الحرب الوطنية العظمى: الذكرى الثّمانون لانتصار الشعب السوفييتي على النازية (2-4)

الحرب الوطنية العظمى: الذكرى الثّمانون لانتصار الشعب السوفييتي على النازية (2-4)

د. زياد منصور

حصار لينينغراد

          بدأ الحصار في الثامن من أيلول سنة ألف وتسعمائة وواحد وأربعين (1941)، إلى السابع والعشرين من كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين (1944).

معركة لينينغراد (أعوام 1941–1944)، المعروفة تاريخيًا بـ«حصار لينينغراد»، هي عملية الحصار العسكري التي فرضتها القوات الألمانية والفنلندية، إلى جانب “الفرقة الزَّرقاء” الإسبانية، على مدينة لينينغراد (التي تُعرف اليوم بمدينة سانت بطرسبورغ). وقد استمر هذا الحصار، بدءا من الثامن من أيلول سنة ألف وتسعمائة وواحد وأربعين (1941)، حتى السابع والعشرين من كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين (1944)، أي ما مجموعه ثمانمائة واثنان وسبعون (872) يومًا. وقد تم اختراق طوق الحصار جزئيًا في الثامن عشر من كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين (1943).

كان هتلر يُعدّ مصيرًا رهيبًا للينينغراد، فقد حلم بمحو المدينة عن وجه الأرض. وقد أمر قواته بمحاصرتها، وقصفها على مدار الساعة بجميع أنواع المدافع، وقصفها من الجو بلا هوادة، حتى تتحول إلى أنقاض.

ولتنفيذ هذا المخطط الهمجي، دفع القادة النازيون إلى جبهة لينينغراد بأربعين فرقة قتالية من نخبة القوات، وأكثر من ألف دبابة (1000)، وألف وخمسمائة طائرة حربية (1500).

هبّ سكان لينينغراد جميعًا للدفاع عن مدينتهم. وكانوا على استعداد للموت، لكن دون أن يستسلموا أو يُستعبدوا من قبل الفاشيين. تحولت المدينة إلى قلعة حصينة، حيث تم في وقتٍ قياسي تشييد خمسة وثلاثين كيلومترًا من المتاريس (35 كلم)، وأُقيمت أربعة آلاف ومئة وسبعون (4170) نقطة دفاع خرسانية (دوتات)، إضافةً إلى اثنين وعشرين ألف (22,000) موقع ناريّ.

وفي أيلول سنة 1941، طوّقت القوات الألمانية المدينة العنيدة. وبدأ العدّ التنازلي لأيام الحصار ولياليه. ومع بدء الحصار، لم تكن في المدينة مخزونات كافية من الغذاء والوقود. وكان الطريق الوحيد للوصول إلى المدينة عبر بحيرة لادوغا (Ladoga Lake)، والتي كانت تقع في مرمى نيران المدفعية والطيران المعادي، كما كانت البحرية المعادية تنشط فوقها. ومع ذلك، فإن القدرة الاستيعابية لهذا الطريق المائي كانت محدودة ولا تكفي حاجات المدينة.

نتيجةً لذلك، اندلع في المدينة جوع جماعي، زادت من قسوته شدَّة الشتاء الأول للحصار، وندرة وسائل التدفئة والنقل، ما أدى إلى وفاة مئات الآلاف من السكان.

قرابة ثلاث سنوات – تسعمائة يوم وليلة – صمدت لينينغراد في وجه هجمات العدو الشرسة.

وفي المدينة المحاصرة، لقي أكثر من ستمائة وأربعين ألف (640,000) شخص حتفهم نتيجة القصف، والقصف المدفعي، والجوع، والبرد.

ورغم اختراق طوق الحصار في كانون الثاني سنة 1943، إلَّا أن القوات والبحرية المعادية استمرت في حصار المدينة حتى شهر أيلول من سنة 1944. ولإنهاء هذا الحصار بشكل نهائي، شنّ الجيش السوفييتي، بدعم من سفن وطائرات أسطول البلطيق، عمليتين عسكريتين كبيرتين بين شهري حزيران، وآب سنة 1944، هما عملية فيبورغ (Vyborg) وعملية سفير-بيتروزافودسك (Svirsko-Petrozavodsk)، فتم تحرير مدينة فيبورغ في العشرين من حزيران، وبيتروزافودسك في الثامن والعشرين من الشهر نفسه، كما جرى تحرير جزيرة هوغلاند (Hogland) في أيلول من العام ذاته.

وبموجب مرسوم صادر عن هيئة رئاسة مجلس السوفييت الأعلى بتاريخ الثامن من أيار سنة 1965، وبفضل ما أظهره سكان لينينغراد المُحاصرون من بطولة جماعية وبسالة في الدفاع عن الوطن خلال الحرب الوطنية العظمى (1941–1945)، مُنحت المدينة أرفع درجات التميز، وهو لقب “مدينة البطولات” (Город-герой).، ويُصادف السابع والعشرون من كانون الثاني من كل عام يوم المجد العسكري في روسيا، وهو يوم التحرر الكامل لمدينة لينينغراد من الحصار (سنة 1944).

معركة ستالينغراد

    من السابع عشر من تموز سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين (1942)، إلى  الثاني من شباط سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين (1943).

تُعد معركة ستالينغراد من أشرس وأشد المعارك دموية في التاريخ، حيث سقط فيها نحو مليوني قتيل من كلا الجانبين. وهي معركة لا نظير لها في سجلات الحروب البشرية، امتدت من تموز سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين حتى شباط سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين.

اندلعت المعركة بعد أن تكبّدت القوات الألمانية هزيمة ثقيلة في معركة موسكو، فقررت القيادة النازية أن توجه كامل طاقتها العسكرية نحو ستالينغراد. كان الهدف فصل الجزء الأوسط من الاتحاد السوفييتي عن مناطق إنتاج القمح ونفط بحر قزوين، فشرعت ألمانيا في هجوم واسع النطاق على المدينة. تفوّق عدد الجنود الألمان بشكل كبير على عدد القوات السوفييتية. واستمرت معركة ستالينغراد مئتي (200) يوم وليلة متواصلة.

في الثامن والعشرين من آب سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين، وصلت القوات الألمانية إلى ضفاف نهر الفولغا، وبدأت محاولات الاقتحام المتكررة للمدينة. وفي الخريف، مطلع تشرين الأول، أصبحت مساحات واسعة من ستالينغراد تحت سيطرة القوات الألمانية. إلا أن المدافعين عن المدينة أبدوا بسالة خارقة، فراحوا يقاتلون في كل شارع وزقاق، ويدافعون عن كل شبر من الأرض، ومن أبرز رموز هذه المعركة تل ماماييف كورغان (Mamayev Kurgan)، الذي لا يزال شاهدًا صامتًا على وحشية القتال.

بفضل هذا الصمود العنيف، لم يتمكن الألمان من السيطرة الكاملة على المدينة، وتباطأت تحركاتهم بشكل ملحوظ. استمرت الدفاعات البطولية لستالينغراد أربعة أشهر، حتى قرر الجيش السوفييتي قلب موازين المعركة وشنّ هجوم مضاد.

في تشرين الثاني سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين، وتحت قيادة الجنرال فاسيلي تشويكوف (V.I. Chuikov)، أطلقت القوات السوفييتية هجومًا كاسحًا على العدو، وفي غضون يومين فقط، تمكنت من تطويق القوات الألمانية. وبحلول كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين (1943)، شرعت القوات السوفييتية في توسيع طوق الحصار، وتقدمت غربًا في موجة جديدة من الهجوم. وفي هذه الأثناء، تدهورت أوضاع القوات الألمانية المحاصَرة بقيادة المارشال فريدريش فون پاولوس (Friedrich Paulus) بشكل حاد.

وخلال الفترة الممتدة من الحادي والثلاثين من كانون الثاني إلى الثاني من شباط، استسلمت القوات الألمانية جماعيًا، وتم أسر عدد كبير من الجنود والضباط المحتلين. وقد أسفرت معركة ستالينغراد عن تدمير اثنتين وثلاثين (32) فرقة ألمانية، وخسارة ما يقارب مليون ونصف المليون (1,500,000) جندي ألماني. كما تم تدمير نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة (3,500) دبابة ومدفع، واثني عشر ألف (12,000) مدفع هاون ومدفعية، بالإضافة إلى ثلاثة آلاف (3,000) طائرة حربية. وأعلنت ألمانيا الحداد رسميًا عقب هذه الهزيمة الكارثية.

إن انتصار القوات السوفييتية على نهر الفولغا كان حدثًا مفصليًا غيّر مسار الحرب الوطنية العظمى بأكملها، ومثّل نقطة التحول في الصراع مع ألمانيا النازية.

معركة كورسك

     الخامس من تموز حتى الثالث والعشرين من آب سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين (5 يوليو- تموز– 23 أغسطس- أب 1943)

تُعد معركة كورسك واحدة من أبرز المعارك الحاسمة في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية على الجبهة الشرقية)، وقد اعتبرها المؤرخون نقطة التحوّل الحاسمة التي رجّحت كفة الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا النازية. وقد وقعت المعركة بين الخامس من تموز والثالث والعشرين من آب سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، وامتدت على مدى نحو خمسين يومًا من القتال العنيف، ووصفت بأنها أشرس معركة مدرعات في التاريخ.

خطط الألمان لمعركة كورسك في إطار عملية “القلعة” (Zitadelle)، وكانت تهدف إلى استعادة زمام المبادرة بعد هزيمتهم الكارثية في ستالينغراد. حشدت القيادة النازية قوات ضخمة في منطقة نتوء كورسك، وشملت هذه القوات أكثر من ألفين وسبعمائة (2,700) دبابة، ونحو ألفي (2,050) طائرة حربية، وعشرة آلاف (10,000) قطعة مدفعية وقاذفات هاون، بالإضافة إلى أحدث الأسلحة الألمانية آنذاك، مثل مقاتلات فوكه-فولف 190 (Focke-Wulf 190) والدبابات الجديدة “تايغر” (Tiger) و”بانتِر” (Panther) ، في محاولة لتنفيذ هجوم خاطف يقضي على الدفاعات السوفييتية.

على الجانب السوفييتي، تولّى قيادة العمليات المارشال غيورغي جوكوف (Georgy Zhukov) والجنرال ألكسندر فاسيليفسكي (Alexander Vasilevsky) .بلغ عدد الجنود السوفييت أكثر من مليون (1,000,000) جندي، مدعومين بـ تسعة عشر ألف (19,000) مدفع وقاذفة هاون، وألفي (2,000) طائرة من سلاح الجو السوفييتي.

أثناء القتال على قوس كورسك (Курская дуга)، وقعت بالقرب من قرية بروخوروفكا (Prokhorovka) أعنف معركة دبابات في تاريخ الحروب، حيث اشتبك في ساحة القتال نحو ثمانمائة دبابة من كل طرف. وتواجهت في هذه المعركة أسطورة الحرب السوفييتية T-34 مع الدبابة الألمانية الفتاكة تايغر. ورغم تفوق العدو تقنيًا وعدديًا في بعض النقاط، فقد حالت شجاعة الجنود السوفييت دون تحقيق الألمان لأهدافهم.

بعد صد الهجوم الألماني، أطلقت القوات السوفييتية هجومًا مضادًا كاسحًا، مكّنها من كسر الدفاعات الألمانية بدعم من سلاح الجو والمدفعية. وخلال فترة القتال، تم تدمير ثلاثين (30) فرقة ألمانية، من بينها سبع (7) فرق مدرعة، بالإضافة إلى إسقاط ألف وخمسمائة (1,500) طائرة ألمانية، وتدمير ثلاثة آلاف (3,000) مدفع، وخمسة عشر ألف (15,000) دبابة. وتكبّد الجيش الألماني خسائر بشرية فادحة تجاوزت نصف مليون (500,000) جندي.

بحلول الثالث والعشرين من آب، أُجبر العدو على التراجع في كافة المحاور. وكانت هذه المرة الأولى التي يُطلق فيها “سلام النصر”  في سماء موسكو، احتفالًا بهذا الإنجاز الكبير في الحرب الوطنية العظمى.

وهكذا، فشلت عملية “القلعة” فشلًا ذريعًا، وسُحق الهجوم الألماني المدرّع، وأُجبر هتلر على التخلّي عن فكرة استعادة زمام المبادرة على الجبهة الشرقية. وقد أكّد انتصار كورسك مجددًا على صلابة الشعب السوفييتي وقدرته على الصمود والانتصار.

لقد كان الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي نقطة محورية في الحرب العالمية الثانية. مع مرور الوقت، مكنت المقاومة السوفييتية الهائلة، والانتصارات في معارك رئيسية، الاتحاد السوفييتي من تغيير مجرى الحرب. ولعبت الحرب الوطنية العظمى دورًا حاسمًا في هزيمة المحور، مما غير التحالفات وأدى إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوى عظمى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أثناء صراع النازيين من أجل السلطة، كان أبرز خصومهم هم الشيوعيون. لم يخفِ هتلر أبدًا آراءه المعادية للشيوعية والمناهضة للبلاشفة. تم توقيع معاهدة عدم الاعتداء مع الاتحاد السوفييتي فقط من أجل تجنب تكرار الخطأ الذي ارتكبته ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ولتفادي القتال على جبهتين في آن واحد.

نظرًا لأن سلاح الجو الألماني لم يتمكن من تحقيق التفوق في السماء خلال معركة بريطانيا، تم تأجيل عملية “الأسد البحري”، التي كانت تتضمن غزو الجزر البريطانية. اعتبر القادة الألمان أن تنفيذ عملية إنزال برمائي في ظل عدم وجود التفوق الجوي والبحري سيكون مخاطرة كبيرة.

بعد أن رفض الاتحاد السوفييتي الانضمام إلى ميثاق التحالف الثلاثي بين ألمانيا وإيطاليا واليابان في عام 1940، بدأ القادة الألمان في وضع خطة حرب ضد الاتحاد السوفييتي عرفت باسم “بارباروسا”.

كان “خطة بارباروسا” تعني “الحرب الخاطفة”، وهي التكتيك الذي نجحت ألمانيا في تجربته أثناء حملتيها على بولندا وفرنسا. علاوة على ذلك، كانت القوات الألمانية قد اكتسبت خبرة كبيرة في خوض الحرب في الظروف الحديثة، في حين أظهرت حرب الاتحاد السوفييتي ضد فنلندا ضعف الجيش الأحمر.

طبعًا لن نتحدث عن السياق التاريخي للأحداث بقدر ما سنتحدث عن النتائج. انتهت الحرب الوطنية العظمى بهزيمة ساحقة لألمانيا وحلفائها. لم يدافع الاتحاد السوفييتي عن استقلاله فحسب، بل حرّر أيضًا دول أوروبا الشرقية والوسطى من النازية.

لقد قدّم الاتحاد السوفييتي أكبر مساهمة في تحقيق النصر على النازية، إذ دمّر أكثر من 80% من جنود وضباط العدو و75 % من معداته العسكرية على الجبهة الشرقية وحدها. وبنهاية الحرب، أصبح الاتحاد السوفييتي واحدة من القوتين العظميين في العالم إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.

غير أن هذا النصر جاء بثمن فادح؛ فقد قُتل أكثر من سبعةٍ وعشرين مليون شخص، ودُمرت آلاف المدن وعشرات الآلاف من القرى. كما أُزيلت البنى التحتية في المناطق التي احتلها الألمان بشكل شبه كامل، بما في ذلك المصانع والجسور وخطوط السكك الحديدية. وتكبد القطاع الزراعي، لا سيما تربية المواشي، خسائر فادحة. وقد فقد الاتحاد السوفييتي أكثر من 30 % من ثروته الوطنية نتيجة الحرب. من أبرز النتائج:

تحول الدفة في الشرق:

    كان الهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي نقطة تحول في مسار الحرب العالمية الثانية. ورغم البداية المدمرة، إلا أن المقاومة السوفييتية، خاصة في معركة موسكو (1941) ومعركة ستالينغراد (1942-1943)، قلبت الموازين لصالح الحلفاء. مع الانتصار في ستالينغراد، بدأ الجيش الأحمر في تحقيق سلسلة من الانتصارات التي أدت إلى انسحاب القوات الألمانية من الأراضي السوفييتية.

 زيادة الضغط على جبهة المحور

    مع اندلاع الحرب في الشرق، أصبح من الصعب على ألمانيا استدامة الحرب على جبهتين، بعد أن كانت تخوض معارك في شمال أفريقيا وفي الغرب ضد بريطانيا. بعد تراجع الألمان في معركة ستالينغراد، بدأت قوات الحلفاء في فتح جبهات أخرى ضد ألمانيا، مثل إنزال النورماندي في 1944، مما زاد الضغط على المحور.

المشاركة السوفييتية في الحلفاء

    شكلت الحرب الوطنية العظمى دورًا محوريًا للاتحاد السوفييتي في الحلفاء. مع انخراط السوفييت في المعارك الكبرى ضد الألمان، أصبح من الواضح أن الحرب ضد النازية لا يمكن أن تنتهي إلا بالتحالف بين القوى العظمى: السوفييت، الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة.

نهاية الحرب في أوروبا

    مع الانتفاضات السوفييتية في 1944 و1945، استعاد الاتحاد السوفييتي السيطرة على معظم الأراضي التي غزاها الألمان، وأدى ذلك إلى التحرير الكامل لأوروبا الشرقية. وفي 8 أيار 1945، بعد احتلال برلين، انتهت الحرب في أوروبا بهزيمة النازية.

غير أن نتائج الحرب العالمية الثانية لا تقتصر فقط على الخسائر والدمار.

فقد غيّرت الحرب ملامح العالم: ظهرت حدود جديدة ودول جديدة، وبرزت توجهات جديدة في مسارات التطور المجتمعي، وشهدت البشرية اختراعات واكتشافات كبرى.

لقد أعطت الحرب دفعة قوية لتطور العلوم والتقنيات. فمنظومات الرادار، والطيران النفاث، والصواريخ الباليستية، والمضادات الحيوية، وأجهزة الحوسبة الإلكترونية، وغيرها من الاختراعات والاكتشافات، تم تطويرها أو أصبحت مستخدمة على نطاق واسع خلال سنوات الحرب. وينتمي إلى زمن الحرب أيضًا بدء السيطرة على الطاقة الذرية، ولهذا السبب غالبًا ما يُطلق على القرن العشرين اسم “العصر الذري”. وفي تلك المرحلة، وُضعت الأسس الأولى للثورة العلمية التقنية التي غيّرت العالم في مرحلة ما بعد الحرب، وما زالت تُسهم في تحوله حتى اليوم.

أما النتيجة السياسية الأهم للحرب العالمية الثانية، فكانت الانتصار على المعتدين الفاشيين.

فالدول والشعوب التي كانت مهددة بالفاشية، دافعت عن استقلالها وحريتها. وقد هُزمت الدول المعتدية — ألمانيا وإيطاليا واليابان وحلفاؤهم — هزيمة ساحقة، ودُمرت قدراتهم العسكرية، واقتصادهم، ونظامهم السياسي، وأيديولوجيتهم بالكامل، وجرى تقديم قادتهم إلى المحاكمة لينالوا عقابهم المستحق.

لقد انهارت تمامًا أيديولوجيات الفاشية والنازية والعنصرية والاستعمار، في حين انتشرت على نطاق واسع أفكار مناهضة الفاشية، ومناهضة الاستعمار، والديمقراطية، والاشتراكية. كما حظيت حقوق الإنسان والمواطن، المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، باعتراف دولي واسع. واكتسب أعضاء حركات المقاومة والمقاتلون السابقون مكانة مرموقة، وكان لهم تأثير كبير في الحياة الاجتماعية والسياسية، بل وصل كثيرون منهم إلى مواقع السلطة في بعض البلدان.

النتيجة البارزة والمهمة للحرب العالمية الثانية تمثلت في انهيار النظام الاستعماري. فقبل الحرب، كانت الغالبية الساحقة من سكان العالم تعيش في مستعمرات تتجاوز مساحتها وعدد سكانها بكثير الدول الاستعمارية الأم مثل بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا، واليابان. وخلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد انتهائها، أعلنت بعض الدول التابعة أو المستعمرة مثل سوريا، ولبنان، وفيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وإندونيسيا، وبورما (ميانمار)، والفلبين، وكوريا استقلالها. وفي عام 1947، أصبحت الهند فعليًا دولة مستقلة بعد تقسيمها إلى دومينيونين: الهند وباكستان. وهكذا بدأ مسار حثيث لتحرر الشعوب المستعمَرة استمر حتى القضاء الكامل على النظام الاستعماري في النصف الثاني من القرن العشرين.

أسفرت الحرب أيضًا عن تغير جذري في ميزان القوى على مستوى العالم. إذ أن ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، التي كانت تُعد من القوى العظمى قبل الحرب، تحولت بعد هزيمتها إلى دول خاضعة ومحتلة من قِبل قوات أجنبية، وكانت اقتصاداتها مدمرة، غير قادرة لسنوات عديدة على منافسة خصومها السابقين. كما تراجعت مكانة فرنسا، وحتى بريطانيا، مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من بين القوى الرأسمالية الكبرى التي خرجت من الحرب وهي أكثر قوة. فقد تفوقت بفارق واسع على جميع الدول الأخرى اقتصاديًا وعسكريًا، لتتحول إلى زعيمة العالم الرأسمالي، وقوة عظمى تطمح إلى قيادة العالم.

أما القوة العظمى الثانية، فكانت الاتحاد السوفييتي. فرغم التضحيات الهائلة والخسائر الفادحة، لعب الاتحاد السوفييتي دورًا حاسمًا في هزيمة ألمانيا النازية، مما منحه قوة دولية غير مسبوقة ومكانة مرموقة على الساحة العالمية. وبنهاية الحرب، امتلك الاتحاد السوفييتي أكبر جيش بري في العالم وطاقات صناعية ضخمة لا تضاهيها سوى الولايات المتحدة. وكانت قواته العسكرية منتشرة في عدد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، وفي ألمانيا الشرقية، وكوريا الشمالية. وقد حظي الاتحاد السوفييتي بدعم غير مشروط من جميع الأحزاب الشيوعية التي ازداد نفوذها نتيجة مشاركتها في مقاومة الفاشية. ورأى قطاع واسع من الرأي العام العالمي في الاتحاد السوفييتي ليس فقط منتصرًا على العدوان الفاشي، بل أيضًا دولة تمهد الطريق نحو مستقبل اشتراكي.

وقد سلك عدد من الدول التي حررها الجيش السوفييتي طريق التنمية غير الرأسمالية. ففي كل من ألبانيا، وبلغاريا، وهنغاريا، وبولندا، ورومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، تم تشكيل حكومات ديمقراطية شعبية بمشاركة الشيوعيين أو تحت قيادتهم، وشرعت هذه الحكومات في تطبيق إصلاحات اجتماعية عميقة. ووفقًا لاتفاقيات يالطا، فقد كانت هذه الدول تُعد ضمنيًا ضمن مجال النفوذ السوفييتي، وخضعت فعليًا لسيطرته.

وشهدت ألمانيا الشرقية وكوريا الشمالية، اللتان احتلتهما القوات السوفييتية، تحولات مماثلة. أما في الصين، فقد انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية ضد حكومة تشان كاي شيك خلال الفترة بين عامي 1945 و1949، وتولوا زمام السلطة هناك أيضًا.

وقد ازداد نفوذ الأحزاب والتيارات المنادية بالديمقراطية والتغيير الاجتماعي — مثل الشيوعيين، والاشتراكيين، والاشتراكيين الديمقراطيين، والمسيحيين الديمقراطيين وغيرهم من القوى الديمقراطية. وكان لبرامجهم التي شملت تأميم الصناعة والمصارف، وتوزيع الأراضي على من يزرعونها، وإشراك العمال في إدارة الإنتاج، وإنشاء نظام شامل للتأمينات الاجتماعية — صدى واسع لدى الجماهير. وفي العديد من البلدان، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، تحوّلت الأحزاب الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية والمسيحية الديمقراطية إلى قوى سياسية كبرى، وتولت رئاسة الحكومات.

الخلاصة

     لقد كان الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي نقطة محورية في الحرب العالمية الثانية. مع مرور الوقت، مكنت المقاومة السوفييتية الهائلة، والانتصارات في معارك رئيسية، الاتحاد السوفييتي من تغيير مجرى الحرب. ولعبت الحرب الوطنية العظمى دورًا حاسمًا في هزيمة المحور، مما غير التحالفات وأدى إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوى عظمى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!