الرحيل الغامض لسيون أسيدون.. حين يُغتال الوضوح بصمت
عبد الرحيم التوراني
ليس كل موت رحيلا عاديا.. بعض النهايات تُفصح عن نفسها كجريمة اغتيال مُعلَنة، وإن أخفتها الأقدار خلف ستار “حادث صحي غامض”…
وحين يتعلق الأمر بـالمناضل سيون أسيدون (المعطي)، القامة التي مثلت الوضوح في زمن الغموض، فإن المنطق لا يستقيم إلا باتهام صريح: لقد سقط قتلا، وبصمات المنفذين وآثار أقدامهم الوسخة محفورة على جسد الحقيقة.
هو موت يدنو ويبتعد بالمسافة ذاتها مما قصده أبو الطيب المتنبي قبل أكثر من ألف عام، حين قال:
(إذا ما تأملت الزمان وصرفه *** تيقنت أن الموت ضرب من القتلِ)…
قبل شهر، نصحني صديقي جواد مديدش بشيء من التروّي، حين أفصحت له بما كتبته… لكن لغة الموت وقراره الحتمي كانت دائما أسرع وأصدق…
اليوم، تحول التردد إلى يقين: موت أسيدون هو “عملية تصفية” تُدين القتلة بالصمت المريع.
واكتشفت كأني كنت أكتب مرثية سابقة لأوانها، ولم يكن الحال كذلك، فالأوقات التي أمامنا كلها لم تعد تصلح سوى للمراثي والأحزان وتبادل العزاء...
فلتحكموا الإغلاق على زمن النضال القديم.. أعدوا مراثيكم… دبّجوا لغة النعي بحبر اليأس… وجهّزوا المدافن البعيدة ورخام شواهد القبور.. فقد انتصر الغموض... المجد للفناء حين يغتالون الحقيقة… طالما أن الحق يموت بالتقسيط!
***
يهبط النبأ حزينا وقاسيا، كما وصفه الصديق الشاعر محمد بنيس ونحن نتبادل العزاء المر هذا الصباح الكئيب والموجع..
ثقيلا لا على قلوب رفاق سيون أسيدون فحسب، بل على كل من آمن بأن في هذا الوطن صوتا قادرا على الفصل بين الحق والباطل بوضوح مطلق. رحيل القامة النضالية والإنسانية، سيون أسيدون (المعطي)، ليس حادثا عابرا في سجل النهايات، بل هو إشارة مؤلمة إلى أن ثمن الوضوح في زمن الغموض لا يزال باهظا حد الاغتيال.
فبين الرواية الرسمية للحادث الصحي الغامض، واليقين الذي يملأ صدور رفاقه بوجود تدبير خفي وراء هذا “الموت بالتقسيط”، نقف أمام مأساة تكشف عن طبيعة المواجهة المستمرة بين المناضلين والسلطة.
كان أسيدون يمثل نقطة التقاء نادرة بين الهوية والانتماء والنضال، مقدما نموذجا للتضحية الصامتة التي لم تعتمد على الشعارات الرنانة، بل أثبتت وجودها بصلابة الموقف. فقد اختار أسيدون عن وعي العيش في “منفى داخلي“.. ودفع ثمن نضاله المزدوج: ملاحق من النظام لالتزامه، ومهاجَم من بعض التيارات لهويته. لقد كان فعلا عظيما حين باع الراحة والامتياز من أجل الحقيقة المطلقة.
كان صوته الحاد والواضح، ترياقا لغموض المشهد السياسي.. لا مساومة على حقوق الإنسان، لا تلاعب بقضية فلسطين. وهذا الوضوح هو ما جعله هدفاً
المنطق السياسي يفرض علينا النظر إلى هذا الرحيل في خضم السجال حول التطبيع والفساد الاقتصادي… إن تغييب فاعل بوزن أسيدون في هذه اللحظة لا يمكن أن يكون مجرد صدفة.
لقد أتقنت الأنظمة المستبدة فن “الاغتيال البطيء“، أو ما يمكن تسميته “القتل بالغموض”.. هذا التكتيك، الأذكى من خناجر الغدر والرصاص المباشر، يعتمد على الضغط الممنهج.. التضييق وتدبير “الحوادث الغامضة” لإبعاد الشبهة.. والهدف ليس إنهاء جسد المناضل فحسب، بل إسكات الصوت النقدي الراديكالي، ونشر رسالة تخويف شريرة مفادها أن “لا أحد في مأمن، حتى لو كان التزامك نبيلا”.. وتحويل النضال من هجوم إلى دفاع يائس عن النفس، مما يخلق فراغا قياديا..
إننا، اليوم، نشهد على فشل اغتيال فكرة أسيدون، حتى لو نجحوا في اغتيال جسده ببطء…
إن هذا التكتيك الشرير يغذي جذوة جيل جديد لم يعش سنوات الرصاص، لكنه يدرك الظلم من خلال هذه الحوادث الغامضة.
إن الفكرة هي العنصر الوحيد الذي لا يمكن قتله…
سيظل (الرفيق المعطي).. سيون أسيدون، شهادة حية على عظمة الالتزام، ودعوة مستمرة للجيل الجديد ليرد على “القتل البطيء” بـ “الوضوح المطلق“، حتى في أحلك أزمنة الغموض.
