الحكم الذاتي بين رهانات الأمن المنتج للثقة وإصلاح العقيدة السياسية
مصطفى المنوزي
نحو تجديد التعاقد الوطني أفقيا وعموديا
(فلسفة الحكم ونقد عقيدة السلطة.. من وحي اليوم العالمي للفلسفة )
تفرض اللحظة الوطنية الراهنة العودة إلى تجديد النقاش حول موقفي كما تم بسطه سابقًا، وذلك لضرورته في تفكيك الشروط السياسية والدستورية والأمنية التي ينبغي توفرها لإنجاح مشروع الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية. فتنزيل هذا الورش الاستراتيجي لا يُختزل في هندسة ترابية أو ترتيب مؤسساتي، بل يستدعي إعادة قراءة منسوب الثقة بين الدولة والمجتمع، وتقييم قدرة البنيات المركزية والجهوية على استقبال نموذج متقدم في التدبير الذاتي يقوم على المشاركة والشفافية والفعالية. ومن ثَمّ، فإن استحضار تلك الخلفيات النظرية والعملية يصبح مدخلًا أساسيًا لإعادة تعريف وظيفة الدولة، وضبط التوازن بين السلط، وتعزيز الأمن القانوني والمؤسساتي، بما يؤهل البلاد لاحتضان صيغة حكم ذاتي منسجمة مع المشروع الوطني وتحصينًا لخيار السيادة والوحدة الترابية.
في دولة تقليدانية الجوهر، محكومة بتراكمات تاريخية وبسياق نشأتها واستمرارية وجودها، تتجاور بنيات وأنماط إنتاج متباينة، بعضها مترسخ وهيمنته رمزية، وبعضها فتِيّ أو جنيني يُستعمل في الواجهة ضمن سيميائية الأهواء؛ من قبيل الانفتاح الشكلي على الحداثة السياسية والاستهلاكية دون تحديث ثقافي عميق أو إرادة دستورية حقيقية لتغيير البنية. وقد أظهرت بدايات العهود المتعاقبة هذا المنحى من خلال تضخم خطاب “المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي” القائم على وعود متكررة بالانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية.
ومنذ دستور 2011، الذي تباهت به الدولة باعتباره قطيعة مبدئية مع تماهي رئاسة الدولة مع إمارة المؤمنين كما كان منصوصًا عليه في الفصل 19 من دستور 1962، أصبح التمييز بين السلطتين الدينية والسياسية أكثر وضوحًا عبر الفصلين 41 و42. غير أن مشروعية المجالات المحفوظة للملك ما تزال مؤطرة بمنطق عقد البيعة التاريخي، الذي يلزم أمير المؤمنين بضمان حماية الملة والدين والثغور وحوزة الوطن، مقابل مبايعة الأمة عبر مؤسساتها التقليدية؛ وهذا التعاقد التاريخي يجعل مسؤولية الدولة، في شخص رئيسها الدستوري، قائمة على ضمان الحق في الأمن ضد الخوف والأمن ضد الحاجة، وعلى توفير شروط حياة كريمة ومتحررة من التبعية والإلحاقية في صياغة القرار الوطني والسياسة العامة والسياسات العمومية، وفق مقتضيات القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان ؛ وفي هذا السياق، يبرّر بعض المحللين خيارات الدولة—وخاصة العقل الأمني فيها—في رسم استراتيجيات التحالفات والتعاقدات الدولية، معتبرين أن المغرب لم يبرح موقعه داخل نفس الاصطفاف العالمي والإيديولوجي والاقتصادي والأمني منذ عقود. فهذه التحالفات ليست طارئة، بل شكلت امتدادًا لعلاقات تبادل المصالح والخدمات والدفاع المشترك، ما يجعل المصالح والمصائر متشابكة. ويترتب عن ذلك أن الخريطة السياسية الداخلية تُهندس في ضوء هذه التعاقدات؛ من تشكيل الأغلبية والمعارضة، إلى سنّ القوانين، وتقسيم الدوائر الانتخابية، وضبط إيقاع المؤسسات ؛ غير أن التحولات السياسية العميقة كانت تستدعي إصلاحًا دستوريًا يُنهي مظاهر الاستبداد وينقل البلاد من حكم فردي متمركز إلى ديمقراطية فعلية. لكن الطبيعة الوراثية للنظام الملكي، كما ترى بعض القراءات النقدية، لا تجد في الديمقراطية سوى وسيلة مشروطة بموازين القوة. ولهذا ظل التغيير الممكن رهينًا بالتسويات، وبات مطلب الملكية البرلمانية شبه مستحيل في ظل هشاشة المشهد الحزبي التقدمي وتصاعد المد المحافظ الذي لا يعترف بالديمقراطية كغاية، إضافة إلى ضعف آليات المساءلة رغم نزع القداسة عن النظام.
ومع ذلك، يظل فريق من المحللين يتشبث بالأمل في “الدولة الآمنة والقوية” بدل الدولة الأمنية المخيفة، مؤكدين أن مواجهة مظاهر الدولة الرخوة لا تكون بتهديم الدولة أو بالتبشير باللادولة، بل بتجديد تعاقدها مع المجتمع. فآن الأوان—وفق هذه القراءة—لانتقال قيمي وأمني على مستوى عقيدة النظام السياسي، يوازي قدراته على الاستقرار والدفاع، ويستحضر ضرورة “صناعة المواطن” عبر تقوية التربية الوطنية، وتحصين الهوية التعددية، وترسيخ التنوير، وإرساء قواعد الديمقراطية المعرفية.
إن التحالفات والتعاقدات في سياق التوترات الإقليمية وفلول الإرث الاستعماري تحكمها منطق المصالح، لكنها تمنح للدولة في العهد الجديد فرصة لتكريس الندية والتكافؤ في القوة والمصلحة والمعنى. ونحن، كوطنيين، لا نسعى إلا لتثمين كل الإرادات الإصلاحية الغيورة التي تعمل على القطع مع فظائع الماضي ومع الأعطاب المتوارثة، وهو مسار لا يمكن أن يتحقق دون إطلاق جيل جديد من الإصلاحات يهدف إلى دمقرطة صناعة القرار الأمني والمالي والتشريعي، وتعزيز مأسسة استقلال السلطة القضائية، وتكريس فصلها الفعلي عن بقية السلط الدستورية والمالية والإعلامية.
وختاما وجب التأكيد على أن ورش الحكم الذاتي يبرز الحاجة إلى تقييم موضوعي لدور الدولة وقدرتها على تحويل الأمن إلى فضاء منتج للثقة، بدل الاكتفاء بمنطق الضبط والاحتواء. ويقتضي هذا المسار مراجعة هادئة لعقيدة الحكم، بما يسمح بترسيخ مؤسسات مستقلة ومسؤولة، وتوسيع دائرة المشاركة المواطنة في اتخاذ القرار لأن المقاربة التوقعية هنا ليست ترفًا فكريًا، بل أداة ضرورية لاستشراف مخاطر إعادة إنتاج الأعطاب القديمة في سياق جديد ؛ فالحكم الذاتي لن يُكتب له النجاح إلا في إطار تعاقد وطني يُوازن بين السيادة، والنجاعة، والعدالة، ويمنح للدولة قوة تستمد مشروعيتها من ثقة مواطنيها ومن ذاكرة المشترك التحرري ؛ لا من أدواتها.
