التكنولوجيا والصحافة.. الممكن والمستحيل

التكنولوجيا والصحافة.. الممكن والمستحيل

جمال المحافظ

          لا يمكن فهم الصحافة والإعلام، فهما شموليا، دون الإحاطة بمؤسسات المجتمع ونظمه المتعددة، باعتبار أن وسائل الإعلام هي جزء من البناء الاجتماعي، وأن تطورهما، يعد نتيجة لعمليات التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحاصل في أي بلد، فضلا عن تأثرهما بالأنساق الإيديولوجية، وهو ما يجعل الاعلام، لا يستطيع أن يظل مستقلا عن مجمل البيئة المحيطة به.

فالعلاقة ما بين الإعلام والسياسة، رغم ذلك تظل جد وثيقة، لكون الإعلام ليس مجرد ناقل محايد، وإن كانت تساهم الأحداث المهمة في دفعه إلى الأمام، وأن الحقلين السياسي والإعلامي، أصبحا أكثر تداخلا، حيث أخذ هذا الترابط بين الاعلام والسياسة، يتعاظم بفضل التطور التكنولوجي والثورة الرقمية. لكن على الرغم من تعقد العلاقة بين هذين الميدانين، كما هو الشأن بالنسبة للعلاقة بين الثقافي والسياسي، مما يسمح ببناء فرضيات ومعطيات مساعدة على تركيب العلاقة بينهما.

هيمنة واستقطاب

وتتراوح هذه العلاقة، ما بين إرادة الهيمنة والاستقطاب، خاصة من لدن الفاعل السياسي، وهو ما يكشف المواقف الضدية المتباينة، جانبا من خلفيات هذا التنافر والتوتر المستدام والقائم بين المجالين السياسي والإعلامي من جهة والفاعلين فيه حسب كل سياق وحقبة تاريخية، من جهة أخرى.

وتواجه وسائل الإعلام، في الوقت الراهن، تحديات متعددة؛ من بينها الإشكالات التكنولوجيات الحديثة التي أسهمت في كسر احتكار الصحافيين والإعلاميين، لمجالات نشر وتعميم الأخبار والمعلومات، وأجهزت كذلك على ما تبقى من الصحافة الورقية، ومكنت الثورة الرقمية، معظم الشرائح الاجتماعية من الحصول على المعلومات، وأضحى بمستطاع، وفرضت هذه التحولات العميقة على مختلف الفاعلين في ميدان الإعلام والاتصال التكيف مع هذه المتغيرات؛ وفي مقدمتها تملك المهارات التي تفتضيها التكنولوجيات الحديثة، وتطوير قدرات المهنيين، من أجل التلاؤم مع الإمكانات التي أضحى يوفرها الحقل الرقمي المرشح لمزيد من التطور بفضل التكنولوجيات الحديثة.هذه التحديات، حتمت على الفاعل الإعلامي المهني التفاعل الإيجابي مع التحولات، والإجابة عن الإشكالات التي تطرحها وسائط الاتصال الحديثة، ليس فقط على المستوى التشريعي والقانوني والتنظيمي والأمني؛ لكن على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أيضا، مع التعامل باحترافية واتقان مع هذه التقنيات الجديدة، لتجويد وتطوير الأداء الإعلامي.

بيد أن تحديات رقمنة الصحافة والاعلام، وهيمنة الخوارزميات، تتطلب بالمقابل وعيا أكبر، وتأهيلا للعنصر البشري، للتفاعل مع الإكراهات التي يفرضها ” تغول التقنية”، مع جعل البرمجية، وسيلة لمساعدة الذكاء البشري في فهم العالم وتحويله لما يمكنُ أن ينفع البشرية بدلا من تركه، يتحول إلى أداة لن تكون ضد الصحافة والاعلام فقط، ولكن ضد البشرية كذلك، كما يسجل جايسون واتاكر في مؤلف “عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة”.

إقبال وتوجس

وعلى المستوى الوطني، فبقدر ما  يسجل اقبال متزايدا على التكنولوجيا، خاصة فئة الشباب، بقدر ما يلاحظ توجسا مبالغ فيه، بدعوى الاستخدام السيء لهذه التكنولوجيات الحديثة، في الوقت الذي بلغ عدد المشتركين في الانترنيت بالمغرب 42.1 مليون مشتركا عند متم سنة 2024 مسجلا بذلك معدل انتشار قياسي بلغ 112.7 في المائة (حسب مديرية الدراسات والتوقعات المالية)، مع ارتفاع حظيرة المشتركين في الهاتف المحمول الذي انتقل من 55 مليون مشترك في شتنبر 2023 الى أزيد من 60 مليون، في 2024، مع تغطية  70 بالمائة من الساكنة بخدمات الاتصالات من الجيل الخامس في أفق 2030 ، وفق ما جاء في مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة برسم السنة المالية 2025 .

زمن جهة أخرى أسهمت الثورة الرقمية في إفلاس وانقراض عدد كبير من وسائل الإعلام، خاصة منها الورقية التي وإن استمر بعضها في الصدور، فإنها تعيش “قصة موت غير معلن”، كما  فقد الآلاف من الصحافيين في مختلف بلدان العالم لوظائفهم.

ضمانة ذهبية

ومن أجل الخروج من هذا النفق الذى وصلته وسائل الإعلام، يعد الالتزام بالمعايير المهنية الأخلاقية للاتصالات “الضمانة الذهبية” بالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام وفي التكنولوجيات الحديثة للاتصالات معا، ولأي فرد يسعى إلى الحصول على وسائل اتصال موثوقة وآمنة ، حسب البعض. كما أنه بفعل الأخبار الزّائفة وأساليب الدعاية وما يتداول في الإنترنيت، وغياب الضمير السياسي والاتجار بالثورة الرقمية أدى إلى “زعزعة منظومة الإعلام الجماهيري وإنهاكها”، فضلا عن “تهديد أسس الديمقراطية” حسب أيدن وايت الأمين العام السابق للاتحاد الدولي للصحافيين.

بيد أن  المطلوب، في هذا الإطار، فتح نقاش حول “الصحافة المقيدة بإطار المعايير الأخلاقية”، كضرورة لكسب ثقة الجمهور، باعتبار أن القيم الأساسية – مثل الدقة والاستقلالية والمعالجة المسؤولة للخبر – التي تطورت على مدى الـ150 سنة الماضية، تظل قيما ثابتة وعلى نفس الأهميّة، حتى في هذا العصر الذي تطغى عليه الرقمنة، وهو ما يقتضى تأسيس شراكة جديدة مع جمهور وسائل الإعلام وصناع السياسة لإقناعهم بضرورة تعزيز دور الصحافة الأخلاقية، وبإمكانية استخدامها كمصدر إلهام لوضع برامج جديدة للتربية على وسائل الاتصال والإعلام، كما يرى الأمين العام الأسبق للفيدرالية الدولية للصحافيين إدين وايت.

هيمنة وتكامل

 غير أن المشكلة تكمن في أنّ شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تهيمن على ساحة الإعلام الجماهيري، تعمل على ترويج المعلومات دون أن تعير أي اهتمام للمعلومات التي تندرج ضمن خانة المصلحة العامة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الصحافة والإعلام المهني، ولا تميز كذلك بين الإنتاج الصحفي والإعلامي وغيره من المعلومات والأخبار حتى ولو كانت غير موثوق بها وزائفة، إذ إن المهم بالنسبة إليها هو أن تكون مثيرة لاستقطاب “لايكات” ونقرات المبحرين في العالم الافتراضي.

ومن بين المخارج في هذا الصدد، يقترح إدين وايت، ما يعتبره “حلا بسيطا”، يتمثل في قبول مؤسسات التكنولوجيات الحديثة، تقمّص دور الناشر في العصر الرقمي الذي نحيا في ظله، والاستفادة من العدد الهائل من الصحافيين الأكفاء والملتزمين بأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام، لمواجهة الخطر الوخيم الذى يشكله تسويق المعلومات والأخبار الزائفة، كما أكد تيم برنرز-لي مخترع شبكة الإنترنت العالمية.

وإذا كان  تيم برنرز-لي حذر في رسالة مفتوحة نشرها في 12 مارس 2017، بمناسبة الذكرى الثامنة والعشرين لإنشاء شبكة الإنترنت من الخطر البالغ الذي يشكله تسويق وتعميم المعلومات الخاطئة والأخبار الزائفة، ومن مغبة وقوع عالم الإنترنت تدريجيا تحت هيمنة الحكومات والشركات الرقمية أيضا، فإن التغيير المنشود في الإعلام والاتصال، يتعين أن يحدث عبر مناهج بيداغوجية.

شارك هذا الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!