جدلية الألم الذاتي والشكل الروائي في رواية “إثر واجم”

لحسن أوزين
أغلب المقالات التي تناولت رواية “إثر واجم” للشاعرة والكاتبة السورية سليمان مثال، ركزت بشكل كبير على المضامين الفكرية والأيديولوجية، والأبعاد الثقافية. وجعلت الرواية مطية وذريعة لنقد الواقع، أكثر من الاهتمام في الوقت نفسه بالشكل الفني الأدبي الروائي الذي يميز هذه الرواية.
لذلك نعتقد أن إغفال طريقة القول، فيه تبخيس للأدب، وعماء نظري نقدي عن كيفية الكتابة في اشتغالها لإعادة تركيب الواقع بأدوات وآليات فنية، لها منطقها وشكل اشتغالها الداخلي. لهذا سنتناول هذه الجوانب الأدبية، أو بشكل أدق سنحاول تسليط الضوء على الوجه الاخر للرواية الذي ظل مغيبا في المقاربات الكثيرة التي كتبت حول رواية “إثر واجم”.
1- سحرية اللغة
إن ما يميز البعد الفكري والمعرفي والثقافي في الرواية في اشتغالها على الذات والهوية والجندر…، هو لغتها الساحرة، المفعمة بالكثافة الشعرية، في التفكير والحوار الذاتي والخارجي، وفي التأمل والتشريح النقدي. وفي تمحيص الرؤى والأفكار الجاهزة بطريقة نقدية تجمع في التبليغ بين الايحاءات السيميائية المتجاوزة للغة النمطية الجاهزة، والتقريرية المباشرة الجافة، وبين التعبير المجازي المولد للدلالات.
كما أنها تستند أيضا على الرمزية كأدوات فنية ثرية في تحقيق أدبية الرواية. وإن كان هذا البعد الجمالي في الرواية يتورط أحيانا في الزخرفة التكرارية القهرية المعيقة لتكوين وإنتاج المعنى وسيرورة التدليل. فإنه على الرغم من ذلك حافظت عملية التجريب في الكتابة الروائية على قيمتها الفنية العالية، في بناء الشخصيتين المتحاورتين (خاتون و كابار ). وذلك تبعا لإيقاع نمائي، يحاول جاهدا تأسيس الرؤى الفلسفية والفكرية على أرضية التفكيك والمراجعة النقدية للأفكار والرؤى والمواقف والعلاقات والدلالات…، المسيطرة والمهيمنة في السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية. خاصة مضامين هذه السياقات في العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة.
بلغة جميلة وثرية في ايحاءاتها واستعاراتها، والتشبيهات، ينسج النص الروائي ذاته (خدعة الخريف، الحب المؤجل، الحروف الميتة، الخريف الرقمي، الحب بدعة صفراء..). واثقة الرواية من قدرتها على تخطي التواصل الأحادي نحو التفاعل الجدلي بين الذات والأخر والعالم. حيث الكلمات تتجاوز وظيفتها التقليدية للإبلاغ والسمع العمودي. طامحة- اللغة- الى تبادل تمرير السائل المخصب بينها وبين أرض الروح. وذلك من أجل تواصل كوني إنساني. إننا أمام لغة تشتغل على نفسها أسلوبا وفكرة وأفقا للمعنى. “في ذلك الحوار الصادق، لا تقال الكلمات لتسمع فقط، بل لتزرع في أرض الروح. يصبح الحديث بين الأرواح انعكاسا للإنسانية ذاتها، حيث يستعاد التوازن بين الذات والعالم. من خلال هذا الربط العميق، تتولد الحكمة، وتنضج الرؤية. إنها لحظة من السكون وسط الفوضى، حيث ينبثق الأمل كوميض بعيد، لكنه واضح بما يكفي ليضيء الطريق.” 47
2- التباسات البعد الزمني
القضايا والأسئلة المحرقة الملحاحة التي تثقل كاهل المرأة في مجتمعاتنا الأبوية في نزعتها الذكورية، انعكست بشكل أو بآخر على سيرورة البناء الزمني في الرواية. فويلات التمزقات وحالات التشظي والآلام الدفينة، والتصدعات النفسية الاجتماعية، والرغبة الكبيرة في النقد والبناء الأقرب الى الولادة من جديد. جعلت الرواية تغوص في الهم الذاتي حيث الشخصي سياسي، وفي القضايا الفكرية والاجتماعية والفلسفية التي تؤطر وجود المرأة في نظام المجتمع الأبوي السلطوي الاستبدادي. لهذا تأرجحت الرواية بين عوالم الذات في ذكرياتها وتاريخها الشخصي، ومعاناتها الثقافية الاجتماعية الجندرية التي حالت دون تطلعاتها وطموحاتها في أن تكون وتصير مشروعا وجوديا مستقلا. بعيدا عن المحاكاة والتماهي بالأيقونات الرمزية والصنمية التي تجرد الإنسان من قيمته وفاعليته ونبضه الحيوي التاريخي.
وهذا ما جعل الرواية تبتعد تبعا لمنطق الكتابة الحوارية الذاتية النفسية والخارجية الفلسفية والفكرية، عن نمط رواية الحبكة والحدث وسيرورة الوقائع…، المتعارف عليها في الرواية التقليدية التي لا تخيب أفق انتظار القارئ. بل هي تخلخل التوقعات الجاهزة وتدفع بسؤال الكتابة في كيفية قولها الى صدارة الانطباع لدى القارئ النقدي. باحثا من زاوية فنية أدبية عن شرعية ومصداقية شكل الرواية في بنيتها السردية.
3- سيرورة البنية السردية
كان طبيعيا أن تتحكم الأبعاد النفسية والاجتماعية الثقافية الجندرية والوجودية، لواقع المرأة في مجتمعاتنا الذكورية الأبوية المتسلطة، في سيرورة نشأة وتكون وتطور وتيرة الإيقاع السردي. بصورة مثقلة بالهواجس الواجمة والأشجان والأسئلة الحارقة الذاتية والفكرية والمجتمعية والجندرية. وهذا ما انعكس سلبيا على افتقار البناء السردي للشحنات الدرامية التي يمكن أن تسمح بالحضور القوي للأحداث، عوض الانغماس في حالات التمزق الذاتي الشخصي والتاريخي، والتشظي النفسي والاجتماعي والثقافي، من خلال النظرة التأملية التي تنسجها لغة عالية الكثافة الشعرية. وهذا ما يؤدي بشكل لا واع إلى معاودة إنتاج للنظام الأبوي الذكوري، بدل التأسيس لعوالم الحرية والتحرر من أسس وجذور عوائق التغيير والنهوض، كما تطمح الى ذلك خاتون بوصفها صورة للمرأة الطامحة للتغيير في مجتمعاتنا، والانفتاح على الإنسانية بشكل عام.
4 – الحوار بوصفه مناظرة فلسفية وفكرية
اعتمدت الرواية في كيفية قولها للخطاب الروائي على تقنية الحوار بين شخصيتين رئيستين. فعبر هذه الآلية الفنية تمت صياغة التأملات والطروحات الفلسفية الفكرية، في مناقشة مجموعة من القضايا التي تؤرق بشكل خاص المرأة خاتون. لذلك دخلت في حوار نفسي وجودي ثقافي واجتماعي مع كابار بوصفه رجلا بالمعنى الجندري الثقافي. وليس بوصفه إنسانا، خارج علاقة الجلاد والضحية التي تشغل إلى حد ما خاتون. وما كان لها أن تؤسس لهذا الحوار في انطلاقه وتطور سيرورته بالصورة المثالية إلا لأنه رجل أنيق ونظيف، بشكل ما من وحل ووطأة سطوة الأبوية بنزعتها الذكورية. لهذا تمكنت تقنية الحوار الفنية في بناء وإنتاج المعاني التي كانت تستهدفها إستراتيجية الكتابة.
هكذا كانت الرواية تحفر عميقا في تاريخ الذات وتجاربها، وتسائل القوالب النمطية التي جعلتها تأخذ هذا الشكل الاجتماعي الثقافي. لكنها لم تكن تتردد في مواجهة شكل الهوية الذي فرض عليها. لذلك كانت تواجه الأسئلة المؤلمة التي قمعها تاريخ الخوف القهري. وتتأمل في حوارها الذاتي والخارجي تلك الهشاشة المصطنعة، والتي حالت بين الفرد وأحلامه. بلغة يظهر فيها جمال التفكيك للعاهات والحواجز وذعر الخوف، واكتشاف منابع الذات الحقيقية في صناعة القوة من دفء العلاقات الإنسانية.” وفي لحظة من تلك الرحلة الداخلية يظهر صوت آخر أشبه بمرآة تعكس ما تعجز عن رؤيته. يحمل هذا الصوت دعوة صامتة الى مواجهة الأسئلة الدفينة، الى تأمل الأحلام التي طمست تحت أثقال الخوف. كان الصوت يهمس لها بأن القوة لا تأتي دائما من العزلة، بل أحيانا من دفء العلاقات الإنسانية. من خلال الحوار، يتكشف الغطاء عن الخوف من الفشل، عن الهواجس التي تقف حاجزا بين الفرد وأحلامه. لكنها، في ذات الوقت، تصبح مصدرا لشرارة الاكتشاف، ذلك الحافز الخفي الذي يدفع الى المضي قدما.”47
إلا أنه رغم عمق الرؤى الفكرية لجمالية تقنية الحوار، كشكل للبنية السردية، فإن الرواية حرمت القارئ من جمالية ومتعة الحبكة والحدث. الشيء الذي جعل الرواية تغوص بصورة نموذجية مثالية في الآفاق الفلسفية الفكرية الأقرب الى أساليب المناظرة. وابتعادها عن حرارة وحميمية الواقع الإنساني الحي. في تمثيل وتشخيص وتجسيد العفوي التلقائي الذي يمكن أن يخلق تفاعلا مشوقا وممتعا بين القارئ والرواية، خلال سيرورة القراءة المنتجة للمعاني والمولدة للدلالات.
ورغم كل هذا تظل الرواية مغامرة جريئة في عالم الكتابة الأدبية، وهي تبحث عن تميزها وفرادتها، ككتابة فنية أدبية. ويزيدها الحوار الذاتي الداخلي عمقا فكريا وجمالا فنيا في اشتغال اللغة، بشكل شعري ساحر أخاذ. ويتجلى ذلك في امتطاء صهوة الخيال، خاصة حين تلجأ الى أسلوب المناجاة الذاتية، لتصريف تمزقات وعذابات الألم الدفين. نتيجة وطأة الواقع القهري وما وشمه في الأعماق من آلام وتمزقات نفسية ووجودية واجتماعية وعلائقية.
5- الأبعاد الثقافية
تدرك خاتون من الصفحات الأولى أن ما تخوض فيه من حوار داخلي وخارجي، ليس بالأمر السهل. كما لو أنها تتحرك في حقل ألغام اجتماعية وثقافية ودينية وجندرية. كل هذا تحت القهر الأبوي الاستبدادي المشحون بسطوة وتغلب النزعة الذكورية الاحتقارية لقيمة الإنسان. وليس فقط لحرية وكرامة وقيمة النساء. لذلك وعيها يجعلها تدرك وتعرف جسامة فعل الكتابة كمهنة صعبة كما قال ناظم حكمت. في كونها تريد أن تكون حرة مستقلة، بإرادة تصنع التفرد والصيرورة المناقضة للقوالب و ضد التماهي بالآخرين.” إنها حكاية امرأة اختارت أن تكتب مجدها الخاص بعيدا عن ظل غيرها”.5 لذلك كانت واضحة في اختياراتها رغم جسامة المهمة وصعوبة إعلان الكينونة والفعل الذاتي الخاص في كونها،” لا تريد التشبه بأي من الملهمات العظام، لأنها تؤمن أن لكل امرأة عالمها وفرادتها، وأن النسخ المكررة تفقدها معناها في ظل صخب الحياة المتشابكة. تقول بعمق وجودي:” لن أكون إلا خاتون الكردية”.6
وهي تدرك أن المرأة في مجتمعاتنا تخوض معركة شرسة من أجل الاعتراف بكفاءتها وقدراتها “على الكتابة والتفكير”. ولكنها لا تميل الى الاختيار السهل في المساومة والترضية، بل تتقدم بشجاعة في خوض النزال لتحقيق الذات وكسر القيود والأحكام المعيارية الجاهزية. صحيح أن خاتون تعرف المقدار الهائل من الجهد والصبر والمعرفة الذي تحتاجه المرأة لإثبات ذاتها ومكانتها وموقعها الحر الفعال والمستقل. لكن أحيانا يتغلب التفكير النمطي للتقسيم الجندري الثقافي الاجتماعي الأبوي، ويجعلها تنتصر للتصنيفات البيولوجية الطبيعية. فتجعل منها قوالب جاهزة تتلبس المظهر والقوانين الطبيعية، متجاهلة السياسي والاجتماعي والثقافي. خاصة حين تربط المرأة بقوة الحب والحنان والعاطفة الرومانسية. في الوقت الذي تجعل الفكر العقلاني من نصيب الرجل كقدر محتوم. ” في عالم مغمور بين ظلال الوجود وأطياف العدم، كانت هي الأساس الراسخ، الأرض التي يبنى عليها كل شيء ويعود إليها كل شيء… أما هو فكان التيار الساعي الى الأعلى، العقل الحالم بالخلاص من الجسد، الهائم في أفلاك الفكر.”14 وهذا هو منطق الذكورة معكوسا في السقوط في وهم التخلص من مركزية الذكورة بمركزية الأنوثة.
والجميل في تأملها الفكري النقدي أنها لا تصدق أن يستنبت الواقع الأبوي القهري، شكلا للحب قادرا على احتضان هذه القيمة الإنسانية، بمعزل عن سطوة القبيلة والعشيرة وآلاف الموانع والقيود. ولهذا تستبعد أن يكون بإمكان هذا الوحل الاجتماعي الثقافي الذكوري، إنتاج نمطا للرجولة المتحررة من الأبوية والتمركز الذكوري، على مستوى العلاقات الاجتماعية، والانتظام الاجتماعي الإنساني. ” تأملته خاتون في صمت، وتساءلت في نفسها: كيف لرجل مثله، بكل هذه القوة الفكرية، أن يكون حبيبا؟ وكأن قلبه يتحدى واقعا صارما، ويرسم طريقا لعالم من الحرية، حيث يمكن للحب أن ينمو دون قيود”.9
أسئلة كثيرة ترافق رحلتها في الحياة، سواء الحياة الافتراضية، أو الواقعية. حيث تشوهت الكثير من التصورات والمعتقدات والممارسات. وفي الوقت نفسه تظل الحياة الافتراضية عالما أشبه بالذرع الواقي من الخيبات والخذلان. عالم ساحر جذاب يخفي حالات التشظي والتمزق والهشاشة المروعة الدفينة. عالم أقرب الى ممرات للهروب من الغربة والألم، الى غربة أشد، وألم ينزف بحرقة. وهذا ما يجعل خاتون وكابار تسائلان بعمق جذوة الحضور افتراضيا من خلال عوالم الكتابة. التي تبقى المكان الآمن رغم ما يهدد الذات من تعري وانكشاف. والوقوف وجها لوجه أمام الخيبات والانكسارات و الجروح التي ترفض الاندثار. فهي الجزء العضوي في تكوين الذات، في قوتها ومناعتها. واتساع منظورها، وشمولية رؤيتها.
” خاتون الكتابة سفينتنا الصغيرة وسط عواصف هذا العالم. قد نبحر بها تائهين، وقد نجدها مهترئة، لكنها تحملنا، تعيدنا الى أنفسنا، وترسينا على شواطئ لا نعرفها بعد، لكنها جزء منا. فلنمض، إذا، بلا خوف … ففي الرحلة، نجد الحياة.”19
وتبعا لهذه القناعة تستثمر خاتون الإيمان الديني، كأدوات وآليات للصراع الوجودي المشبع بأمل الوهم والحلم والتفكير الإيجابي، القادر على صناعة المستحيل من خلال اليقين. يقين قدرة الذات على التكيف والاستمرار وتمتين الجسور بجوهر الحياة وتجلياتها الوجودية والمجتمعية. وذلك بعيدا عن الأحكام المعيارية التي تربط الفرح والأمان والسعادة بشروط ومتطلبات مادية ومصلحية ضيقة. في الوقت الذي يمكن للإنسان صناعة كبسولات الحياة من خلال حوار صادق لا يخشى الشقوق والانكشاف، والتعري لكشف الجروح والآلام، أمام من نحب في تواصل حميم يقوي الذات، ويوسع من مداركها، ويزيد من اقتدارها الفكري والفني الجمالي. ويمنحها ثقة وصلابة ورحمة على النفس. ” أحيانا يكون كل ما نحتاجه هو حديث بسيط، مثل هذا، ليعيدنا الى جوهر الأشياء.”22
وفي مواقف كثيرة في حوارها مع كابار تكشف خاتون عن ضعفها وهشاشتها الناجمة نفسيا عن قسوة الواقع الأبوي وتجارب الخيبات والخذلان الحارقة والحافرة في القلب، والأعماق أخاديد الألم الرهيب. وهذا ما يجعلها تلجأ الى التفكير الخرافي الغيبي وامتطاء الخيال المجنح في الاعتقاد بقدرة وفاعلية الأبراج في توجيه الذات وترميم الشقوق ولحم الانكسارات. وفي اشتغالها كموجات إرشادية (براديغم). في الوقت الذي يعبر هذا الحذر والتخوف، عن هشاشة المرأة وضعفها تبعا للقوالب النمطية للنظام الثقافي الاجتماعي الأبوي. وهي من جهة أخرى تدخل في حوار نقدي ذاتي يجنبها تكريس تصورات وحالات نفسية اجتماعية ثقافية ذكورية. في الوقت الذي تخوض تجربة الفرادة والتميز والتمرد على تسلط النظام الأبوي في قيمه الاجتماعية والثقافية والأخلاقية. تدرك صعوبة المعركة لمن نشأت في القهر والعبودية والغربة والهشاشة النفسية الفكرية. لكن تمسكها بالسؤال هو البوصلة والضوء المنير الوهاج للتغلب على عتمة تغييب المرأة وتهميشها وقهرها. ” ولكن هل أستطيع فعل ذلك؟ هل أستطيع أن أواجه ما في داخلي بصدق؟ ربما … ربما حان الوقت. ربما، في هذه اللحظة، تكمن بداية الطريق.”34
هكذا تمضي الرواية من بدايتها الى الصفحات الأخيرة في حوار تأملي عميق بين الرجل والمرأة. يحدث هذا الحوار بينهما خارج الحمولة التاريخية الثقافية الاجتماعية للتقسيم الجندري الذي فرضه النظام الأبوي الذكوري. وسيج العلاقات الاجتماعية بقوانين اجتماعية لها مظهر الطبيعي القدري المحتوم. لذلك كان همها واستراتيجية حوارها نقض السائد المسيطر والمهيمن، كأفكار ورؤى وتصورات، ونمط ثقافي اجتماعي. وهذا ما جعلهما يركزان على قضايا وإشكالات ومفاهيم ودلالات ومعاني ثقافية مثل: الحب، الواقع، الوهم، الخيال، الانكسار والخذلان…
وهما بذلك يعكسان من خلال، توسط الكتابة الأدبية، الصراعات والآلام الدفينة المتعلقة بالهوية والحب والرغبة والكتابة…، وهي قضايا وانشغالات تتم مقاربتها أحيانا نقديا ونقضيا في أفق تأسيس الذات وتحقيق وجودها المجتمعي البديل في العلاقات الاجتماعية. لكن الموروث في الخلفيات المكبوتة يتسرب الى النظرة، الى حد،التحكم في آليات التفكير حين تميز الرواية بين مادية الرجل وجرأته في الارتباط بالجسد والواقع والرغبة، ومثالية المرأة، الحنونة الحساسة، الرهيفة، المذعورة الخائفة من وحل الحياة وقساوة الارتباطات العلائقية وانهيار القيم. حيث تفضل الفكرة والخيال على الواقع الملموس في خيباته وانكساراتها وتجاربه التي تثري الذات، باعتبار الحياة بكل آلامها جزءا عضويا في تكوين الفرد، عوض الانكفاء والتسلح بآليات الدفاع النفسي المؤقت. وهي آليات مرضية ومرحلية ولا تعتبر مخرجا من أسر التقليد والخضوع والخنوع والقهر. إن الارتباط بالحياة في كل شيء يمثل شكلا للمقاومة ومعدنا خاصا للعيش والكتابة والفعل الحيوي الخلاق.
صحيح أن الواقع الرقمي في حياة ما بعد الانسان، حيث التطور العلمي التكنولوجي يطرح تحديات رهيبة تخلخل العلاقات والرؤى والمشاعر والدلالات والارتباطات… خاصة حين تكون الشاشة الافتراضية مسرحا للتفاعل والعيش الخيالي الوهمي، بعيدا عن التماس البشري الحقيقي.
يمكن القول من زاوية أخرى إن الرواية في شكلها الفني العالي الشاعرية، وفي عمق القضايا والأفكار الوجودية والفلسفية والفكرية التي أثارتها من خلال لغتها وأساليبها وبنائها السردي، تمثل تجربة جديدة في الكتابة الأدبية، كسرد روائي. لكن دون أن ننكر بأن الموروث النمطي السائد والمهيمن يطل برأسه بشكل صريح أيديولوجي، أو من خلال شقوق وطيات النص. خاصة حين تكرسه الرواية ولا تعمل على نقده وتشريحه وتفكيكه. ويظهر هذا في إسقاطات جندرية ثقافية اجتماعية التي تمنح للمرأة البعد الروحي العاطفي كحارسة ومسؤولة عن حماية القيم في هذا الزمن الرديء. وهي لا تطلب أكثر من الرحمة والاعتراف والتقدير والحب…، لكونها تملك ما يكفي من اليقظة النفسية والروحية في رؤية ما هو إنساني في الحياة. بما في ذلك إنسانية الرجل، عوض السقوط في منطق جدلية صراع زائف بين الجلاد/الرجل، والضحية/المرأة.
وإذا تمسكنا بهذا البعد في تأويل طيات النص الروائي، فهذا يمكن أن يعطي قيمة ومصداقية لرغبة خاتون في تحرير الحب والخطاب الوجداني من كل التشوهات. وحالات التشيؤ التي طالت العلاقات الاجتماعية، الى درجة تجريد البشر من قيمتهم الإنسانية والأخلاقية.
يعني هذا أن الرواية في أبعادها العميقة تحاول أن تجعل من أدبية الرواية كشكل إبداعي، أرضية للفعل المقاوم للنظام الأبوي الذكوري. وذلك ضد ثقافة الزيف والاستهلاك والنمطية والتشويه والتشيؤ. وبهذا تؤسس الرواية لخطاب أنثوي بديل ومقاوم. يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية والاجتماعية، وعلى رأسها البعد الروحاني الرومانسي العاطفي، وللحب في أعمق وأبعد معانيه ودلالاته القيمية الإنسانية. ” كانت تعرف أن في داخلها بذورا تتناثر من حلم لآخر، رغبة تلو أخرى أمنيات تضيء دروبها في قلب العتمة. قلبها كان حقلا خصبا كما زرعت فيه شوقا أزهر الأمل. كانت تحب، تحلم، وتنسج خيوطا من الأماني التي تقبع في أعماقها، تأمل أن تجد من يزرعها في قلبه، ليحصدا منها معا في زمن بعيد زهورا لم يسبق أن رآها العالم. إلا أنها جهلت أن الأرض التي اختارتها ام تكن تلك التي تستحق أحلامها.”35
كم هو جميل هذا الحلم والحنين والتوق والرغبة في عيش الوجود الإنساني بكل معانيه القيمية النبيلة و الجميلة. لكن هذا لا يمكن أن يجعلنا نفكر خارج مبدأ التناقض المجتمعي، باعتبارنا، رجلا أو امرأة محكومين بالتعقيد والتناقض والأمل.
” خاتون كانت تدرك أنها لا تستطيع تغيير قدرها. لم تكن قادرة على تحويل الصخور الى تربة خصبة، ولا كانت قادرة على إجبار قلبه على أن يزهر بما تمنته. إلا أنها أدركت شيئا آخر، شيئا عميقا في روحها: أنها كانت تزرع لأجل نفسها، كانت تزرع في قلبه رغم أنه لم يكن يستطيع أن يعكس لها ذلك الزرع في شكل حديقة، بل كانت تزرع لتثبت لنفسها أنها تستطيع أن تحب، أن تمنح، أن تحلم، رغم أن الحلم لم يكن يجد مكانا له.”36
في ظل الواقع المتخلف الراكد الآسن، والغارق في القهر الأبوي على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، تبرز الخطابات النسائية والنسوية بمختلف مشاربها وخلفياتها الفلسفية والفكرية والابستيمولوجية والإيديولوجية. وتجسد من خلال الكتابة فعل المقاومة والرفض والتمرد والخلق والإبداع. وفي هذه السياقات تندرج اللغة والأساليب، والأبعاد الرمزية الفنية التي تحتضنها رواية “إثر واجم”.
ومن هذا المنطلق تكلمت خاتون عن الحب والرحمة والتواصل والحلم والخيال…، كأشكال لعيش الارتباط والعلاقات الاجتماعية، تبعا لجدلية علاقة إنسان إنسان. وذلك على الضد من علاقة السيطرة والهيمنة والقهر.
__________________________________________________________________________
مثال سليمان رواية: ” إثر واجم”، الناشر نوس هاوس- الطبعة الأولى 2025