الكتابة عن فلسطين

إلياس الطريبق
هل أقِف إلى جانب غَزَّةَ لأنني عربي أم لأنني مُسلِمٌ؟ أم لأنني إنسان أولا وقبل كل شيء؟
الجواب لا يهم.
أولى صور الحرب المؤثرة التي قصفت وعيي وقطعته إلى أشلاء دون الحاجة إلى صواريخ باليستية أو قنابل ذكية صورة الذراع المقطوعة التي يتشبَّثُ بها فلسطيني شابٌّ، هي كل ما تبقى له من جثمان قد يكون جثمان أم؟ أب؟ أخ؟ أخت؟ عم؟ خال؟ ابن؟ ابنة؟ … الله أعلم !
قبل 7 أكتوبر كنتُ أعُدُّ 21 دولة عربية وأقفز على أرض بأكملها، بترابها ومائها وبحرها وبرتقالها وزيتونها ورمانها وعسلها وغضبها… إلى أن سقطت خرافة الكيان الذي لا يقهر.
اكتشفت حينها أنني لم أكن أعرف فلسطين حق المعرفة، رغم أنني ألممتُ في الثانوي بدرس الحرب العربية الإسرائيلية جيدا ورسخت في بالي ألقاب مثل النكبة والنكسة وحرب أكتوبر.
لتكون أغلى غنيمة قد تركتها لي الحرب بذلك، موسيقى الفلسطينيين، مواويلهم، أسماء مدنهم، تفاصيل حياتهم، وسجاياهم.
رحلت إلى بلاد مقدسة دون الحاجة إلى عبور أو ختم في جواز سفر.
عرفتُ مثلا أن غزة كانت كباقي المدن:
تأكل تنام تحلم تضاجع وتستَحِمُّ في البحر تحت أشعة شمس المتوسطي وأن بها شوارع وسيارات أبراجا وبنايات وأسواقا هي الآن معظمها إن لم نقل كلها فِي عِداد التّراب، …في عداد الركام والخراب..
وأن الفلسطيني تلك الشجرة الباقية التي لا تَهُزُّ جِذعها الريح
وأن الفلسطيني نقطة البدء والمنتهى، وأنه الناجي الوحيد ووووو…
منذ مدة وأنا أؤجل الكتابة عن فلسطين تحت ذريعة ماذا في مستطاع الكلمات أن تفعل؟
ثم أعترض وأقول، أي سلاح أملك أنا سوى اللغة، سوى الكلمات، سوى قلمي؟
في الثامن والعشرين من يوليوز الماضي أي بعد أشهر من بدء الحرب على غزة رزقني الله مولودا، عندما أحمله بين يديَّ أتخيلني أبا فلسطينيا يُشَيِّعُ أبناءه. فأدرك نعم الله كم هي عظيمة، وأنه العاطي الآخذ صاحب المشيئة العليا.
وعندما أخلد إلى النوم جنب زوجتي أرى صاروخا يقتلع البيت من جذوره ويلقي بأشلائنا في الهواء المحروق وبين الدخان المتطاير.
أرى ركام بيتي المهدور وأفكر في كل مشاريعي المستقبلية، كم هي بائسة وبلا أي معنى.
لمجرد أنني حَيٌّ فأنا مدين لله عز وجل وما عدا ذلك لا يساوي شيئا.
لكن الذين قَضوا استراحوا من الجوع من العذاب من الدماء من الصراخ ومن وعيد الموت وإن كان شهادة… أما الذين لا يزالون على قيد الحياة فهم لا شك على قيد الموت المؤجل ويا له من عذاب، عذاب مضاعف !
لقد جرَّبتُ أنا الآخر تجربة النزوح لئلا يسقط علينا جدار متهدم جراء وقوع الزلزال وبِتُّ في الخارج ورأيت الناس تحت الأنقاض، والتهافت على رغيف الخبز أمام الأفران، لكنها صورة لا تعدل إلا 1 في المائة من صور الحرب القاتمة التي لا تعرف الرحمة ولا الشفقة.
لذلك لم يكن تعاطفي قويا مثلما صار اليوم مع أطفال غزة وأهل غزة.
أنا من عشاق النباتات، كنتُ ولا أزال. غرست بعضا منها داخل البيت…
بعد الظهيرة كنت أحب أن آخذ إرشادات عن كيفية زراعتها ورعايتها وقد صادفت ضالتي في قناة على يوتيوب، لم أشأ التدقيق في جنسية صاحبها أردني هو أم فلسطيني، المهم قلتُ واحدا منهما. كان الرجل يمتلك حديقة في البيت تنعم من كل أصناف النباتات والشجر، ذاك كان مشروعه التجاري، كانت تضم الحديقة أحواض نعناع صبار ورد زهور كل شيء. بعد الحرب صرت أتابع رجلا آخر هو الآن هزيل البينة، رثَّ الثياب، يخرج من خيمة، يشعل النار للتدفئة، يجر خطى الرمل، لكن ملامحه التعبانة تَنِزُّ منها إشراقة ورضى لم أرى مثيلا لهما… لم أستطع التعرف عليه لأول وهلة، لقد كان لا يرتدي سوى أبيض اللون، ويتذوق التُّوتَ قبل أن يخبرنا بطعمه، مُتورِّد الخَدِّ ممتلئا… غيرت الحرب شكله لدرجة أنني حسبت أني أشاهد مقاطع لرجلين مختلفين وليس لرجل واحد… كان صاحب القناة نعم فلسطينيا وقد تيقّنتُ من فلسطينيته في الحرب، عندما صار رجلا آخر ولكن، هل توقف بائع الورد النازح في قطاع غزة؟ بالعكس لم يتوقف … زاد نشاطه، وصار يزرع الفلفل والنعناع والطماطم، ويقوم بجمع التبرعات لأهالي غزة أو حفر آبار أو توزيع مواد غذائية أو توزيع أموال، والجميل في الأمر أنه يعود إلى بيته المدمر في الشمال ليسقي أزهاره ويبقيها على قيد الحياة نكاية في القصف العشوائي، نكاية في الدمار ونكاية في العطش.
هل رأيتم من مفارقات الحرب مثل ما رأيت؟ إنها مفارقات الحرب ودروسها التي علمتنا الكثير والكثير ولا تزال تفعل!
أخيرا وجوابا عن السؤال أعلاه دعني أقول لك إن شَجْبَكَ الظُّلْمَ لَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ أمامَ جَرَّافَاتِ القِوَى والطُّغيانِ والاحتِلَالِ، غير أنَّكَ تُبَرِّئُ ذِمَّتَك مِنْهُ غدًا أو بَعد غَدٍ.