التطبيع مع البشاعة!

التطبيع مع البشاعة!

عبد العلي جدوبي 

            ما هي حدود العلاقة بين بين الغناء والأخلاق وطبيعة الخيط الناظم بينهما؟ وهل يدخل أي كلام أو أي غناء ضمن حرية تعبير؟

بعض الآراء انتقدت – الأيام الأخيرة – وبشدة فن (الراي) في شخص “طوطو” صاحب الأسنان الفضية، واعتبرت ما يتفوه به هو إسفاف وصورة صادمة، تجافي الذوق العام – وهذا صحيح – غناء يلامس المحظور ويعانق الممنوع، هذه السلبيات وغيرها إختزلتها تلك الآراء في فن (الراي) الذي اعتبره بعض المهتمين بالحقل السوسيولوجي تمجيدا للفشل وللهزيمة وتعبيرا عن التصادم مع الاخرين، وتصريف كبت نفسي دفين.. مع أن الراي لا يختزل في شخص (طوطو) ومن على شاكلته..!

المسألة تحتاج إلى التدقيق ورسم الصورة الحقيقية  لفن (الراي) الذي انتشر – كما هو معلوم – كفن جديد له خصوصياته على يد عدد من الشباب المغاربيين المهاجرين في أوروبا، أمثال الشاب خالد، ومامي، وبلال وعقيل، وعمرو، ورزقي، وميمون الوجدي، وبرياح… وغيرهم. وقد استلهموا الفكرة من “الهيب هوب” الأمريكي الذي شهد ولادته بأزقة برونكس بداية الثمانينات، كتعبير عن واقع التهميش والاضطهاد الذي يتعرض له الشباب السود في أمريكا، هذا الفن صنفته هيئة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) كثرات عالمي لا مادي خلال نوفمبر العام 2022 بالرباط 

كما أن الراب وجد متنفسا في المنطقة العربية كتعبير عن واقع يرفضه شبابها، وحقق انتشارا على أوسع نطاق بخروجه عن المالوف بالنسبه للاغاني المتداولة هناك .

مناسبة هذا الكلام ما عاشه جمهور منصة السويسي بالرباط، ضمن مهرجان موازين، مع المغني الملقب بطوطو، والذي بعثر ركائز فن الراب الأساسية بسلوكه غير الملتزم بضوابط وحدود الأخلاق العامة. وهو الذي تمكن من استقطاب جمهور عريض من الشباب والمراهقين، غالبيتهم من ضحايا الهدر المدرسي، وكون من حوله طوقا يصعب تفكيكه بسهولة، فهناك لمسة من الكآبة تزامنت مع انفجار أزمة العطالة وظاهرة الهجرة السرية في أوروبا ..

وهنا لابد من الاشارة إلى أن أغاني عدد كبير من شباب الراي تعد من الأعمال الجيده (الشاب خالد نموذجا، مع الأسماء الأخرى السالفه للذكر) حققت انتشارا على أوسع نطاق، بل إن العديد من تلك الأغاني دخلت إلى العالمية، نظرا لقيمتها الفنية، من حيث التركيبة اللحنية والإيقاعات المستعملة والكلمات الهادفة، فضلا على التزام أصحابها بضوابط العمل الفني وبالأخلاق العامة عندما يصعدون إلى منصات الغناء أمام الجمهور .

وما يؤسف له حقا أن “الراب” الذي أوجد مناخا فنيا خصبا في العديد من المجتمعات العربية، تحول خلال السنوات الأخيرة من طرف البعض إلى مجال تفريغ المكبوتات، وإلى هدم قواعد الفن الجميل، بفعل سهولة تسجيل تلك الهرطقات الكلامية، وبفضل التقدم التكنولوجي والتكلفة الزهيدة للإنتاج، واستفادو أيضا من منصات التواصل الاجتماعي للترويج والانتشار بسرعه مذهلة منذ بداية الألفية الجديدة، وتدافعت موجات الكليبات كمدافع مدججة بكل أنواع القبح والبشاعة، وأعطت صورة مشوهة للجيل الحالي الذي يعيش حالة من الانفعال والهيجان بعد سماعه كلمات تشجع على العنف، وتمجد الكراهية، وهيمن على لغة الراي في زمن طوطو، ومن سار على منواله، عنف لفظي يستثير النزوات الدفينة إلى التغني بالخسائر والخيبات الاجتماعية والفكرية..

إنه التطبيع مع الإسفاف والبشاعة. 

شارك هذا الموضوع

عبد العلي جدوبي

صحفي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!