المحجوب بن الصديق.. رائد الحركة النقابية الوطنية

العربي الوافي
يقول رايث ميلز في كتاب الخيال الاجتماعي “إن وجود الفرد وتاريخ المجتمع غير قابلين للفهم إلا مجتمعين”، ولعل هذا ما يستنتجه قارئ الكتاب الذي خص به الأستاذ سليم رضوان سيرة الزعيم النقابي المحجوب بن الصديق (1922-2010)، التي عمرت ما ينيف عن نصف قرن من النضال السياسي والنقابي الذي دخل معتركه وهو يبلغ من العمر بالكاد 16 سنة، ليرتقى في مراتبية التنظيم على رأس “الاتحاد المغربي للشغل” الذي لا ينفصل تاريخه الحافل عن سيرته الذاتية. يصادف صدور هذا الكتاب مرور سبعين سنة على تأسيس “الاتحاد المغربي للشغل” في 20 مارس 1955، إذ كان مطلب “الحق النقابي” باعثاً ومحفزاً على تأسيس هذه المنظمة العتيدة، فضلا عن “تحقيق الاستقلال” و”استرجاع سيادة البلاد”، فكان على طريق “النقابية الوطنية” أن تمر حتماً “بالوطنية النقابية” كما أكد بن الصديق غير ما مرةً. إن تأملا لتاريخ الشعوب ينبينا أن القادة والزعماء نوعان؛ الأول يكون من النوع ذي الشخصية الباهتة، إن لم تكن ممحوة فلا هم يتركون أثرا في أقرانهم، ولا في التاريخ وبعبارة واحدة هم” عابرون في كلام عابر”. والنوع الثاني هم أولئك الذين يصنعون مصيرهم وتاريخهم بصنعهم لتاريخ بلدانهم وشعوبهم، وهم الذين يخلدهم التاريخ. وعليه فليسوا هم من يختار الزعامة، بل هي التي تختارهم؛ والمحجوب بن الصديق من هذه الطينة التي ولدتها جدلية الصراع الذي فرضته حتمية التاريخ بما اكتنفها من رافد وطني، وكفاح مستميت، استجابة لدواعي إيديولوجية المعركة المصيرية المحتدمة آنذاك، بين غاصب محتل وشعب يرزح تحت الاحتلال، فكان عليها أن تسم نضال الطبقة العاملة بسمة مزدوجة أي: الكفاح من أجل التحرر الوطني، ومن أجل الحق النقابي في الوقت ذاته؛ ذلك “أن عصر النقابة غير السياسية قد ولَّى، وأن التحرر الاجتماعي رهين بالانعتاق السياسي” كما جاء على لسان المحجوب بن الصديق في مخطوط 1952. تحيلنا هذه الازدواجية على فكرة تظل أصيلة ومجزية سواء من الوجهة المنهجية أو المذهبية ألا وهي فكرة النقد المزدوج، بما أنها نابعة من نقد جدري سواء للحماية النقابية أو للحماية السياسية؛ على أن هذا النقد المزدوج ليس مجرد سجال إيدولوجي، بل هو تعبير أصيل عن الروح الوطنية المتوثبة التي وسمت بميسها الصراع السياسي وانغمرت في صلبه، مع ما كان يتطلبه ذلك الصراع من جهد فكري وإيدولوجي يعمل على بلورة الوعي الوطني بما يغذي الكفاح التحرري الذي خاضته الطبقة العاملة المغربية. وهذا ما لخصته عبارة بليغة ضمن مخطوط دجنبر 1952: ” إن دور الطليعة النقابية هو جعل الطبقة العاملة المغربية تعي أن طريق النقابية الوطنية يمر حتماً بالوطنية النقابية”. هذه الأفكار والأحداث وغيرها مع ما أدت إليه من تفاعلات وقف عندها الأستاذ سليم رضوان بتفصيل؛ حسبنا أن نذكر ببعضها مما يستدعي مراجعة للتاريخ:
– بدءاً من 7 فبراير 1907 إثر القرارات المجحفة لمؤتمر الجزيرة الخضراء والصدامات العنيفة التي فجرتها أوراش ميناء الدار البيضاء (30 يوليوز 1907)، اتخذ الصراع ضد الاحتلال الفرنسي أشكالا عديدة، الشيء الذي أوعز بتفعيل الخطط الاستعمارية بخلق شروط اقتصادية واجتماعية ضداً على المستعمر أدت لنشوء طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة العمال.
– سنة 1929 بدأت بعض التحركات والإرهاصات المؤدية لميلاد جمعيات مهنية بقطاعات الطباعة والتجارة والنقل والأبناك، وكان من أبرز هذه التحركات تلك التي تقودها جمعية السككيين المشهود لها بالحيوية والإشعاع في الوسط العمالي والأوربي ذاته.
– من نتائج هذه التحركات عقد مؤتمر تأسيسي للاتحاد المحلي بالدار البيضاء، وما أن حلت سنة 1930 حتى انبثق عن هذا الزخم ميلاد أول تنظيم نقابي عمالي سيقابل بالعداء من لدن الإقامة العامة.
– في سن مبكرة سينتمي المحجوب بن الصديق للتنظيم النقابي السري للسكك الحديدية سنة 1938، الذي كان في طليعة الحركة النقابية الناشئة آنذاك. ستبدي الإقامة العامة تحت إمرة الجنرال جوان سنة 1947 عداء لهذا للتنظيم العمالي ولو أنه كان مرتبطا بالحركة العمالية الفرنسية.
– دجنبر 1952 : سيبدأ تسلسل الأحداث بالانتفاضة العمالية إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، ثم الإضراب العام الذي شل الحركة في المدن، وكان ذلك انطلاقاً لشرارة المقاومة الوطنية.
– 20 غشت 1953: سيعمد المقيم العام بتحالفه من القواد الخونة إلى حياكة مؤامرة نفي السلطان محمد بن يوسف، الشيئ الذي سيعمل على تأجيج الغضب الشعبي وانتشار حركة المقاومة في المدن والبوادي على حد سواء.
– إثر مغادرته السجن عمل المحجوب بن الصديق على التحضير لتأسيس منظمة نقابية وطنية: “الاتحاد
المغربي للشغل” وهو ما كان يتوق له وناضل من أجله منذ شبابه الباكر.
– 20 مارس 1955: سينعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد بمنزل متواضع بحي بوشنتوف الذي حضره 45 مندوباً نقابيا يمثلون 22 اتحاداً محلياً من مختلف المدن العمالية والمراكز المنجمية.
– كان هذا الحراك العمالي ضداً على المنع من ممارسة الحق في الحريات النقابية بمقتضى ظهير 1936 الذي يجيز للعمال الأوربيين ما لا يجيزه لأبناء الوطن، وكذا ظهير 1938 الذي كان يعتبر الانخراط في التنظيم النقابي جنحة يعاقب عليها القانون.
– غشت 1955: انعقاد مشاورات إيكس ليبان برئاسة إدغار فور. ضمت المشاورات أفراداً من حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، وعناصر من المخزن العتيق، وممثلين عن الحضور الفرنسي والمعمرين، وشخصيات حزبية ومحايدة. أسفرت المشاورات على عودة السلطان محمد بنيوسف من منفاه، وتشكيل حكومة “وحدة وطنية“.
– 19 أبريل 1955: سيعلن “الاتحاد المغربي للشغل” في بلاغ صادر موقفه من نتائج المشاورات مؤكدا على أن: ” عهد الباشوات والقواد قد ولى، وأن “الاتحاد” لن يساند حكومة تتأسس تحت لواء مؤسسة مشبوهة ومعترض عليها”. كما اعتبر علال الفاسي نتائج المشاورات”مصيدة فرنسية“…
– خلال هذه الحقبة كانت الدار البيضاء في طور التحديث، آخذة في التحول تدريجياً إلى مدينة عمالية
طليعية…كما كان العمال المغاربة طبقة اجتماعية ناشئة ينتمي أفرادها إلى قبائل مختلفة ومناطق جغرافية
متعددة.
– 2 مارس 1956: ستعلن الحكومة الفرنسية اعترافها باستقلال المغرب وإلغاء عقد الحماية، وستعترف الحكومة الإسبانية في أعقابها باستقلال شمال المغرب في 7 أبريل 1956، باستثناء سبتة ومليلية اللتين ظلتا خاضعين للنفوذ الإسباني.
– فاتح ماي سنة 1956: تخليد أول مظهر من مظاهر استرجاع السيادة الوطنية بالاحتفالات المخلدة لهذه الذكرى التي وجه فيها عاهل البلاد خطاباً نوه فيه بدور الطبقة العاملة في قيادة البلاد وإعادة بناء المغرب المستقل.
– فاتح ماي 1957: سيتميز بحضور الراحل جلالة محمد الخامس هذا الاحتفال العمالي بالدار البيضاء. كما شهدت هذه السنة يوم 24 فبراير 1957 حدثا تاريخياً متميزاً ألا وهو تأسيس منظمة “الشبيبة العاملة المغربية” بهدف تأطير الشباب والعامل منهم على الخصوص. وستشهد هذه السنة صدور جريدتي “الطليعة” و L’avant –garde.
– 3 دجنبر سنة 1958: سيُعلن عن استقالة حكومة أحمد بلافريج، بينما ستُشكل حكومة جديدة برئاسة عبد الله إبراهيم يوم 24 دجنبر 1958، بناء على قناعة الملك محمد الخامس بضرورة حكومة منسجمة تحظى بدعم القوات العمالية والشعبية بعد التجارب الحكومية الفاشلة.
– 24-26 أبريل 1959: سيصادف تفعيل حكومة عبد الله إبراهيم لبرنامجها السياسي والاقتصادي-الاجتماعي بعد تشكيلها. انعقاد المؤتمر الوطني الثاني “للاتحاد المغربي للشغل” مع مخاض ولادة حزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، الذي لم يكن تأسيسه انشقاقا عن حزب الاستقلال بل نهاية مسلسل تاريخي، سياسي وتنظيمي.
– 29 فبراير 1960: كارثة زلزال أكادير العنيف الذي خلف آلاف القتلى والمنكوبين، ودمارا كبيرا مع شعور بالحزن والأسى لدى الشعب المغربي.
– تأسيس مركزيات نقابية عديدة ضداً على الوحدة النقابية التي يمثلها الاتحاد المغربي للشغل بدءاً “بالاتحاد العام للشغالين” (مارس 1960)، و”اتحاد نقابات العمال الأحرار”( 1963)، و”الاتحاد النقابي للقوات العمالية” (1964)، و”الكنفدرالية الديموقراطية للشغل” ( 1978)، و”الاتحاد الوطني للشغل“.
– سنة 1961 تأسيس “الاتحاد التقدمي لنساء المغرب“UPFM باعتباره أول تنظيم للحركة النسائية يرى النور بالمغرب. انعقد المؤتمر التأسيسي بحضور مناضلات عدة قطاعات ومدن مغربية.
– سنة 1961 انعقاد المؤتمر التأسيسي “للاتحاد النقابي الإفريقي” بالدارالبيضاء بمبادرة من المحجوب بن الصديق بحضور 100 مشارك يمثلون 30 منظمة إفريقية.
– 23 مارس 1965 خروج آلاف التلاميذ للتظاهر احتجاجاً على المذكرة الوزارية التي تحدد شروط الانتقال من السلك الأول إلى السلك الثاني من التعليم الثانوي لإقصاء التلاميذ المزدادين قبل سنة 1948.
– 29 أكتوبر 1965 تم اختطاف الزعيم المهدي بنبركة في باريس وتوجيه الاتهام لعصابة من المخابرات المغربية وعناصر فرنسية بقيادة الجنرال أوفقير بالتورط في العملية.
– 5 يونيو 1967 هزيمة الجيوش العربية ( مصر، سوريا والأردن) كان لها وقعاً أليما على الشعوب العربية.
– يونيه 67 قررت الحكومة اعتقال المحجوب بن الصديق والحكم عليه بالسجن 18 شهرا نافذاً على إثر الرسالة التي بعث بها للديوان الملكي والتي :” يندد فيها بشدة بالمساندة الدائمة واللامشروطة التي تقدمها الحكومة المغربية لحفنة من الصهاينة“
– 29 يناير-فاتح فبراير 1969: انعقاد المؤتمر الرابع للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب بالقاهرة في ظرف دقيق بعد نكسة يونيو 1967. وقد كان الخطاب الذي ألقاه المحجوب بن الصديق بالمناسبة بحضور الرئيس جمال عبد الناصر مفعماً بالأمل والثقة في المستقبل، إذ يتجاوز الإحباط ويذكي الأمل في المستقبل.
– 27 يوليوز 1970: تأسيس الكثلة الوطنية التي تضم “الاتحاد المغربي للشغل” و”الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” و”حزب الاستقلال” ذلك التأسيس الذي اعتبره المحجوب بن الصديق” انتصاراً كبيراً ، اختصر طريق النضال أمام الشعب المغربي”. وقد كان تأسيس الكثلة الوطنية جوابا ورد فعل على نتائج الاستفتاء على ثاني دستور بالمغرب يوم 24 يوليوز 1970.
– 16-19 مارس 1972: انعقاد المؤتمر الوطني الخامس “للاتحاد المغربي للشغل” بالدار البيضاء الذي عبر في افتتاحه المحجوب بن الصديق عن “التضامن مع الطلبة والتلاميذ الذين يخوضون معركة حاسمة دفاعاً عن مستقبلهم الذي هو مستقبل كافة الشعب المغربي“.
– 14 نونبر1974: وفاة الشاعر عبد اللطيف زروال تحت التعذيب الذي تعرض له بمعتقل “درب مولاي الشريف”. كان زروال شاباً وديعاً يدرس الفلسفة وينظم الشعر، وكان يحلم بوطن يتسع للجميع.
– 10-12 يناير 1975: انعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب “الاتحاد الاشتراكي” بزعامة عبد الرحيم بوعبيد معلنا بذلك انفصاله عن “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” واعتماد المؤتمرين لاستراتيجية النضال الديموقراطي.
– 6-7 دجنبر 1989: انعقد بمقر الاتحاد المغربي للشغل بالدارالبيضاء المؤتمر التأسيسي “للاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي” بمشاركة قياديين نقابيين يمثلون “الاتحاد العام التونسي للشغل”، و”الاتحاد العام للعمال الجزائريين” و”اتحاد العمال الموريتانيين” و”الاتحاد العام لنقابات المهن الإنتاجية والحرفية بالجماهيرية العربية الليبية”و”الاتحاد المغربي للشغل”، وقد انتخب المؤتمر التأسيسي بالإجماع المحجوب بن الصديق رئيسا لهذا التنظيم.
– 21-23 أبريل 1995: أنعقد المؤتمر الوطني التاسع “للاتحاد المغربي للشغل” بالبيضاء بتزامن مع الذكرى الأربعين لتأسيسه، وقد كان ميلاد الاتحاد استجابة لضرورة تاريخية، إذ كان نتيجة لمسلسل نضالي استغرق سنوات طوال وكان يوم ميلاده في 20 مارس 1955 حدثا تاريخياً عظيماً
حكاية سيرة
في البدء كان “الاتحاد”… نحن في سنة 1959 وهذه دار “الاتحاد المغربي للشغل” شامخة في العلو وقد ملأها فتية صخباً جدلانين، في انتظار أن تقلهم الحافلة إلى “تومليلين” حيث هم ذاهبون للإقامة بالمخيم الصيفي في أعالي الأطلس المتوسط… كان رضوان أحد الأطفال الذين حظوا بالمشاركة في المخيم الذي تنظمه “الشبيبة العاملة” لفائدة أبناء العمال، إذ كان الأب الموظف بإدارة البريد منخرطاً في نقابة الاتحاد… من مفارقات الجوار أن المسافة غير بعيدة، بين بيت العائلة بالمدينة القديمة ومقر “الاتحاد” بشارع الجيش الملكي… ستحتضن “دار الاتحاد” بالمدينة القديمة أنشطة شبابية فنية وثقافية وسياسية ينشطها فنانون ماهدون من الشباب في شهر ماي على الخصوص؛ سيكون لها الأثر البالغ في تشكيل الذوق والوعي السياسي للشباب… بجوار دار الاتحاد “جامع ولد لحمرا” الذي يرتاده الشاب سليم رضوان، لأداء صلاة الجمعة… ستترك مواعظ الإمام أثرها في وعي شباب الحي وضمائرهم؛ بحثهم على الاستقامة وحسن الخلق والنهل من موارد المعرفة المختلفة…ثم سيأتي دور “مدرسة السلام” ومديرها الفقيه المتنور، وكذا معلم اللغة العربية المثقف الأنيق الذي سيلهم ذوق هؤلاء الفتية الذين تحلقوا حوله وأعينهم متعلقة بحركاته المتزنة… هكذا سيكتشفون جمالية الشعر وبلاغة النثر وفهما جديداً للحياة يزيد من الإقبال عليها… لكن اليوم الدامي للثلاثاء 23 مارس 1965 سيبدد نشوة الحلم الجميل لشباب متطلع… سيشكل هذا اليوم الدامي لحظة يقضة الوعي والشعور بالمسؤولية… انتمى البعض للحزب الشيوعي المحضور، وعمل البعض الآخر على الانخراط في تنظيمات سرية سواء ضمن “إلى الأمام” أو”23 مارس”… بعد الحصول على الباكالوريا سيتجه الطالب المجد مدفوعاً بحماسة الشباب إلى دراسة القانون… لكن سرعان ما سيزهد فيها كونها لا تجيب على أسئلته المؤرقة؛ وسيقبل على دراسة الفلسفة وكأنه يتذكر قول هاملت؛ “أكون أو لا أكون تلك هي المسألة”… ثم إن الانخراط في نضال “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” سيزيد من حماسة الشاب المناضل التي اكتسبها من ولائه القديم للطبقة العاملة ولمنظمتها “الاتحاد المغربي للشغل”… انعقاد مؤتمر القارات الثلاث بهافانا سنة 1966، ونداء الزعيم العالمي إرنستو شي غيفارا إلى خلق بؤر عديدة لثورة عالمية ضد الأمبريالية الأمريكية… لكن سرعان ما ارتفعت أصوات نعي هذا القائد الفد…ثم ستأتي الثورة العالمية الجارفة للطلبة سنة 1967 التي كان هدفها بناء صرح عالم جديد؛ على أنقاض العالم القديم القائم على الاستعمار والعنصرية والحروب المدمرة… في فرنسا على الخصوص ستتميز الثورة الطلابية لشهر ماي 1968 بالتمرد الوجودي على كافة مظاهر السلطة… ستنخرط الحركة الطلابية المغربية بحماس في الثورة الطلابية العالمية، مما حدى بالسلطات إلى احتواء مظاهر الاحتجاج باستدعاء مجموعة من الطلاب إلى الثكنات بداعي الخدمة العسكرية؛ سيكون من بينهم الطالب سليم رضوان… إفران 11-15 مارس 1970 لمواجهة احتجاجات الطلبة ستنعقد ندوة يترأسها الملك الحسن الثاني، ستسجيب فيها الحكومة لمجموعة من مطالب الطلبة المشاركين في الندوة الذين كان رضوان من بينهم… سيتحول الخلاف الإيديولوجي داخل “حزب التحرر والاشتراكية” إلى صراع سياسي بين الطلبة وبين المكتب السياسي، مثلما حدث في أحزاب شيوعية أخرى… انسحاب التيار الطلابي من الحزب سنة 1970، واعتماد شعارات “الجبهة الموحدة للطلبة التقديين” ضمن لائحة مرشحيه لانتخاب التعاضديات بجامعة محمد الخامس… تصدر اللائحة التي اكتسحت الانتخابات عبد الفتاح الفاكهاني الذي كان طالباً لامعاً بشعبة الأدب الفرنسي… بعد التخرج من جامعة محمد الخامس إثر حصوله على شهادة الإجازة في الفلسفة سنة 1971 سيتم تعيين سليم رضوان أستاذاً لنفس المادة “بثانوية المحمدية” ببني ملال… وسينخرط في أنشطة “الاتحاد المغربي للشغل”؛ حيث تطلب الوضع آنذاك إعادة النظر في الهياكل التنظيمية وانتخاب قيادة محلية جديدة… ماي 1972 ستشمله حملة الاختطافات التي تم شنها ضد شباب التيار الماركسي، بدءاً بالاحتجاز داخل مخفر الشرطة ببني ملال ثم الترحيل إلى معتقل “درب مولاي الشريف”… بعد شهور من الاحتجاز القسري سيم نقل المعتقلين إلى سجن “أغبيلة” حيث المعاناة المرعبة لولا زيارة الأقرباء التي كانت بلسماً يخفف من آلام الاعتقال وعذاباته خصوصاً حضور الأم الحنون وكذا الحضور الشجاع لخديجة رفيقة الدرب والحياة… 31 يوليوز 1972 بداية محاكمة المثقفين المعتقلين الثمانين التي ستمتد شهرا كاملا، ستتحول المحاكمة إلى مناظرة فلسفية حول الماركسية مدارها جوهر العدالة… إثر سنوات من الاعتقال، سيقيم رضوان ورفيقته خديجة بالدار البيضاء التي انتقلت إليها كأستاذة للفلسفة “بثانوية شوقي”، لينعم بنسمات الحرية التي يتنفس عبقها رافعاً رأسه متملياً رحابة السماء التي يتلذذ بتأملها وقد عانق الحرية… بعد صدور الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في 16 أكتوبر 1975، تم يوم 6 نونبر 1975 انطلاق المسيرة الخضراء السلمية لاسترجاع الصحراء المغربية… كان رضوان قد قرر اعتزال العمل السياسي إلا أن المحجوب بن الصديق أوصد باب الاعتزال في وجهه؛ إذ اقترح عضويته باللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني “للاتحاد المغربي للشغل”… انعقد “بدار الاتحاد” يومي 6-7 دجنبر 1989 المؤتمر التأسيسي “للاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي”، تزامن هذا الحدث مع تحولات جيوسياسية جديدة على رأسها سقوط جدار برلين يوم 9 نونبر 1989، ونهاية الحرب الباردة التي امتدت منذ 1961، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي، فتوسيع الهيمنة الأمريكية، ثم انتصار النظام الليبرالي الرأسمالي… إعلان الملك الحسن الثاني بتاريخ 9 يوليوز 1990 عن تأسيس” المجلس الوطني للشباب والمستقبل” الذي سيعين به سليم رضوان عضواً؛ باعتباره يمثل “الاتحاد المغربي للشغل”… سيعلن الملك الحسن الثاني يوم 24 دجنبر 1994 عن إحداث “المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي”، الذي من المفروض أن يلعب دوراً مهما في إنعاش الحوار بين أطراف الإنتاج والشركاء الاجتماعيين… لكن سرعان ما ستدب خيبة الأمل في نفس “الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل” بعد الوعي بالأخطار التي تهدد التشريع الاجتماعي خصوصاً النمو المضطرد للقطاع غير المهيكل وكذا ما سمي “بمرونة الشغل”؛ وهي عبارة ناعمة تفضي إلى فتح الباب مشرعاً أما التسريح التعسفي للعمال… سيوجه الملك الحسن الثاني بتاريخ 2 فبراير 1999 رسالة ملكية إلى السيد عبد العزيز مزيان بلفقيه بتعيينه رئيساً ل”اللجنة الخاصة للتربية والتكوين” قصد “إفراز تنظيم تربوي جديد يتجنب سلبيات المقاربات السابقة، ويتوخى تحقيق الأهداف المستجدة”، وقد كان سليم رضوان عضواً بهذه اللجنة… يوم 8 يوليوز 1999 انعقاد الجلسة الختامية لهذه اللجنة حيث سيوقع أعضاؤها على مسودة “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” بعد 5 أشهر من العمل المتواصل… سيتميز العهد الجديد بإقدام الملك محمد السادس على إحداث “هيئة الإنصاف والمصالحة” برئاسة إدرس بنزكري، وقد كان خلق تلك الهيئة مبادرة فريدة في التاريخ العربي –الإسلامي؛ بما أنها تعمل على إخضاع ماضي الدولة لتقويم نقدي بهدف طي صفحة الماضي المأساوي والتطلع بأمل للمستقبل مع ما يقتضيه ذلك من حل ديموقراطي لمشكل إنساني…
الفصل الأخير من الكتاب يقع في ثمانية وخمسين (58) صفحة عنوانه “ما بعد الخاتمة: حكاية سيرة”. ولا شك أن إدراج سليم رضوان لسيرة حياته ضمن هذا الكتاب له دلالة بينة، فقد كان منتمياً دوما “للاتحاد المغربي للشغل”، فضلا عن العلاقة المتميزة التي جمعته بالمحجوب بن الصديق. في ثنايا هذا الفصل سؤال مركزي: “ما هو دور المثقف المغربي؟” الذي يحيل بدون شك على نشأة المثقف المغربي التي حازت شرعيتها التاريخية من ارتباطها العضوي بالثورة الفكرية والمجتمعية بمظاهرها المختلفة: أولها الثورة السلفية التي قادها علال الفاسي والتي تمثل “رؤية نقدية للماضي تهدف إلى القضاء على ما ترسب فيه من معتقدات باطلة وسلوكات خاطئة”، وثانيها المفهوم الجديد للنضال السياسي الداعي من منظور محمد بلحسن الوزاني إلى دمقرطة الحياة السياسية، وثالثها جدلية الطاقات كقاعدة أصيلة لكل تطور ديموقراطي من وجهة نظر عبد الله إبراهيم… نحن هنا أمام ثلاثة أنماط من تطور الفكر الذي يمر بمراحل ثلاث: من الفكر السلفي، إلى الفكر الليبرالي، إلى الفكر الديموقراطي. من الأكيد أن هذه النمذجة ليست كتلك التي يقترحها علينا الأستاذ عبد الله العروي في “الإيديولوجية العربية المعاصرة” التي يمثلها كل من: “الشيخ، وداعية التقنية، والمفكر الليبرالي”. إلا أن النمذجة تلك ربما راوحت بين القرب منها أو البعد عنها، وعليه فهي تستحق مزيداً من البحث والتأمل.
في الأخير لابد من التأكيد على أهمية الكتاب وعلى الجدوى من قراءته والتنويه به، وكذا التنويه بما بذله فيه الكاتب من جهد سواء في التوثيق، أو التدقيق التاريخي، أو التحرير؛ وكل هذا أخذ منه الكثير من الجهد والوقت؛ مما يستحق عليه خالص التهنئة.