المعرفة بالذات والمجال.. في ملتقى الذاكرة والتراث الثقافي بـ”بني مسكين”

المعرفة بالذات والمجال.. في ملتقى الذاكرة والتراث الثقافي بـ”بني مسكين”

متابعة: سارة الأحمر

           امتدادا لمسعى ثقافي يرومُ مساءلة الذاكرة المحلية للبادية المغربية، واستعادة نبض أمكنتها وتراثها وأعلامها، عبرَ استنطاق ذاكرتها بما تختزنه من رموز لم تكشفْ، ومرويات لم تكتبْ، وتجارب إنسانية وثقافية تعيدُ ربط الإنسان بجذوره وهويته، عقد مختبر السرديات والخطابات الثقافية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء يوم السابع عشر من ماي، بجماعة أولاد فارس الحلّة، دائرة البروج الملتقى الحادي والعشرون للذاكرة والتراث الثقافي، دورة بني مسكين بالشاوية العليا، بعنوان: “الذاكرة والتاريخ والمجال في قبيلة بني مسكين”، بشراكة مع الجماعة الترابية أولاد فارس الحلّة دائرة البروج ببني مسكين، وبتنسيق مع كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية، بجامعة الحسن الأول بسطات، ومختبر المجال والتاريخ والإنسانيات الرقمية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، ونادي القلم المغربي.

   استهلت الجلسة الافتتاحية المُخصصة لكلمات الفعاليات المُشرفة على المُلتقى، التي ترأس أشغالها شُعيب حليفي بآياتٍ بينات من الذكر الحكيم، وبترديد النشيد الوطني المغربي، وبعد ترحيبه بالحضور  الذي تجاوز 450 من المتتبعين من بينهم باحثون وطلبة من جامعات الحسن الثاني بالبيضاء والحسن الأول بسطات ومن جامعات الجديدة ومراكش والرباط، بالإضافة إلى مؤرخين ورؤساء الجماعات  وأعضاء منتخبين وفاعلين في مجال البحث والثقافة وإعلاميين وفلاحين. ومما تحدث عنه  أكد شعيب حليفي على أن الثقافة لم تعد حبيسة أسوار الجامعات فحسب، بل انحدرت في انسياب جميل نحو القرية، ملامسة تاريخها العريق وتراثها الزاخر بالمعارف الإنسانية الذي يسمو بالنفوس مشكلا جوهر الهوية بكل تفاصيلها الدقيقة المتغلغلة في الوجدان. إن امتلاك أدوات المعرفة الضاربة بجذورها في أعماق المجتمع، حسب شعيب حليفي، لن يتأتى إلا بالإنصات لنبض الواقع، والإصغاء لصوت الفلاحين والعمال والشيوخ، واستنطاق كل ذرة من تراب البادية وكلّ كائن من كائناتها، وحقيقة الجامعة تكمن في صون هذا التاريخ المحلي الغنيّ الذي يصل بعمق الأرض والتاريخ.

   بعد ذلك تناول الكلمة، السيّد العربي الشريعي، رئيس جماعة أولاد الفارس الحلّة، مُعبرا فيها عن فخره بهذا المُلتقى المنظم في حضن أولاد فارس، معتبرا إياه لحظة معرفية مفعمة بالدلالات التاريخية والثقافية العميقة التي تجدد الصلة بالجذور، مؤكدا على التزامه بالدعم المتواصل لهذه المبادرات الهادفة التي تصون الهوية وتعزز الوعي الجماعي بأهمية الذاكرة المحلية للمنطقة.

   وفي كلمة ممثلة جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، عبرت السيدة سميرة اركيبي نائبة العميدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء،عن بالغ اعتزازها بهذا الحدث الهام الذي يعكس الوعي العميق بصون الذاكرة الجماعية والمحلية للبلد، والذي يصادف الذكرى 40 لتأسيس كلية بنمسيك التي ما فتئت تولي الاهتمام للبحث في محيط الجامعة بأبحاث في مجالات مختلفة ومتنوعة.

   أما كلمة عميد كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بسطات السيد عبد القادر سبيل، فقد نوه فيها بهذا الحدث الثقافي، وأشار فيها إلى انخراط الجامعة الفعّال في كل المشاريع الثقافية المنظمة فوق أرض الشاوية، كما عبر عن استعداده على مواصلة التنسيق مع مختبر السرديات والخطابات الثقافية والعمل الدائب من الانفتاح على المحيط وحماية تاريخ المنطقة وذاكرتها المحلية.

   وقبل اختتام الجلسة ألقى السيد محمد بلعباس حسون، أحد الرجال الذين أسسوا قيم النضال الاجتماعي والثقافي بمنطقة الشاوية، كلمة ألقى من خلالها التحية لكل الحضور والفعاليات المساهمة في إنجاح المُلتقى، وأشار فيها إلى خصوصية ومميزات نهر أم الربيع الذي يمتلك طبيعة تؤثث وتؤرخ لمخزون فكري وثقافي واجتماعي وجهادي للمنطقة.

   واختتمت الجلسة الافتتاحية بكلمة الأستاذ صالح شكاك باسم اللجنة العلمية للملتقى أكد فيها على ضرورة الاشتغال في الميدان والبحث عن المعلومات داخل مظانها الأصلية، كما تطرق إلى مميزات منطقة بني مسكين، باعتبارها منطقة فاصلة ذات حضور قوي، ومحط عبور بينَ قبيلتين هما تادلة والشاوية.

   انطلقت الجلسة العلمية الأولى بمُحاضرة افتتاحية للأستاذة رابحة صالح الموسومة بـ”المقومات الشمولية والتنمية الترابية ببني مسكين”، قامت بتفييئها إلى عدة مجموعات هي؛ المجموعة الأولى: المحيط الطبيعي وجمالية المشاهد البيئية؛ فالمحيط الطبيعي يتكون من هضاب مسطحة إلى متموجة تنضوي في عداد الوحدة الكبيرة وهي الشاوية العليا.

المجموعة الثانية: مجموعة الرأسمال البشري الذي يتميز بالصبر الكبير والتفاني والتحدي والمثابرة والتمسك بالأرض والرعي رغم قساوة الظروف المناخية، وكذا دور المرأة المسكينية وما تبذله في خدمة الأرض وتربية الأولاد.

المجموعة الثالثة: مجموعة الرأسمال العلمي والمعرفي المجسد في الجامعة ومختبراتها وأساتذتها وطلبتها، وما تقوم به من جهود علمية ومعرفية جادة ورصينة.

المجموعة الرابعة: التراث والثقافة وكل ما هو ضائع ومهمش ومنسي، فما تزخر به المنطقة من مؤهلات يشكل رافعة تنموية في السياحة يجب النهوض بها وتهييئها.

المجموعة الخامسة: العمل الجمعوي والجمعيات، حيث أخذت هذه الأخيرة المشعل من أجل العمل والتعاون.

المجموعة السادسة: دور المجالس المنتخبة في التنمية، فالجهة يجب أن تنبني بعدد من الفاعلين في الحقل التنموي، من أجل العمل على الدراسات التشخيصية حسب الأولويات، حيث ينبغي التركيز على الحكامة الترابية والعدالة المجالية والإنصاف المحلي.  

وفي ختام الجلسة قدم الإعلامي محمد عاطر كلمة أبرز فيها علاقته بمجتمع بني مسكين، حيث شكل أنجح حلقات برنامجه الإذاعي، هذا المجتمع الذي أنجب المقاوم المغربي الرحال المسكيني الذي بقي اسمه موشوما في ذاكرة المقاومة المغربية.

   وقدم المخرج أحمد مدفعي في كلمته لقطات من بعض الإنتاجات التلفزية المتعلقة بالمنطقة، مثل حكاية “سربة” التي قدمت أثناء فترة الحصاد، وحكاية ركب المعاشات لإحياء صلة الرحم، بأبعاد ثقافية وإنسانية عميقة.

   بعد هذه الكلمات، انطلقت الجلسة العلمية الثانية الموسومة بـ”المجال والتنمية” برئاسة إبراهيم أزوغ الذي أشار إلى العمل الريادي لمختبر السرديات والخطابات الثقافية الذي يسعى للبحث في سرديات الجهة مؤسسا لمسار بحثي وإنتاج سردي محلي منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من تكريسه لثقافة الاعتراف من خلال ما عقده ويعقده من لقاءات عديدة ومتنوعة في كافة الجهات المغربية، وكذا حرصه على مواصلة النبش في الذاكرة المغربية المحلية والتراث الثقافي الغني والمتنوع.

   أولى مداخلات الجلسة العلمية، قدمتها الباحثة حنان البكري، نيابة عن الأستاذ محمد محي الدين الذي اختار لورقته عنوان “المؤهلات الطبيعية والتنمية المستديمة بقبائل بني مسكين”، وقف من خلالها على الموقع الجغرافي لقبيلة بني مسكين حيث تقع في الهامش الجنوبي الشرقي للشاوية تتوسطها مجموعة من القبائل، منها أولاد بوزيري وأولاد سيدي بنداود في الشمال الغربي، وقبائل الرحامنة والسراغنة في الشرق، أما في الجنوب فتحاديها قبائل امزاب، وتتصل بقبائل بني عمير وبني موسى. وقد ظلت هذه المنطقة غير مأهولة إلى  حين مجيء الموحدين في الفترة الوسيطية من القرن الثاني عشر، وقد ارتبط الوضع المجالي بمظاهر الهشاشة مناخيا بسبب قلة التساقطات المطرية وعدم انتظامها الزمني، كما أشار إلى أشكال التضاريس ورتابتها وسهولتها وأشكال التربة التي تمثل مظهرا آخر من مظاهر هشاشة الوسط الطبيعي بالمنطقة، مما جعلها سباقة إلى الهجرة والنزوح إلى المناطق المجاورة.

   وقد تطرقت الورقة الثانية المعنونة بـ”الوسط الطبيعي بهضاب بني مسكين، الموارد وأشكال التأقلم” للأستاذ بدر الدين الناصري إلى موقع قبيلة بني مسكين والقبائل المجاورة لها، كما تناولت المجال التضاريسي للمنطقة الذي يتميز بالرتابة، وارتفاعات المنطقة وتكويناتها الجيولوجية، ومميزاتها الجوية خاصة ندرة التساقطات المطرية، وفقر التربة، وغطائها النباتي وتغيراتها المُناخية، وأشكال التأقلم بهذا المجال الذي يعرف انتشار الرعي والزراعة.

   أما الورقة الثالثة للأستاذ الحسين بن الأمين حول”أثر الجفاف على النشاط الفلاحي وسبل تكيف الفلاحين بالبيئات شبه الجافة حالة بني مسكين”، فقد أشار فيها إلى الخصائص الفلاحية في منطقة بني مسكين، حيث تتميز بسيادة الفلاحة البورية مع سيادة تربة “الحرش”، كما تعرف ندرة التساقطات وقلة المساحات المسقية وقلة الغطاء الطبيعي، ورغم قساوة الظروف المناخية وتوالي سنوات الجفاف فإن المنطقة تعرف زراعة الحبوب والقطاني مع أشجار الزيتون وتربية الأغنام والماشية.

   ومن مجال المنطقة ومؤهلاتها الطبيعية ومظاهر تنميتها انعقدت الجلسة العلمية الثالثة، للنبش في هوية تاريخ منطقة بني مسكين المحلي، بتنسيق الأستاذ المؤرخ محمد معروف الدفالي، استهلت بورقة الباحثة امباركة الخلوي “الهوية والتاريخ ببني مسكين”، والتي سلطت فيها الضوء على هوية منطقة بن مسكين التي تمثل نموذجا غنيا وعلى تاريخها، حيث كانت منطقة أمازيغية واستعربت في مرحلة من المراحل، كما كانت تتميز بنظام المخزن، وشكلت محطة مقاومة مع مولاي عبد العزيز.

   الورقة الثانية للأستاذ جمال بامي “دراسة أنثروبولوجية لفخار بني مسكين: نموذج أولاد سي مسعود” ألقاها بالنيابة عنه أحمد الناهي، تتبع فيها الجانب الأثري للخزف وأهميته بقبيلة بني مسكين حيث قام بزيارات ميدانية لمكانه بأولاد سي مسعود وبقرية الفخار المتواجدة تحت الماء وخلص إلى وفرة القطع الفخارية بالمنطقة، كما أشار إلى الروافد الممكنة التي نهلت منها قرية الفخار بأولاد سي مسعود وخلص إلى فرضيات أهمها أن تأثير فخار دمنات واضح في المجال الفخاري المسكيني.

   الورقة الثالثة للأستاذة “أسماء الرفاعي” بخصوص “القيادات في قبيلة بني مسكين ما بين القرن التاسع عشر إلى فترة الحماية وعلاقتها بالمخزن”،  تطرقت فيها إلى علاقة منطقة بني مسكين بالسلطة وأشارت إلى عدة مراحل منها مرحلة الاستقلالية ومرحلة التشتت ثم مرحلة الحماية.

   أما الورقة الرابعة والأخيرة للباحث حكيم الفساحي فقد اختار لها عنوان “العمارة العسكرية بأولاد فارس الحلة ببني مسكين، محاولة في التوثيق”، وأشار فيها إلى بعض معالم المنطقة مثل دار سي أحمد والقصر ودار سي الجيلالي مبرزا الخصوصيات المعمارية لكل معلمة، ومادة البناء الأساسية المستعملة وتقنياتها وبعض مميزاتها، كما أشار إلى أهمية التوثيق وكيفية التعامل مع الرواية الشفهية.

   واختتم الأستاذ محمد معروف الدفالي أشغال الجلسة العلمية بمجموعة من التوصيات أهمها إنشاء نواة للبحث العلمي في المنطقة.

   وفي ختام الملتقى، ثمن السيد رئيس جامعة الحسن الأول بسطات هذه المبادرة الساعية إلى صون هذا التراث المحلي الراسخ في الذاكرة والوجدان، وشكر كل على القائمين على تنظيم هذا الملتقى المتميز الذي يهتم بمنطقة كبيرة على الصعيد المحلي والجهوي والوطني وبذاكرتها ورجالها ونسائها وتراثها المادي وغير المادي، وأكد على انخراط الجامعة وتثمينها لكل ما يسْهم في صون تراث المغرب المحلي والجهوي الغني والمتنوع مجاليا وجغرافيا وثقافيا.

شارك هذا الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!