حراك “Z” في المغرب.. السجل الاحتجاجي المغربي

محمد امباركي
في مقاربة هذه الحركية الاحتجاجية المستجدّة، لا بد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين:
أولًا، تمثل هذه الحركية تعبيرًا شبابيًا عن غضبٍ سوسيو-رقمي استطاع أن يُحقق تعبئة جماعية، ويُنتج فعلًا واقعيًا فرض على مختلف مكونات المجتمع الانتباه إليه والتفاعل معه من مواقع وتقديرات متباينة، بل واستطاع أن يحتل مساحة مهمة في المشهد الإعلامي، محليًا ودوليًا.
ثانيًا، من الصعب بلورة قراءة شاملة ومستوفية لدينامية احتجاجية ما تزال مفتوحة وتشهد تفاعلات وجدلاً مستمرًّا، ممّا يجعل الحاجة قائمة إلى مسافة زمنية ومنهجية تسمح بإنتاج رؤية علمية من موقع العلوم الاجتماعية عامة، وعِلم الاجتماع بشكل خاص. فهذه البنية السوسيو-رقمية المرنة تظل مفتوحة على آفاقٍ متعددة، ترتبط بدينامياتها الداخلية وطبيعة تعامل الحقل السياسي الرسمي معها.
ومع ذلك، لا يمنع هذا من الإدلاء ببعض الملاحظات والافتراضات التي قد تشكل مدخلًا لفهم هذا الغضب السوسيو-رقمي، واستقراء بعض اتجاهات تطوره من الناحيتين الكمية والكيفية.
السياق العام: الفجوة تتسع بين الطموح والواقع
على مستوى السياق العام، تُحيل كل المعطيات الاقتصادية والسياسية والسوسيو-ثقافية على واقعٍ مأزومٍ تعيشه فئة الشباب، وهي فئة تُعد في الوقت نفسه ضحية لفشل السياسات العمومية في مجالات متعددة. بل يمكن القول إنها شكّلت ميدان تجريبٍ لإصلاحات متعاقبة مست القطاعات الاجتماعية الحيوية، مثل التعليم، والشغل، والصحة، إضافة إلى البرامج الرسمية في المجالات الثقافية والجمعوية.
لقد شهدت منظومة التربية والتكوين في المغرب مشاريع إصلاح متتالية، بدءًا من برنامج التقويم الهيكلي، مرورًا بـ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ثم المخطط الاستعجالي، وصولًا إلى الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية 2015-2030، التي أطّرها شعار: “من أجل مدرسة الإنصاف، والجودة، والارتقاء بالفرد والمجتمع“.
إلا أن هذه المشاريع، على الرغم من تعددها وطموحها، عجزت عن معالجة الاختلالات العميقة التي يعرفها التعليم العمومي سواء على مستوى شروط التعلم أو جودة مخرجاته. بل تحولت المدرسة العمومية إلى بؤرةٍ للاحتجاج بفعل الحركات المتواصلة لمختلف الفئات التعليمية على امتداد أسلاك التعليم.
في المقابل، تنامى حضور القطاع الخاص الذي أصبح قبلةً لشرائح اجتماعية واسعة، بما فيها الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة، التي باتت تضحي بجزء من احتياجاتها الأساسية في سبيل الاستثمار في تعليم أبنائها وبناتها.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال ظاهرة الهدر المدرسي التي تفاقمت بشكل عام، والهدر الجامعي على وجه الخصوص، مما يعمّق أزمة الثقة في جدوى المسار التعليمي برمته.
كل هذه الاختلالات ساهمت في إنتاج جيلٍ من الشباب يسكنه وعيٌ كئيب، قوامه إدراك الفجوة الواسعة بين الطموح والإرادة من جهة، وواقعٍ يُكبح فيه الأمل وتُحبط فيه التطلعات من جهة أخرى. ولا شك أن فئة الشباب المعروفة اصطلاحًا بـ شباب (NEET (، أي الشباب غير المتمدرس، وغير المكوَّن، وغير المشتغل تجسّد بوضوح هذا المعطى السوسيولوجي المقلق.
وفي ظل تضخم الخطاب الرسمي والسياسات العمومية حول الطلاق القائم بين منظومتي التكوين والتشغيل — أي واقع مدرسة مغربية لا تنتج سوى العطالة بفعل عجزها عن الاستجابة للحاجيات المتجددة للنسيج السوسيو-اقتصادي — يُلاحظ أن هذا الخطاب غالبًا ما يُستخدم لحجب الفشل المتكرر لمشاريع التشغيل والتشغيل الذاتي. ويأتي ذلك في سياق اقتصادي يهيمن عليه القطاع غير المنظم، وسوق شغلٍ قاسيةٍ وغير متكافئة تتحكم فيها شبكات من العلاقات القرابية والأسرية والحزبية. كما تتسم هذه السوق باضطرابها السريع وتبدل بنياتها بفعل التحولات التكنولوجية والرقمية المتسارعة.
أما في ما يخص قطاع الصحة العمومية، فإن أبرز معالم أزمته تتمثل في تدهور خدمات المستشفيات العمومية، وهجرة الأطباء، وتنامي المصحات الخاصة التي تكرّس منطق الخوصصة والتسليع. وقد رافق ذلك صعود الحركات الاحتجاجية لطلبة الطب والصيدلة، وللشغيلة الصحية بمختلف فئاتها، على الرغم من التجربة الصعبة التي عاشها المجتمع المغربي، ولا سيّما الفئات الهشة، خلال تفشي جائحة كوفيد-19. ومع ذلك، لم تستخلص الجهات المسؤولة الدروس والعِبر الضرورية من تلك المرحلة الحرجة، بما كان يُمكن أن يُعيد الثقة في المنظومة الصحية العمومية.
إنّ ورود قضايا الدفاع عن المدرسة والصحة العموميتين ضمن الشعارات والمطالب التي يرفعها الغضب السوسيو-رقمي “Z” في ارتباط وثيق بمطلب محاربة الفساد، يعكس وعيًا ثاقبًا وإدراكًا عميقًا للعلاقة البنيوية بين تردي الخدمات العمومية واتساع خريطة الفساد. هذا الفساد لم يعد مجرد ممارسات فردية أو عرضية، بل أصبح بنية مؤسساتية مركبة وجزءًا من النسق العام للدولة ذاتها، بل يمكن الجزم بأنه بات يشكل خطرًا حقيقيًا يهدد بالاستحواذ على الدولة، في ظل تعطيل المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، أو تفعيله الانتقائي الذي لا يطال اللوبيات الكبرى المتحصنة وراء أغطية مؤسساتية متعددة (البرلمان، الجماعات الترابية، القرب من دوائر السلطة).
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن حركية “Z” تمثل نقطة نظام في السجل الاحتجاجي المغربي، وجبهة جديدة لمقاومة الفوارق الاجتماعية والمجالية المتصاعدة. ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن مختلف مراحل وديناميات الاعتراض الجماعي، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، التي عرفها المغرب في مواجهة السياسات الرسمية المتعاقبة.
تُعبّر هذه الحركية، في جوهرها، عن الفجوة المتنامية بين قوة التطلع والطموح لدى الشباب، ومحدودية الموارد والإمكانات المتاحة لهم.
ومع أن التركيبة السوسيولوجية للشباب المحتج غير متجانسة، فإن ما يجمع بينهم هو امتلاكهم لرأسمال رمزي مؤثر يتمثل في الموارد الرقمية التي تتيح لهم الوصول إلى المعلومة، والتواصل، والتفاعل عابرًا للحدود الوطنية.
غير أن هذا الجيل يختلف من حيث الأصول الاجتماعية؛ إذ يُشكل جزء مهم من شباب الغضب السوسيو-رقمي “Z” فئةً متعلمة تنحدر في غالبيتها من الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تعرضت لأشكال متعددة من القهر الاجتماعي و”البلترة”، خاصة منذ حكومتي الإسلام السياسي (البنكيرانية – العثمانية) إلى حدود حكومة الرأسمال الريعي (الأخنوشية)، وقد وجدت هذه الطبقة نفسها عاجزة عن تلبية طموحات أبنائها وبناتها في متابعة الدراسة في مدارس النخبة والحظوة التي أُوكل لها تاريخيًا دور إنتاج وإعادة إنتاج السلطة ونبالة الدولة، على حد تعبير بيير بورديو.
إن طبيعة الدبلومات التي حصل عليها معظم أبناء هذه الفئة ظلت متوسطة المستوى، لا تتجاوز الإجازة أو شهادات التكوين المهني، بينما انقطع جزء آخر عن الدراسة في السنوات الأولى من السلك الجامعي أو في مرحلة التعليم الثانوي .وتُعزز النسب المرتفعة للهدر المدرسي والجامعي هذه الملاحظة السوسيولوجية بوضوح.
ظلّ التطلع إلى الترقي الاجتماعي لدى هذه الفئة محجوزًا بفعل صعوبة الولوج إلى سوق شغلٍ انتقائيةٍ وغير متكافئة تتحكم فيها شبكات العلاقات الاجتماعية القائمة على المحسوبية والزبونية، فضلاً عن هيمنة معايير ما يسمى بـ “الثقافة المقاولاتية” التي تفرض على الشباب امتلاك مهارات تسويق الذات (Savoir se vendre).، وهذا ما يدفع العديد من الشباب المتعلّم إلى توبيخ الذات وتحميلها مسؤولية “الفشل الاجتماعي”، أي ما يمكن تسميته بـ “فردنة الخلاص”. بل إن الطبقة المتوسطة نفسها تعرضت مع مرور الوقت إلى الإقصاء من الفعل السياسي، وتحولت إلى مجرد معطى إحصائي في الخطاب الرسمي، مما ساقها إلى فقدان الثقة في المؤسسات، بل وفي المسلسل الانتخابي برمّته. وقد انعكس ذلك سلبًا على النضال الديمقراطي، وعلى الحقل الحزبي الجاد، وأضعف ديمومة الديناميات الاحتجاجية وعجزها عن بلوغ أفقها المطلبي والتحولي.
الأفق والمعنى: في الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
وإذا كان من الصعب التكهّن بآفاق هذه الحركية الاحتجاجية ذات الأفق الإصلاحي، فذلك راجع إلى خضوع كل فعلٍ جماعي لجدليةٍ بين الذات والواقع الموضوعي؛ أي من جهةٍ أولى، القدرة على الاستمرار والتماسك الداخلي، وفرض شروط تفاوضٍ متكافئ، وكسب تعاطف ودعم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، ونخب الحقل الثقافي والجمعوي التي تتطلع إلى القطيعة مع مغرب “الحُكرة الاجتماعية والمجالية”.
ومن جهةٍ ثانية، امتلاك المناعة في مواجهة استراتيجية السلطة التي تتأرجح بين القمع المباشر والمناورة عبر منطق الترغيب وإتاحة “مرئية إعلامية مؤقتة ” تحت الضغط للشباب المحتج، أو الاستجابة الجزئية لبعض المطالب دون المساس بالبنيات العميقة للفساد والسلطوية، إلى جانب الاحتواء أو التفجير من الداخل.
وهذا النمط في تعامل الدولة مع الحركات الاحتجاجية ليس جديدًا، بل يُشكّل ثابتًا بنيويًا منذ مرحلة الاستقلال إلى حدود حركة 20 فبراير، مرورًا بـ حراك الريف واحتجاجات جرادة، وغيرها من محطات الاعتراض الاجتماعي في المغرب.
لكن الأهم من ذلك هو أن الحركية الاحتجاجية “Z”، التي انطلقت في البداية على شكل تعبئة رقمية ثم تحولت إلى دينامية ميدانية، حملت معها رسائل قوية ودالة في اتجاه الدولة بالدرجة الأولى.
رسائل جوهرها تطلع الشباب المغربي إلى الاعتراف، عبر الحق في الوجود الاجتماعي والرمزي القائم على كرامة العيش والمشاركة السياسية والمدنية، في مواجهة هيمنة الفساد ونهب المال العام وغياب الحكامة.
وقد تجلى ذلك في سؤال الوعي الشعبي الذي طرحه الشعار: “الصحة أولًا، ما بغيناش كأس العالم”، وهو سؤال وجودي مؤطر بوعي نقدي يربط بين الأولويات الاجتماعية والخيارات التنموية.
وفي السياق نفسه، طرح تقرير المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة ( سنة 2025) بعنوان “سوق الشغل المغربي بين هشاشة الحاضر وفرص الغد”، تساؤلًا مشابهًا: “ماذا بعد الاحتفال بكأس العالم 2030؟”. فبالرغم من كون تنظيم هذا الحدث يمثل محفزًا اقتصاديًا مهمًا، إذ تُشير التقديرات إلى خلق نحو 250 ألف وظيفة مؤقتة في قطاع البناء والأشغال العمومية، و100 ألف وظيفة شبه دائمة في قطاعي السياحة والضيافة، إلا أن السؤال الجوهري يظل قائمًا: ماذا بعد 2030؟
فمن دون تخطيط استباقي لما بعد هذا الموعد، عبر برامج لتنويع الاقتصاد وتحويل المهارات، فإن المغرب يُخاطر بمواجهة أزمة بطالة حادة قد تطال فئات واسعة من العاملين في البناء والسياحة، وما قد يصاحب ذلك من اضطرابات اجتماعية محتملة (ص. 11).
وفي مستوى أعمق، تُوجّه هذه الحركية رسالةً أخرى ذات معنى إلى مكونات المشهد السياسي والثقافي بضرورة تجديد تصورها للشباب، ليس فقط كقوة عددية، بل كـ كينونة فكرية وهوية ثقافية ورقمية.
لقد أصبحت الهوية الرقمية اليوم عالمًا اجتماعيًا قائمًا بذاته، ومشتلًا حقيقيًا للتنشئة الرمزية، تحكمه جدلية بين الخصاص الهيكلي المادي والرمزي من جهة، والاستعجال في تلبية الحاجات وتحقيق التطلعات وانتزاع الاعتراف من جهة أخرى، عبر القطيعة مع هابيتوس الانتظارية وطمأنينة الوعود.
إجمالًا، وفي ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة وانسداد الحقل السياسي بفعل مصادرة الهوامش التي فتحتها الحركات الاحتجاجية السابقة (من قبيل حركة 20 فبراير)، تُشكل حركية “Z” باعتبارها حراكًا جديدًا مرتبطًا بالتحول الرقمي، محكًّا حقيقيًا لسقوط شعار “الدولة الاجتماعية”، ولإخفاق تحالف المال والسياسة في تجسيد هذا الشعار فعليًا.
إنها، في الجوهر، دعوة صريحة إلى بناء عقد اجتماعي جديد قوامه: المدرسة، الصحة، الشغل، والحكامة الجيدة، ومحاربة الفساد. وقد تُشكّل الحاجة إلى هذا العقد الاجتماعي مدخلًا لتأسيس تعاقدٍ سياسي جديد على قاعدة إصلاحات دستورية وسياسية تُعيد بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وتضع حدًا لزواج السلطة والثروة، وتُعيد الاعتبار إلى صناديق الاقتراع، ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وضمن هذه الجدلية ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية، تبرز ضرورة دمقرطة الحقل الحزبي عبر إبعاد منطق التوجيه والتدخّل، والتخلي عن تسويق شعار “اللاحزبية بعد اليوم”، مقابل انخراط الأحزاب الممانعة في التجديد والتأهيل الذاتي على المستويات البشرية والفكرية والتنظيمية، وتعزيز الديمقراطية الداخلية وتجديد النخب، ومواكبة تحولات العصر الرقمي والاجتماعي بما يضمن استعادة الثقة ويؤسس لمسارٍ ديمقراطي حقيقي..