سقطة طبّوخ المدوّية

سقطة طبّوخ المدوّية

      سعيد بوخليط

           طبّوخ اسمه الحقيقيّ وليس مستعارا، رغم غرابته التّداولية، فتوّة أو ”عَزْوة” أو “اسْبِيرة”- شابّ مغوار لا يخشى ولا يتراجع قط- دروب طفولتي الأولى، منذ أن فتحت عينيّ وبدأ إلمامي بحيثيات ما يجري، التقط سمعي باستمرار خلال أحاديث الأسرة حكايات القوّة الجسمانية لهذا الشّخص ومدى قدرته على هزم من يجرؤ على التحدّي، فاستحقّ بذلك موقع أقوى شخص بإجماع الساكنة، بالتّالي حارس حيِّنا وزعيمه وكذا المرجعية المثالية لشبابه، والموجِّه الرّئيسي لتصرّفاتهم.

انتخاب انتقائي وعرفي، للفتوّة تبعا لتراكم وقائع ترسُّخ اسمه، نتيجة إمكانيات قتالية استثنائية أظهرها مقارنة مع الآخرين، وستظلّ قيادته دائمة يستحيل التطلّع نحو مكانه، إلاَّ في حالة الموت، الاعتلال الصحّي، ثم الهزيمة جرّاء مواجهة ما وخسارته معركة، حينها يلزمه الانسحاب من الواجهة تماما وينزاح متواريا إلى الهامش، كي يخلفه غالبا  ”اسْبِيرة” جديد؛ إن رغب طبعا في تحمّل أوزار المسؤولية الصعبة.

في غضون ذلك يموت صامتا؛ كمدا وهمّا وتحسّرا، مثلما حدث للمسمّى ”لْعْقيرَة” فتوَّة الحيّ المجاور بعد إصابته بمرض عضال لم يكن متوقّعا قط، جعله عاجزا عن مجرّد التخلّص من ذبابة تحطّ فوق شفته فأضحى طيفا مصلوبا أو بالكاد، بعد أن صال وجال لسنوات طويلة يتحكّم في كلّ صغيرة وكبيرة، لكن الحياة لم ترحم مصيره واستمرّ نموذجه يحيل ضمنيا على تجربة الملاكم محمد علي كلاي.  

كلما خرجت من منزلنا ليلا لقضاء مهمّة سُخْرة معيّنة، أصادف طبّوخ محاطا ببعض التّابعين يعاقرون كؤوس الخمر على أنغام بوب مارلي أو ناس الغيوان. أترقّب تفاصيل بلوغ الجماعة انتشاء متقدّما وانسياب رخاوة وعيهم، كي أتسلّل وأسرق الزُّجاجات الفارغة وأسرع للاحتفاظ بها في مكان خفيّ، حتى أبيعها فيما بعد لدى جامع قابع دائما شبه نائم، يغفو ويستيقظ بفزع لا إرادي عند زاوية ركن نتِنٍ للغاية، بجوار الباب العتيق الكبير لسوق الجلد؛ المخصَّص فضائه أصلا للاتّجار في جلود الأغنام أساسا خلال مناسبات عيد الأضحى، ثمّ أوفِّر ثمن تذكرة السّينما بعد الظّهر. كلّما زاد عدد القارورات، توفّر في جعبتي دخل مهمّ يتيح متعا ثانية إلى جانب الفوز بولوج القاعة مثل شراء ساندويتش ومشروب غازي؛ فتتضاعف متعة مشاهدة الفيلمين الصّيني والهندي أو التاريخ والجغرافية بسخرية تلك الحقبة.

أقترب بتؤدة محترِسٍ من طبّوخ الذي أغمض عينيه واستسلم لمفعول الأقداح التي ارتشفها صحبة المتسامرين خلال جلسة ثرثرة طويلة، تخلَّلها لعب الورق والدّاما، قد يكون الحيّ محظوظا للغاية إذا لم تشتعل معركة نتيجة شرارة خلاف بسيط، يحوّلها مفعول الكؤوس وجفاء طبّوخ واندفاع رفاقه إلى حرب ضروس؛ تحدث لامحالة خسائر مادية وبشرية؛ تستمرّ تداعياتها طيلة أيام.  

أحاول استغلال فرصة دوخته من ثمّة وهنه، كي أتأمّل بتمعّن طيف شخص يرعب كل آن جميع أهل الحيّ حالما التفوُّه باسمه ويستحيل الاقتراب من مجاله الخاص أو التمرّد عليه، وإلاّ فالعواقب وخيمة حتما على المتجرِّئ.

يُرْوَى بأنّ طبُّوخ كان شخصا هادئا ولطيفا، يعشق كرة القدم،لاعبا محوريا ضمن فريق الحيّ توِّج صحبته بألقاب عدّة لاسيما البطولات الرمضانية، ثمّ شهدت حياته تغيُّرا نوعيّا يشبه آثار القصص الغرامية الأسطورية، انتقل بمصيره نحو وجهة أخرى مغايرة تماما، نتيجة إخفاق علاقته  العاطفية بابنة الجيران، فقد رفض أب الأخيرة بكيفية مطلقة زواجهما. موقف أضرم النّار في قلب طبّوخ، جعله يستشيط غضبا واقترافه جريمة الاعتداء على الأب وتكسير عظامه، فكان مصيره السّجن حيث قضى سنوات وغادره شخصا مختلفا، عنيفا لا يرحم أحدا، بحيث انقلبت شخصيته جذريا رأسا على عقب.

جسم سمين أقرب إلى محترفي الجيدو أو السومو، شارب كثّ يخفي جانبا من فمه الذي تقوّضت جلّ أسنانه ولم يعد يحفظ شرفها أخيرا سوى طقم فضّيّ اللون، انسجاما مع موضة تلك الفترة. ضاعف هيبته، إطلاقه باستمرار قهقهات مدوّية جرّاء كل مزحة صغيرة أو كبيرة؛ زادها جلجلة صوته الأجشّ وخشونة البحّة. أثَّث ذراعه الأيمن وشم بدائي شغل حيّزا رحيبا يشي بملامح أنثوية غير واضحة المعالم،تضيف محكيات سيرته بأنّه تجسيد أبديّ لذكرى حبيبته.

لا يتوارى هذا الوشم الأيقوني عن الأنظار ومعه ذراع طبّوخ الأقرب شكله إلى أذرع ملاكمي الوزن الثَّقيل حين ترهّل كتلة عضلاتهم، سوى اضطرارا فترات حلول فصول شتاء مراكش القارسة؛ خلال تلك الحقبة من الزمان. حينها يرتدي جلاّبية صوفية غليظة، أما الحذاء العسكري أو ”البروتغان” فيظلّ لصيقا برجليه حتى خلال عزّ قيظ الصّيف، سرّ ذلك، اعتماده عليه كسلاح أرضيّ ناجع وفعّال خصوصا إبّان معاركه الأكثر شراسة، يمنحه إمكانية مضاعفة زخم ركلاته التي أبان عنها أثناء مباريات كرة القدم؛ في موقع قلب هجوم وعميد فريق الحيّ، رغم أنّه لم يعد ماهرا مثلما فترة شبابه أو حتى امتلاكه القدرة على ممارسة اللُّعبة ضمن حدودها الدّنيا، بل فقط فرض نفسه جبرا عبر بوّابة وضعه القياديّ باعتباره الفتوّة.

لا أحد يتجاسر على تغيير طبُّوخ أو انتقاد أدائه. يضيِّع أهدافا كثيرة في المتناول، رغم تسابق أعضاء الفريق كي يمدّونه بكرات الفرص السّانحة، غير أنّه بدل الاعتذار يعكس الآية كليّا، صارخا في وجوههم ويشتمهم نتيجة أخطاء التّصويب السّديد وعجزهم عن إرسال الكرة ضمن مدارها الدقيق. أمّا إذا نجح وسجّل هدفا فلن تتوقّف الهتافات باسمه ويستمرّ الحفل داخل الحيّ عبر الجلسات الخمرية التي تجبُّ غالبا ما قبلها، سواء الرياضة والفرح، لأنّ طبّوخ يغدو وحشا كاسرا بامتياز، وغالبا ما يصير الفرح فاجعة بعد تأثير الكؤوس على بوصلة رأسه.

انتهت ممكنات هذه السّيرة قبل أوانها ربّما، بغير توقّع أو احتساب، لأنّ طبُّوخ يعيش لحظة سقطته المدوّية، أوج عطائه وتحكُّمه الميداني.

ذات ليلة خمرية بلغت قمّة الثَّمالة، مرّ على مقربة من الجلسة شابّ من أهل الحيّ أيضا، لكنّ نموذجه الإنساني مختلف تماما عن مثال طبّوخ وجماعته، ينتمي إلى صنف ثان، ينعتون مجازيا بـ”أبناء منازلهم” ليس بمعنى ”بيتوتي”، بل هو شخص لطيف، مسالم للغاية، قليل الاختلاط بالعموم.

انتهت تلك الليلة أسطورة طبّوخ السّائدة طيلة سنوات، بكيفية سريعة غير منتظرة قط على يد شخص، بقي محسوبا دائما ضمن تقديرات أهل الحيّ على فئة ”أبناء المنازل”، لا تُعرف له أنشطة أخرى، سوى بيعه الأواني في إحدى أسواق المدينة.

استفزّ طبّوخ ظلما، الشابّ العابر سريعا إلى المنزل بكلمات نابية بغير علّة معلومة ولا دافع يذكر، أبدى الأخير استغرابه بطريقة لم يغفلها فتوّة الحيّ وزعيمه الأوحد، الذي رفض قطعا أيّ شكل من أشكال التحدّي أو مجرّد الإبانة عن أبسط تعبيراته، لاسيما إذا كشف عنها شخص لايرقى إلى مقامه قوّة وبطشا؛ غير قادر من الوهلة الأولى عن مجاراته.

هرول الزّعيم بكلّ غروره نحو الشابّ المغمور، محاولا الإمساك به وإشباعه ضربا،مثلما يفعل عادة، وينهي بسرعة الأمر لصالحه ثمّ تتوطَّد أكثر فأكثر هيبته، لكن تلك المناسبة خاب توهّم ظنّه، فلم يتوقّع بتاتا تلقّيه لكمات متتالية بسرعة فائقة ومضبوطة التّصويب والتّأثير، أسقطته أرضا، جعلته يتلوّى من الصياح ألما، عاجزا عن النهوض ثانية أمام استغراب الحاضرين، نتيجة مفاجئة لم يكن منتظرة سواء ارتباطا بالسّياق الزّمني أو نوعية الفاعل.                                        

شارك هذا الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!