الدوة 19 من مهرجان “ثويزا” بطنجة.. نحو الغد الذي يُسمَّى الإنسان

مهرجانات:
يسود في عصرنا الحاضر قلقٌ كبير إزاء اتساع نطاق التفاهة والتسطيح الفكري وغياب المعنى، حيث أصبحت هذه المظاهر طاغيةً على المشهد اليومي، بحيث تكاد لا تُبقي ولا تذر. فوسائل الإعلام الجماهيرية وفضاءات التواصل الاجتماعي، بانتشارها الواسع وسرعتها المذهلة، حوَّلت لغة التشهير وتزييف الحقائق إلى سلاحٍ يوميٍّ يُوجَّه إلى العقول والعواطف على حدٍّ سواء. وأضحى الفرد عاجزًا عن تمييز الغثّ من السمين، سواء في محيطه الاجتماعي أو في الفضاء العام، أو حتى في عزلته أمام شاشات الأجهزة الذكية التي تلتهم ما تبقى من بُؤَرَ أنواره الأخيرة.
في مواجهة هذه التحولات البنيوية التي لا تقتصر على تهديد سكينة الإنسان، بل تمتد إلى العبث بمصيره الوجودي والمجتمعي، انبرت مؤلفاتٌ عديدةٌ ومتعددة التخصصات لتحليل هذه الظواهر وتفكيكها. وفي السياق المغاربي والشرق أوسطي، تحتل النقاشات الأكاديمية والاجتماعية مكانةً بارزةً في تسليط الضوء على مصير القيم الإنسانية، سواءً كانت دينيةً أم وضعيةً، في ظلِّ طغيان التقدم التقني والعلمي المتسارع، الذي يكاد يجرِّد الإنسان من إنسانيته، ويحوِله إلى كائنٍ منفعلٍ، يُقذَف به بين فكيِّ آلةٍ رقميةٍ لا تعرف الرحمة. فالشاشات “الذكية”، التي تخزن كمًّا هائلًا من أسرار الأفراد والجماعات، لم تعد مجرد أدوات اتصال، بل تحوَّلت إلى ساحاتٍ لاصطياد العواطف والعقول، تُدار من خلفها أعتى حملات التلاعب بالوعي.
في خضم هذا المدّ المكتسح من الابتذال واللامعنى، يبرز “مهرجان ثويزا” في طنجة، كفعل مقاوم، وكمبادرةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ وفنيةٍ راكمت على مدى عقدين من الزمن إرثًا نقديًّا حيًّا، انحاز دائمًا إلى الأسئلة المقلقة، التي تشغل اهتمام المبدعين والمفكرين في المغرب وشمال إفريقيا والشرق الأوسط. فقد حرص المهرجان، عبر دوراته المتتالية، على استضافة أبرز الأسماء التنويرية في مجال الأدب والفلسفة والفكر، ساعيًا إلى ترسيخ حوارٍ حرٍّ وهادئٍ، يضيء التحولات العميقة التي تخترق مجتمعاتنا، وتُعيد تشكيل مصائر أفرادها. وما كان لهذه المبادرة الثقافية أن تصمد أمام زحف التفاهة، لولا مناخ الانفتاح الفكري الذي يتميز به المغرب، حيث تُكرَّس حريةُ التفكير والإبداع، ويُرفض الانسياق وراء الانغلاق والتنميط.
إن رذيلة الكراهية التي تتفشى في الفضاءات الرقمية، أخطرُ بكثيرٍ من ويلات الحروب التقليدية، لأنها تُدمِّر البنى التحتية للفكر وللإنسانية. وفي مواجهة هذا الانحراف نحو المجهول، يظل السؤال الملحّ: كيف نعيد للإنسان إنسانيته؟ هنا يأتي دور مهرجان ثويزا، الذي لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يبحث عن مساحاتٍ جديدةٍ تُعيد إنتاج قيم الحكمة والجمال والسلام، عسى أن يُسهم، ولو بقدر ذرة، في كبح جماح اللامعنى الذي يهدد حاضرنا ومستقبل أجيالنا.
قد يبدو أنه من المفارقة أن نستنجد بالعقل في زمنٍ صار فيه العقل نفسه، بعد أن انحرف عن غاياته الإنسانية، أداةً لترسيخ الكذب والتفاهة والتلاعب بالعقول والعواطف، عبر تقنياته التي صارت بارعة في العبث بوجود الانسان ومصيره. ففي عصر يُسيطر فيه الضجيج الرقمي على كل تفاصيل حياتنا، تتعاظم الحاجة إلى مقاومة الابتذال، والدفاع عن كرامة الإنسان ضد كل أشكال التسطيح.
في هذا السياق، تُعدُّ فضاءات مهرجان ثويزا منصةً حيويةً للحوار الحرّ، والإنصات لما تبقى من صوت الحكمة في العقل، واستشراف دروبٍ جديدةٍ تُعيد للإنسان توازنه. وليس الهدف من هذه المبادرة فرضَ “حقائق” جاهزة، بل إزالة الحُجُب عن آليات التفكير النقدي، وتنمية وعيٍ قادرٍ على مواجهة التحديات الوجودية التي تواجهنا.
نحو الغد الذي يُسمَّى الإنسان
شعار الدورة التاسعة عشر: “نحو الغد الذي يُسمَّى الإنسان”، اختاره المفكر والشاعر أدونيس، واحد من أبرز ضيوف المهرجان وأصدقائه. هذا الشعار الذي ينضح بالغموض والوضوح، يفتح الباب لتساؤلاتٍ عميقةٍ عن ماهية الإنسان ومصيره، ويسعى إلى إعادة تعريف الغد الإنساني وإنارة متاهات مستقبله، وإبداع خطاب بديل حول وجود الانسان وتساميه.
المدينة بين الواقع والممكن
في حوارٍ مغربي- مشرقي هادئ بين الشاعر والكاتب رشيد المومني، والشاعر والمفكر أدونيس سيُرفَع الحجاب عن المقصود بالمدينة، بصفتها “مأوى” لبعض البشر، “تجاوزاً” للمقاربات السوسيولوجية أو الفلسفية التقليدية، ليقدم أحمد سعيد إسبر، قراءته الأدونيسية الفريدة، التي تلامسُ جوهرَ الوجودِ والعلاقةِ بين الإنسان والمكان. ولتخليد دهشته الشعرية أمام فضاءات مدينة طنجة الأسطورية، يُهدي أدونيس لمتتبعي “مهرجان ثويزا”، ولمحبي ذات البحرين، نصاََ شعرياََ جديدا من وحي زيارته الأخيرة للمدينة خلال مشاركته في فعاليات المهرجان قبل سنتين.
جرأة البوح في سيرة الهامش
في فضاءات الذاكرة الأدبية التي لا تنضب، يتواصل الوفاء لتخليد أدب محمد شكري، كاتب طنجة العالمي، في ملتقاه السابع عشر، بمناقشة سيرة الهامش التي فجرت إبداعاََ أدبيا وروائياََ سارت بذكره الركبان في مغارب الأرض ومشارقه. حيث تلتئم صفوة من الكتاب والنقاد لاستكشاف جرأة وشجاعة البوح الأدبي الفريد الذي جعل من شكري صوتاً للهامش يعبر عن مكابدات الإنسان المهمش وأسئلته الوجودية بصدقٍ لا يعرف التزييف، وجمال أسلوبِِ يستهوي القارئ ويمتعه؛ ليكون واحداََ من أبرز الكتاب الذين حولوا بوحهم الشخصي إلى ظاهرة أدبية عالمية.
ويتولى الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحيى (المغرب)، إدارة هذا الملتقى الذي سيشارك فيه كل ربيعة ريحان، وإكرام عبدي، وإدريس علوش، ومصطفى أقلعي .
التفكير في اللامعنى: محاولة لفهم ما يجري.
تتعدد توصيفات ما يجري في مجتمعاتنا من ابتذال وتفاهة وتسطيح. ولعل مفهوم اللامعنى يختزل بشكل مكثف ما يعرفه عالم اليوم من تسارع للتحولات وبروز ظواهر جديدة، يصعب على العلوم الإنسانية مواكبتها وفهمها وتفكيك رموزها. فاللامعنى ليس مجرد غياب المعنى أو الدلالة، بل هو علامة بارزة لواقع الإنسان في زمن التحولات الوجودية والسياسية والاجتماعية والتقنية والبيئية المتلاحقة.
ندوة: “التفكير في اللامعنى: محاولة لفهم ما يجري” لا تروم تقديم إجابات وحلول لهيمنة مظاهر اللامعنى، بتوصيفاته المتعددة، بل محاولة الاقتراب من فهم اللامعنى باعتباره ظاهرة متعددة الأوجه تطبع مرحلتنا الراهنة. فمصدر القلق الفلسفي اتجاه ما يجري من حولنا، هو اعتبار اللامعنى قدرنا الأخير، وليس مجرد تحولِِ عرضيِِ قد يفسح المجال لإعادة إنتاج المعنى في وجودنا الإنساني وفي معيشنا المجتمعي. كما أن هذا القلق الفلسفي يزداد تأزما عندما يرتبط بمجال السياسة، التي بها يتم تدبير عيش الإنسان. فانهيار الإيديولوجيات والسرديات الكبرى، يُخلِي المكان لسيادة اللايقين السياسي، ويهدد بالسقوط في الفراغ الأخلاقي والمعياري، وصعود الخطابات الشعبوية.
لفهم ما يجري، يفتح يحيى بن الوليد (المغرب) حواراً بين تخصصات مختلفة ومتكاملة، بمشاركة موليم العروسي (المغرب) والطاهر لبيب (تونس).
“في الحاجة إلى كفاءات مغاربة العالم”
تُعد كفاءات مغاربة العالم رافعة مهمة للتنمية في المغرب. فالكفاءات المغربية، المنتشرة عبر مختلف دول العالم، هي ثروة بشرية، تعزز الكفاءات الوطنية التي تزخر بها بلادنا، ويتعين الاستفادة من تجاربها وتوظيفها في دعم مسارات التنمية التي يعرفها المغرب المعاصر، وتعزيز الابتكار، وبناء جسور التعاون بين المغرب وبقية العالم.
تُنظَم هذه الندوة الهامة، في إطار فعاليات الدورة 19 من مهرجان ثويزا بطنجة، في فترة تعرف عودة مواطناتنا ومواطنينا المقيمين بالخارج لقضاء عطلة الصيف في بلدهم الأصلي، للالتقاء بالأحبة وزيارة الأقارب والأماكن. وتستضيف الندوة شخصيات مغربية تمكنت، بعملها واجتهادها الدؤوب، من تبوء مراكز عليا في مختلف المجالات في بلد الإقامة. نجاح هؤلاء وتألقهم بعيدا عن المغرب، حافظ على ارتباطهم الوطني ببلادهم، ولم يقف عائقا أمام تتبع ما يجري بالمغرب، والاهتمام بحاضر، وطنهم الأصلي، ومستقبله.
تراهن الندوة على الإنصات لصوت مغاربة العالم، والاطلاع على تجاربهم الناجحة، مع تحليل واقع وآفاق استثمار كفاءاتهم لمصلحة البلاد، مع التركيز على التحديات والفرص المتاحة، وكيفية تعزيز مساهمتهم في التنمية التي نسعى جميعا إلى بلوغها.
نتوقع حواراََ هادئا ومفيداََ بين أحمد أبو طالب (هولاندا) وفؤاد أحيدار (بلجيكا)، بإدارة من صابي الموساوي (هولاندا).
“حدود إعمال النظر العقلي في فهم وتأويل التراث”
يعتبر التراث الإسلامي ثروة روحية وثقافية وحضارية سِمَتُها التنوع والغنى. وهو موروث يتشكل من الوحي وما تفرع عنه من نصوص تم تدوينها عبر الزمن. وقد كان التراث الإسلامي موضوع رأي واجتهاد من قبل علماء وحكماء وفقهاء، مسلمين وغير مسلمين، أو مستشرقين، من مغارب الأرض ومشارقها.
إن نصوص التراث الإسلامي، وما تضمنته من أقوال وأحداث، تنطوي على معاني ودلالات لا تُعطى للقارئ بسهولة. بل تتطلب مكابدات واجتهادات عقلية متخصصة للكشف عن حُجُبِها، وفهم مُغْلَقِها، وتأويل ما قد يظهر فيها من تناقض أو تعارض مع مبادئ العقل. ولعل السؤال الذي طُرِح منذ الفلاسفة الأُول، إلى أي حد يمكن ركوب مغامرة العقل البشري لفهم نصوص التراث الإسلامي؟ وهل يجوز إعمال قواعد النظر العقلي، دون قيد ولا شرط، لتأويل هذا التراث؟
أسئلة صغيرة، من بين أسئلة أخرى، يحاور بها محمد جبرون، فلاسفة كباراََ، خَبِروا لعقود، تحولات احتكاك العقل بنصوص التراث الإسلامي. محمد المصباحي (المغرب) واحدٌ من الرشديين المعاصرين، ويوسف الصديق (تونس) واحد من مُحَكِمي العقل المعاصرين.
الملتقى السنوي حول “التجارب الأدبية الجديدة”:
في ضيافة الروائي العراقي صموئيل شمعون
يعتبر الملتقى السنوي حول “التجارب الأدبية الجديدة” منصةً للحوار بين رواد الكتابات الإبداعية التي تبحث عن تخطي المألوف، واقتفاء أثر الدروب غير المطروقة في الكتابة. وفي زمكان تتسارع فيه التحولات الثقافية وتتنوع فيه التعبيرات الإبداعية، يظل الأدب فضاءا رحبا لممارسة الحرية، من خلال البحث عن وسائل تعبيرية تواكب روح العصر وتنفتح على انتظاراته.
لقد جرب “مهرجان ثويزا بطنجة” هذه المبادرة في دورات سابقة، حيث لَقِيَتْ استحسانا، ليس فقط من الكاتبات والكتاب الشباب الذين يعرضون تجاربهم الإبداعية الجديدة، وإنما، أيضا، من متتبعي المهرجان، ومن الكتاب الذين يقع عليهم الاختيار لينزلوا ضيوفا على الشباب الذين يُشارِكونَ تجاربَهم الإبداعية في هذا الملتقى.
يعمل الشاعر الوديع مخلص الصغير على خلق ألفة حوارية أدبية بين “ضيف” الملتقى و”الكتاب الجدد”، عبر إثارة أسئلة مقلقة من صميم الانشغالات الإبداعية الأدبية الراهنة، في تفاعلها مع القضايا الإنسانية التي تشغل وعي الكتاب والمثقفين. ويعد ملتقى هذه الدورة 19 من المهرجان فرصة سانحة لعرض التجارب الأدبية الجديدة لكاتبات وكتاب مغاربة شباب، والحديث عن مسارات تشكيلها، وآفاق مساهماتها في عالم الأدب، في حوار مباشر، يقوده مخلص الصغير، مع تجربة الكاتب العراقي صموئيل شمعون. وسيشارك في هذا التفاعل الحواري الأدبي المشوق هدى الشماشي وهجر طرايش و بديعة إد حسينا ومحمد الهاشمي وهشام فؤاد گوغلت وصالح آيت صالح محمد المودن و ياسين كَني.
ندوة ختامية: ” الانسان هو الحل! “

ولأن اللقاءات الثقافية ليست، فقط، فضاءً لتبادل الأفكار والآراء حول القضايا التي تدخل ضمن الاختصاصات الأكاديمية والمعرفية والإبداعية للمثقفين والأدباء والمفكرين، بل هي، أكثر من ذلك، مناسبة لمناقشة الأسئلة المصيرية. وفي هذا الأفق، تُختتم فعاليات مهرجان ثويزا بطنجة بندوة فكرية تجمعُ نخبةً من المفكرين والأدباء للتحاور حول موضوع فلسفي صعب ومهم في نفس الآن.
ففي زمن تتصاعد فيه التحديات على جميع الأصعدة، وتتفاقم فيه حدة الأزمات، وتتسع فيه الفجوات بين الثقافات والحضارات والأيديولوجيات، يظل الإنسانُ هو البؤرة التي تزداد استشكالا.
إلى أي حد يمكن للإنسان أن يكون نفسُه حلاً للأزمات التي كان ولايزال هو السبب المباشر والرئيسي في حدوثها؟ هل ماتزال هناك إمكانيات قيمية يخفيها الانسان، ويتعين استكشافها، أو إعادة استكشافها؟ وهل ثمة طاقة مضمرة في الوجود الإنساني تستوجب التحديات الراهنة سبر أغوارها، ورفع الحجاب عن مكامنها؟ هل يستطيع الإنسان أن ينجو من الأزمات من خلال إنسانيته؟ أم أنه يكفي الانصات لجواب الفيلسوف الوجودي مارتن هيدغر على سؤال يُلَخِصُ هذه الأسئلة، طَرَحَتْهُ عليه مجلة دير شبيغل الألمانية، حين قال: ” إن إلاهاً ما هو الذي باستطاعته إنقاذنا. ليس لنا إلا إمكانية التفكير والشعر لتهييئ ظهور الله أو اختفائه في سقوطنا: ذلك أننا سنهلك في غياب الله”.
مفارقات هذه الأسئلة الإشكالية ستكون موضوع محاولات فكرية لمثقفين بارزين، من خلفيات ومرجعيات معرفية مختلفة ومتكاملة، استجابوا لدعوة مهرجان ثويزا لمشاركتها مغامرات الاقتراب من الأسئلة الحارقة. وهم أدونيس (سوريا) ومحمد المصباحي (المغرب) والطاهر لبيب (تونس) وموليم العروسي (المغرب) ويوسف الصديق (تونس) وأحمد عصيد (المغرب).