بيـْن العَـربتين…؟

بيـْن العَـربتين…؟

نجيب طلال

ســؤال الحــيرة

           في إطار التناسي أو اللامبالاة والصمت الذي يطوق ويغتال أحداثاً وقضايا وأيقونات عربية لا تُحصى، عاشتها الخريطة العربية وساهمت في أحداث مفصلية في الواقع المعاش أو في المتخيل؛ كانعكاس للواقع العربي وفق رؤية العصر، نتساءل (مثلاً): أين هي الدلالة الرمزية السياسية والثقافية لـ “جمال الدرة” كأيقونة فلسطينية؟ وأين واقعة رشق “منتظر الزيدي” للرئيس “جورج دبليو بوش” بالحذاء في مؤتمر صحفي سنة (2008) في كتاباتنا وإبداعاتنا القولية والفنية عربياً؟

فمن هذه الواقعة التي تفاعل معها الشعور العربي بكل تلقائية “مرحلياً” -وإن كانت ذات طبيعة سياسية- والتي وقعت في أواسط هذا الشهر (ديسمبر/ كانون الأول)، نتساءل من خلال حمولة هذا الشهر: هل هنالك علاقة أو مقاربة بين عربة “الأم الشجاعة” وعربة “البوعزيزي”؟

سؤال ليس بعابر أو بمثابة ترف فكري؛ لأنه أساساً له علاقة بما أثرته، وفي نفس اللحظة هو سؤال محير يفرض قوة طرحه ارتباطاً بالتحولات التي نعيشها في سياق الفعل الاجتماعي والثقافي. فمن خلال “العربة” التي يمكن أن نعيدها للمخيال الجمعي، سواء عربة (الأم الشجاعة) أو عربة (محمد البوعزيزي)، نجد أن قاسمهما المشترك هو التهميش الاجتماعي وغلو الرأسمالية؛ هكذا يبدو لنا. لكن إذا أمعنا في العربتين، فهما تتجاوزان حدود السؤال ليلتقيا في مسارات متشابكة اقتصادياً وسياسياً وسلوكياً. وإن اختلفا في الجذور بين المتخيل والواقعي، فهما متقاطعان في الوضعية والرؤية والمعنى.

عربة السيدة آنا فيرلينغ (الأم الشجاعة)

تندرج هذه العربة في سياق عمل مسرحي لـ “بريخت”، والتي حازت اهتمام الكثير من الأدباء والنقاد الغربيين وبعض العرب، باعتبارها أعظم مسرحية مناهضة ومنددة للحرب على الإطلاق. ولا سيما أن بريخت -على حد تعبير قوله- يرى أن الحرب تقتل الفضائل الإنسانية، ويفضل العيش بسلام على دوام الحرب التي تعتبر مصيبة تحل على رؤوس الشعوب. كتبها عام 1939 بعد هروبه من ألمانيا النازية، وخاصة حينما بدأ “هتلر” بحرق الكتب في الميادين العامة وملاحقة معارضيه. المسرحية في الأصل مأخوذة عن رواية للكاتب الألماني “غريميسهاوزن” من القرن السابع عشر إبان حرب الثلاثين عاماً (1624 – 1636).

الأهم عندنا هو “العربة” القديمة التي كان أطفالها يجرونها قبل قتلهم، والأم تتجول في جبهة القتال لتبيع الخبز والمشروبات للجنود في دروب أوروبا؛ همها الوحيد استغلال مجريات الحرب للربح أكثر بصفقات تجارية، ولكنها فقدت فيها أولادها. لقد وظف بريخت العربة بمثابة تجسيد للتبادل التجاري لبناء الثروة من قوت المتحاربين، وتلك قمة الرأسمالية كقوة دافعة وراء تصرفات “الأم الشجاعة”.

عربة محمد البوعزيزي

إن كانت العربة دلالياً أداة عيش يومي بسيط وتمثل اقتصاداً هشاً، فإن هذه الدلالة تنعكس على عربة “محمد البوعزيزي” الذي كان يعمل لإعالة أسرته، وينضاف إليها كرامة مهدورة ومسلوبة. يشترك البوعزيزي مع (آنا فيرلينغ) ومع أغلب الفقراء في المعاناة من تقلص الحماية الاجتماعية، مما دفع العائلات الفقيرة لنشر أفرادها (نساءً وأطفالاً) لكسب العيش في “اقتصاد الشارع”.

إنها عيش قسري وهش في اقتصاد التهميش؛ فالعربة ليست مجرد وسيلة مادية أو ديكور، بل رمز وجود قاسٍ. تغدو “العربة” امتداداً طبيعياً لجسد ومصير الشخصيتين. وإذا كانت عربة الأم الشجاعة تمثل اقتصاد الحرب الذي يسمح بالبقاء مقابل الخسارة المتكررة، فإنه في العرض المسرحي (على المسرح الملكي بستوكهولم بإخراج Anders Paulin)، ألغى المخرج العربة وقدم العرض في فضاء خالٍ كنوع من التجريب. لكن على مستوى الواقع، غير ممكن بتر ذاك التلاحم بين الجسد والعربة.

التراجيديا بين الصبر والانفجار

يصف رولان بارت “الأم الشجاعة” بأنها “عمياء”؛ لأنها لا ترى كيف تخسر أبناءها واحداً تلو الآخر بسبب الحرب ولا تتعظ، تماماً كما هو الحال مع من يعتقد نفسه منتصراً في حروب العالم العربي التي لا تنتهي.

أما عربة البوعزيزي، فقد كانت حدثاً مفصلياً في إشعال شرارة الثورة. فبين العربتين يحضر المتخيل والواقعي؛ يتجسد الصبر والتكيف في (الأم الشجاعة)، والصبر والانفجار في (البوعزيزي). تحولت عربة البوعزيزي من أداة عيش يومي صادرتها السلطة لإذلاله، إلى أيقونة سياسية كسرت “الجدار الرابع” (بالمصطلح البريشتي) بين التمثيل والواقع ليزول وهم السلطة.

سقوط إمبراطورية الخوف -كما عبر عنها عبد الإله بلقزيز- مثلت لحظة توقف جر “عربة البوعزيزي” إيذاناً بقطيعة جذرية وكسر للصمت. البوعزيزي لم يختر الأسطرة، بل فُرضت عليه بعد انسداد الخيارات ومحاولة السلطة مصادرة العربة التي تشكل جزءاً من كينونته.

هوامش وإحالات (الإستئناس):

  1. إبراهيم برخو، “الأم الشجاعة وأولادها”، صحيفةORG، 16/03/2024.
  2. أصف بيات، “ثوار بلا ثورة”، ترجمة فكتور سحاب، ص 144، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2022.
  3. فارس عصمان، “مسرحية الأم الشجاعة ولعنة الحرب”، مجلة الحوار المتمدن، عدد 2530، 18/01/2009.
  4. ناصر ونوس، “صرخة متجددة ضد الحرب”، مجلة الفلق، 15/12/2019.
  5. بيير بورديو (إشراف)، “بؤس العالم” ج1، ترجمة محمد صبح، ص 11، دار كنعان، 2010.
  6. عبد الإله بلقزيز، “ثورات وخيبات في التغيير الذي لم يكتمل”، ص 27، منتدى المعارف، ط1، 2012.
  7. قيس الزبيدي، “مسرح التغيير: مقالات في منهج بريخت الفني”، ص 85-86، دار ابن رشد، 1978.
شارك هذا الموضوع

نجيب طلال

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!