حول المذبحة وأبعادها.. توضيحات لا بد منها
عبد الرحمان الغندور
أكتب اليوم هذا المقال لأعبر عن الامتنان بكل الذين تفاعلوا مع مقالاتي حول الفضيحة / المجزرة التي مست الحقل الإعلامي في الآونة الأخيرة. امتنان يجعل هذه المساحة التي تجمعنا جسرا تواصليا يشكل بالنسبة لي هدية ثمينة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف.
أشكر كل الذين يجدون في كلماتي صدى لأفكارهم، فيغنون الحوار بإضافاتهم الثمينة، مشكلين معي نسيجًا فكريًا أغنى وأعمق. وأشكر بشكل خاص أولئك الذين يختلفون معي، فيقدمون وجهة نظر مغايرة تغنيني وتوسع آفاقي، ففي هذا الاختلاف المحترم تكمن روعة الحوار وغناه. إن احترامكم لأفكاري، حتى وأنتم تختلفون معها، هو أعلى درجات التقدير التي أتلقاها.
وما يهمني حقًا، في المتفقين والمختلفين على حد سواء، هو أنكم تقرؤون ما أكتب، تتمعنون في مضامينه، وتتفاعلون مع جوهره. هذه هي القراءة الواعية التي أسعى إليها، وهذا هو الحوار الواعي الذي يبني ويعمر.
غير أن ما يحزنني ويُشعرني بالاستغراب، هو أولئك الذين يمرون سريعًا، فيكتفون بالعنوان أو يعلقون انطباعهم على صورة، ليطلقوا حكمًا مسبقًا، إما على الفكرة من غير فهم لسياقها، أو على شخصي من غير معرفة بي. أنا هنا لا أدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل أشارككم رؤيتي، وأتطلع إلى حوار يناقش ما أستعرضه من أفكار، لا إلى أحكام جاهزة ومتسرعة.
لكن ما يتجاوز حدود النقاش المقبول، ويقع في دائرة أخرى، هو حين تتحول اللغة من أداة للتواصل إلى سلاح للتهجم، بعيدًا عن المضمون والسياق، من طرف بعض الذين يبتعدون عن أدب الحوار وأخلاقياته، بتعليقات تخلو من الذوق وتحمل في طياتها قبحًا لغويًا وأخلاقيًا، وهي في الحقيقة إساءة لأصحابها قبل أن تكون إساءة لي. إنها تكشف عن انحطاط في الخلق، وضحالة في الفكر، تجعلني أترفع عن الرد، ليس هروبًا من النقاش، بل لأنها لم تعد في مستوى يستحق الاهتمام أو التفاعل. يكفيني أن قبح لغتهم هو المرآة العاكسة لدواخلهم، وهم أحوج ما يكونون إلى مراجعة أنفسهم قبل خوض أي حوار.
وفي هذا الإطار أود أن استعرض أمام الجميع هذه التوضيحات الضرورية:
ففي خضمّ الضجة الإعلامية والقضائية التي أثارتها تسريبات الفيديوهات المتعلقة بالصحافي المهداوي، تبرز مواقفنا التحليلية من هذه القضية التي هزّت المشهد الإعلامي وأعادت إشكالية حرية الصحافة وفساد المنظومة إلى الواجهة. لقد جاءت مقالاتنا ساعيةً إلى تفكيك أبعاد هذه المعضلة متعددة المستويات، معربةً في البداية عن تضامنها المبدئي مع الصحافي المهداوي، وما يتعرض له من اعتداءات، مؤكدةً أن ما حصل هو تعبير صارخ عن الانهيار المرعب الذي تتخبط فيه الصحافة والمؤسسات الإعلامية. إن هذا التدهور ليس وليد الصدفة، بل هو تجلٍّ من تجليات استشراء منظومة فساد شاملة، أصبحت هي الحاكم الفعلي للمشهد، تتحكم في الخيوط وتُهندس القرارات بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة.
لقد كان من الطبيعي، ونحن نعيش تفاصيل هذه الفضيحة، أن نطالب بفتح تحقيق قضائي شامل حول مضمون هذه الفيديوهات، ومتابعة كل المتورطين في هذه المذبحة الدرامية والهزلية التي تم فيها ذبح هيبة المهنة وتشويه سمعتها. كما أن المطالبة بحل هذه المؤسسات الإعلامية الفاسدة وإعادة هيكلتها عبر مراجعة القوانين المنظمة لها، أصبحت ضرورة ملحة. فانتخاب مجلس وطني للصحافة بطريقة ديمقراطية هو السبيل الوحيد لإعادة الاعتبار لهذه المهنة النبيلة، واستعادة حرمتها وهيبتها التي انتهكت في وضح النهار.
غير أن التحليل لا يقف عند هذا الحد. فمن باب القراءة المتعمقة للحدث، كان لا بد من التساؤل عن الجهة التي تقف وراء تسريب هذه الفيديوهات، والتوقيت الذي اختير لذلك. إن هذه التسريبات لا يمكن أن تأتي من فراغ، وهي دون شك تمثل إحدى أدوات “الدولة العميقة” التي تتحكم في الخرائط السياسية وتُحرك الأجندات الخفية. إن هندسة القرارات بهذه الطريقة الممنهجة تهدف إلى تحقيق أغراض غير معلنة، وتوجيه الرأي العام نحو مسارات معينة تخدم مصالح أجندات سرية، ومصالح شخصية وصراعات باطنية.
ولكن، في المقابل، واجهت هذه التساؤلات انتقادات من بعض المعلقين الذين رأوا فيها ابتعاداً عن الجوهر الحقيقي للقضية، معتبرين أن التركيز يجب أن ينصب فقط على متابعة المتورطين في ما أسموه “مهزلة ذبح الصحافة”. إلا أن قراءتنا للحدث تختلف في الجوهر؛ فنحن نرى أن هذه الفضيحة تحمل أبعاداً متشابكة لا يمكن الفصل بينها، وأن تجاهل أيٍ منها سيؤدي إلى قراءة ناقصة ومشوّهة للحقيقة. فهناك البعد الفردي الذي يتمثل في المعاناة الإنسانية للصحافي المهداوي والمحامين الذين تعرضوا لاعتداءات واضحة استهتارا وتبخيسا بعبارات ساقطة، وهذا البعد يستدعي الوقوف عندها كحالات إنسانية قبل أن تكون قضايا مهنية.
أما البعد الثاني، فهو البعد القضائي، الذي يتجلى في إقحام المؤسسة القضائية في هذه النازلة، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول نزاهة القضاء واستقلاليته، ويُعيد إشكالية توظيف القضاء لأغراض سياسية إلى الواجهة. ويأتي البعد الثالث، المؤسساتي، ليشكل ركيزة أساسية في معالجة الإشكال، حيث يهدف إلى تفكيك هذه الهيئات الإعلامية الفاسدة وإعادة بنائها من خلال مجلس وطني للصحافة يتم انتخابه بطريقة ديمقراطية، ليكون حارساً حقيقياً لأخلاقيات المهنة وحرية التعبير.
أما البعد الرابع، وهو البعد السياسي، فيظل الأكثر إثارة للجدل. فالسؤال عن هوية مسربي الفيديوهات وتوقيت التفجير المختار بدقة، ليس ترفاً فكرياً، بل هو جزء أساسي من فهم الصورة الكاملة. فكشف هذه الأجندات السرية والجهات التي تقف وراءها، هو محاولة لفضح محاولات إلهاء الرأي العام عن قضايا أخرى، وتحويل الأنظار نحو فضيحة إعلامية يتم إدارتها ببراعة. إن تجاهل هذا البعد يعني السير في متاهة الفضيحة دون فهم لخريطة الطريق التي رُسمت لها.
لذلك، فإن الجمع بين هذه الأبعاد جميعاً، وعدم الفصل بينها، هو ما يمنحنا رؤية شاملة وعميقة لهذه القضية المعقدة. فالمطالبة بمحاسبة المتورطين يجب أن تتم بالتوازي مع كشف النظام الخفي الذي يدير هذه الأحداث ويوجهها. إنها معركة متعددة الجبهات، لكنها في النهاية معركة واحدة؛ معركة من أجل صحافة حرة، وقضاء نزيه، ومؤسسات شفافة، وكشفاً لكل الأجندات الخفية التي تهدد مستقبل البلاد. وهي في البداية والنهاية معركة ضد الفساد المتغول الذي يحرق البلاد والعباد.
