلي، هي (كتابة أخرى جديدة ومتجددة لأقدم مسألة في الوجود، والتي هي مسألة الوجود نفسها، وتأتي هذه الكتابة بعد ثلث قرن من كتابتها الأولى، والتي تمت في القرن الماضي، وفي الألفية الماضية، وهي اليوم تنكتب بنفس يد المؤلف، وذلك بعد أن تغير هذا المؤلف، وبعد أن تغير الناس في عالم الناس أيضا، ولكن، هل تغير شيء في عالم الحجارة المرعب؟

ذلك هو السؤال الذي يطرحه هذا الرحيل الإبداعي على فكر ووجدان وروح واحد من الناس، والذي قد يكون هو كل الناس ونحن لا ندري.

وإلى حدود هذا اليوم، فما زال ذلك السجين بين الجدران العالية و العاتية، ومازال مبعدا عن الناس وعن عالم الناس، ومازال محروما من الحق في الاحتفال والتعييد، ومازال دائماـ وكما كان من قبل ـ يعاني بؤس الغربة ووجع المنفى، ومازال ذلك السجين الغريب ـ والذي هو أقدم سجين في الوجود والحياة ـ يتساءل عن معنى وجوده في سجنه، فهل هو سجين أفكاره الغريبة و العجيبة؟

 وهل هو سجين معتقداته التي تسربت إليه من أي مكان، أو من اللامكان؟

 وهل هو اليوم سجين عصره البلاستيكي الجديد، والذي يحتفي بالصورة وحدها، ولا يهمها صاحب الصورة؟

وهل هو سجين تاريخه الذي لم يختره؟

وهل هو سجين هويته التي فرضت عليه فرضا، من غير أن يختارها، فكان ضروريا أن يكون هو هو، ولا يكون غيره؟

وهل هو سجين جغرافيته التي ألزمته بالتزام مكان واحد، و حرمته من أن يكون حاضرا في كل الأمكنة الأخرى، والتي لا يمكن أن يكون لها عد ولا حصر؟ 

وهل هو سجين ثقافة مجتمعه، والتي حكمت عليه بالغربة والقهر وبالمنفى، وأبعدته بالتالي عن الثقافات الأخرى، وعن اللغات الأخرى، وعن الحضارات الأخرى؟ 

وهل هو سجين عماه الفكري والروحي؟

وهل هو سجين قدره الذي كتب عليه في السماء، والذي لا يمكن أن يمحوه الماء؟

هي أسئلة وجودية كبرى تطرحها هذه الاحتفالية المسرحية، ولكن الأجوبة عنها تظل غائبة أو مغيبة، أو تظل متعلقة بعالم الغيب، ويبقى هذا الإنسان السجين متهما بتهمة غير واضحة، أو بتهمة غير معروفة، أو بتهمة غير معقولة، وذلك لأن ملف هذا المتهم احترق، أو لأن ذلك القاضي المنتظر قد أدركته الشيخوخة ومات، وبذلك يظل سجينا إلى الأبد).

                        عندما تحضر الحجارة ويغيب الناس

ونحن أمام احتفالية ناقصة ومعطوبة (لأن شرط الاحتفال الأساس هو الحضور والتلاقي، وهو الجوار والحوار، وهو الغنى والامتلاء لحد الفيض، وفي هذه (الاحتفالية) المسرحية نجد الحجارة وحدها ويغيب الناس، ونقتنع بالحقيقة المرعبة التالية، وهي أن أقدم سجن في الوجود هو سجن الوجود، وبأن أخطر سجن في الحياة هو سجن الحياة، وبأن أقدم سجين في التاريخ هو هذا الذي يسمى الإنسان، ولعل أخطر جرائم هذا الإنسان، الحي والعاقل والمحتفل والمعيد، رغم غياب كل شروط التعييد، هو أنه كائن يصر على أن يكون إنسانا بشكل حقيقي، وأن يكون حيا وعاقلا ومشاغبا ومحتفلا ومعيدا دائما، أما أخطر أعداء هذا الإنسان، الناطق والمتحرك والمتجدد، فتتمثل في صمت الحجارة الخرساء والجامدة، كما تتمثل في غياب الحياة والأحياء فيها، والحياة الحقيقية بكل تأكيد، وليس تلك الحياة التي هي مجرد صور سينمائية متحركة في هذا العالم المتحرك).

وهذا السجين الوجدي، والذي جسده وشخصه كبار الممثلين المغاربة والعرب، وذلك على خشبات مختلف المسارح المغربية والعربية، هو الذي خاطبنا بقوله لنا:

(بحق الله، لا تسألوني عن قصتي، هل هي ضاحكة أم باكية، وهل هي مفيدة أم مسلية؟ وكل ما أعرفه عنها هو أنها قصة، مثل كل القصص، قصة وكفى، وقد لا تكون هذه القصة قصتي وحدي، وقد لا أكون أنا هو أنا، والا أكون واحدا من الناس، ومن يدري، فقد أكون كل أسماءالناس وأنا لا أدري..).

هكذا تحدث ذلك السجين في هذه الاحتفالية المسرحية، والذي لا يحمل اسما من الأسماء، والذي يمكن أن نسميه بما نشاء).

هو شخص وحيد وغريب في سجن غريب وعجيب، إنه لا أحد معه في غربته ومنفاه إلا ذلك الرشح الذي في الجدار، والذي اتخذ صورة قرد، والذي أخرجه السجين من الجدار، بسلطة خياله، وأعطاه اسم قردل، وجعل منه صديقا  في سجنه، وجعل منه رفيقا في رحلاته الخارجية، والتي أوصلته إلى عالم الناس المخيف وإلى مدنهم المرعبة.

و (في البدء يا إخوتي كان مجرد رشح في الجدار.. هذا الجدار تحديدا، ثم أخذ الرشح يتخذ صورة قرد، فظهرت له عيون وشعر وأقدام وأصابع، ولما كنت وحيدا في غربتي ووحدتي، فقد قررت، أن أمنحه الحياة، وأن أشركه معي في هذه الظلمة، وأن أقتسم معه هذا الهواء الفاسد، وأن أعطيه شيئا من طعامي وشرابي، وأن أشركه في سريري وفي فراشي وفي أوهامي وفي خوفي وفي قلقي..).

                               رب لا تذرني وحيدا

هذه الاحتفالية هي الحياة، والحياة حرية و تحرر، ولهذا فقد كانت هذه المسرحية صرخة ضد الاعتقال وضد السجن وضد المنفى وضد الغربة وضد الجمود وضد الحدود وضد كل القيود، المادية و المعنوية.

والحياة الحقيقية هي دماء تتجدد، وذلك في أزمنة تتجدد، وفي أمكنة تتجدد، وفي حالات ومقامات تتجدد، وفي مواقف تتجدد، وبغير هذا، فإنه لا يمكن أن نسميها الحياة، كما انه لا يمكن أن نسمي الإنسان فيها إنسانا، وقد يكون من حقنا أن نسميه حجرا أو تسميه شجرا، أو نسميه أي شيء من الأشياء.

والاحتفالية هي العيد والتعپيد، وهي الجديد والتجديد، وماذا يمكن أن يكون الموت سوى أنه اللاجديد واللاتجديد واللاعيد واللاتعييد؟

وإنني، أنا الكاتب الاحتفالي، قد دخلت عوالم وأكوان هذه الاحتفالية السحرية من أبوابها الحقيقية، وإنني أعتبر أن هذه المسرحية (الناس والحجارة)  هي البداية المؤسسة المد الاحتفالي في تاريخ الفكر المغربي والعربي الحديث والمعاصر، ولقد تمثلت البداية من وجود إنسان مغربي وعربي يعيش سجينا على هامش الحياة وعلى هامش التاريخ، وقد بدأت هذه الاحتفالية مسيرتها من خلال سجين يعيش الوحدة والغربة، ويعيش العزلة والمنفى، ويعيش على حافة المجتمع، ويحيا شبه حياة خارج التاريخ.

ويبقى السؤال، انا الاحتفالي، الهارب من الأنا والأنانبة والعاشق للنحن والنحنية، ما علاقتي بمسرح صغير ومختزل وفقير ومحمود جدا،  مسرح يحضر فيه الشخص الواحد والهم الواحد والحلم الواحد والموقف الواحد والمسار الحياتي والعمري الواحد،  وتغيب فيه وعنه الجماعة وفكر الجماعة وتفاعلات الجماعة؟.

وكما أن هذا السجين المسرحي، لم يختر أن يكون في زنزانة مغلقة، وأن يكون وحيدا، فقد وجدت نفسي مجبرا على  أن أضعه حيث وضعه هذا الواقع الذي لا يرتفع، وحده، ولقد اجتهدت من أجل أن أضع كل الآخرين بداخله، وأن أجعله يتحدى المكان المغلق، وأن يتحدى الغياب، وأن يستحضر بداخله كل العالم  الخارجي.

وفي دعائي اليومي يحضر معي في كل لحظة وحين دعاء زكرياء الذي قال:

(رب لا تذرني وحيدا وأنت خير الوارثين).

وهذا هو دعاء كل احتفالي يؤمن بأنه لا يمكن أن يكتمل إلا بوجود الآخر، ولا يمكن أن يكون قويا إلا بمساعدة الآخر ، ولا يمكن أن يكون عالما إلا بمساعدة معلم من أهل العلم.

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!