صراع التابع مع السلطة في رواية “التابع وسليمان”

لحسن أوزين
لم يخطئ كثير من المنظرين والنقاد في مجال النقد الفني والأدبي الروائي حين اعتبروا العنوان عتبة للنص. لهذا على الكاتب أن يحسن وضع العنوان المناسب لعمله. وذلك حتى يجذب انتباه القارئ، ويثير في ذهنه الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تخلق لديه فضول ورغبة القراءة. هذا ما نلمسه في عنوان رواية: “التابع وسليمان” للكاتب المصري أحمد عبد الحليم. فنحن أمام عنوان ثري ومشبع بالكثير من الدلالات والايحاءات والإحالات. خاصة لمن يملك ذخيرة ثقافية، وملم إلى حد ما بالتطورات السياسية، والتحولات المجتمعية التي عرفتها المنطقة العربية مؤخرا. المتعلقة بشكل خاص بالمنعطف الذي انطلق مع الانتفاضات أو الثورات العربية. لذلك نلمس في عنوان الرواية مخاطرة معرفية وأدبية بالمعنى الجريء للكتابة في اقتحام مجال وحقل السلطة الاستبدادية، الأقرب في صورتها التاريخية الاجتماعية والسياسية الى الظاهرة الكولونيالية. لأن كلمة أو مصطلح “التابع” هو مفهوم سوسيولوجي وسياسي يحيل بشكل واضع الى تراث نضالي هائل للمقهورين والمهمشين والمستعمرين. كما يشير الى الطروحات النقدية التي تناولت التمييز العنصري والجندري، النساء تحديدا. وتمتد الإحالة الى مختلف أشكال التراتبية والتسلط السياسي والاجتماعي والثقافي…
وهذا ما يجعل النقد الاجتماعي والنفسي وما بعد استعماري، ودراسات التابع (سبيفاك) وصول الى النقد الديكولونيالي يحضر بشكل أو بأخر في هذا المفهوم. وما يقوي من هذه الدلالات والخصائص الفكرية ارتباطه الجدلي التكاملي بالاسم الشخصي ” سليمان” الذي لا يمكن اختزاله أو ربط بفرد معين. بل الأمر يتعلق هنا بسياق العنوان بالمعنى الواسع للمعطيات التي أشرنا اليها، بوصفها تأطيرا عاما للايحاءات والدلالات التي يستهدفها العنوان باعتباره عتبة للنص، الذي يتناول صراع المنبوذ والمقهور والمهمش، وكل التابعين مع السلطة، في صورتها المخابراتية الدموية. وما تنتجه وتفرزه من سلط تعمل على التكريس و معاودة إنتاج التابع والقهر والسيطرة والهيمنة،- بورديو، فوكو، بتلير، ألتوسير، بودريار- من الأسرة والمدرسة، مرورا بالعدد العائل من المؤسسات المدنية والرسمية، وصولا الى أجهزة الدولة الأيديولوجية والسياسية. الى درجة تبدو استمرارية عملية تناسل جدلية التابع وسليمان كقدر محتوم طبيعي.
هكذا ينفتح العنوان في دلالاته العميقة، على خلفيات فلسفية ومعرفية وابستيمولوجية وإيديولوجية. صار من الضروري معرفتها والإلمام بها ما أمكن ذلك، عند مقاربة مسألة التابع. لكن الرواية كشكل أدبي لها أدواتها الفنية والرمزية، ولها آلياتها الخاصة في الاشتغال ككتابة أدبية. لذلك لن ننتظر من المؤلف السقوط في اللغة الفجة المباشرة القريبة من سطوة الخطاب التقريري الجاف البعيد كليا عن الحقل الأدبي.
فكيف تعاملت رواية التابع وسليمان مع كل هذه الأسئلة التي فرضها علينا العنوان كفرضيات تأويلية لمقاربتها في شكلها الفني: لغتها، قصتها، وخطابها، و أدواتها الفنية والرمزية…؟ وفي أبعادها ودلالاتها الفكرية و السياسية والثقافية؟
أولا: مستوى القصة في الرواية
” الورش تعني السبَ والضرب والإهانة. لكنني كعادتي، كنتُ متمردًا، رافضًا إهانات الورش العادية، واضعًا بعض القواعد لمعاملتي. لا أُضرب ولا أُهان، حتى مناداتي ب «تعالَ يا خول »، وهو شيء
عادي في عُرف الورش، قد تمرّدتُ عليها.”26
تحكي الرواية عن شاب مصري، وجد نفسه تبعا لسيرورة سنواته عمره، من الطفولة الى مرحلة الشباب، في موقع الرفض والتمرد والغضب والثورة ضد كل ما يمس كرامته وقيمته الإنسانية. فمنذ طفولته في بيئة اجتماعية هامشية، كان رافضا لأي عنف رمزي، أو حركي، قد يمس جسده أو قيمته المعنوية الذاتية. يستحضر السارد عبر الذاكرة لحظات ومواقف، ومواجهات وصراعات احتضنتها حارة فقيرة وصمتها البنية الاجتماعية الاقتصادية بالنبذ والاقصاء والعنف الاجرامي. كما جعلتها تلك البنية مكانا وفضاء للبلطجية و المتاجرة في المخدرات. وبديلا لتفجير وتصريف العدوانية الاجتماعية والنفسية والجنسية، من خلال صراعات دموية، بين ساكنة الحارة. مما جعل مجموعة من العائلات تُورّث لأبنائها، ماديا ومعنويا نوعا من الشفرة القيمية والنفسية والاجتماعية الباذخة في عالم البلطجة والمخدرات والتعليم على الأجساد…
هذا هو واقع التاريخ الشخصي الاجتماعي للسارد الذي يتناوله في هذا النص في شكل فني يجمع بين السيرة الذاتية والشكل الروائي. يعتمد في سرده على الذاكرة المتميزة أصلا بالبتر والانتقاء والتجزيء…، حيث لا يمكن أن يأتي السارد على حياته الماضية دفعة واحدة ومن كل الجوانب. فهو يحاول الآن أن يعيد النظر في الوقائع والاحداث والسياقات والعلاقات الاسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، التي شكلت ذاته ومنحته رؤى وتوجهات وانتماءات وتطلعات، وطموحات، دون أخرى. كما جعلته ينخرط في علاقات ويشارك في مواقف وأحداث. ويدخل في تجارب متعبة مرهقة ومعذبة. ومشحونة بالخسارات والآلام والخيبات، خاصة على المستوى العاطفي. بالإضافة الى مختلف أشكال التذمر والقلق النفسي والاجتماعي. هكذا يجعلنا السارد نتتبع حياته طفلا وشابا من فئة أو طبقة اجتماعية أرادت لها السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، أن تبقى في القاع الاجتماعي مذلولة ومقهورة وتابعة، في خضوع ممسوس بالنقص والدونية والاحتقار. والصراعات التافهة التي ولدها القهر السياسي، وتشربها الشاب مع حليب وعدس وطعمية طفولته وشبابه، هو وباقي أصدقائه من الطبقة التابعة، المرمية على قارعة الحياة. منتجة خطاب الستر والرضا والحمد في قبولها بقسمة طيزى من الغبن و التهميش والاحتقار. كان الله فيها مشجبا وظلا عاريا لا يقوى على تسكين أوجاع النفس، وتمتيع رعشة الجسد الصائم عن حلاوة الدنيا، شعورا ولذة وفرحة وإحساسا كريما في القلب.
يكبر الشاب، وهو يحاول الحفاظ قدر الإمكان على كرامته وقيمه وأخلاقه، وسط هذا التعهر الاجتماعي والسياسي، في صراع حاد بين قيمه، و واقع مرعب مؤلم وشرس.. يجرد التابعين من كرامتهم، ويهدم ذواتهم الإنسانية. بل يزج بهم في دائرة القابلية للخنوع والخضوع والاضطهاد والحياة البذيئة القذرة. يحدث كل هذا في صورة تأخذ طابع القدرية للعبودية المختارة، واستحالة التفكير والنظر خارج الصندوق الذي صنعته سياسات سليمان. ليس كشخص، بل كأداة فنية ورمزية للتحكم المخابراتي الأقرب الى الاحتلال المحلي، المجسد لبنيوية العلاقات التبعية في كل نواحي الحياة.
يشارك بوعي عفوي تلقائي في ثورة الشعب على الحاكم. فيكتشف ويرى عن قرب بعيونه وجسده تغول السلطة وهمجيتها ودمويتها في مواجهة التابعين الذين تجرأوا على دق الخزان، أو التحرر من سطوة الصندوق الرهيب للقهر السياسي الاجتماعي. فيتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب والهدر للكرامة والتبخيس لقيمته الإنسانية، هو ومن معه من التابعين الثوار المتمردين. ولم يكن وحده من دفع ثمن هذا الاعتقال البشع، بل دفعت الاسرة من دمها وصحتها، خاصة حبيبة الام التي دعمته وساندته. وقبلت بحل الهروب من الوطن بعد خروجه من السجن. حيث ظل الشاب خائفا مرعوبا، مسكونا برهاب تكرار تجربة السجن في اغتصابها للعمر والجسد والقيمة الإنسانية.
لهذا اختار الشاب حالة الفرار والهروب وتفضيل آلام المنفى في بيروت. تجنبا لوحشية السلطة التي تطلق يد المخابرات والضباط الأمنيين لقهر وتحطيم العقول والقلوب والأجساد. لذلك هاجر أو بشكل أدق هرب إنقاذا لحياته من اعتقال أو موت محتم يترصده في وطنه في السجن الخاص، أو في السجن العام بعد أن اتخذ الوطن صورة سجن كبير. ينتظر فيه الناس متى تلحقهم السلطة بالسجن الخاص في زنازين العطن القذرة والموبوءة، التي يتآكل فيها الأبرياء. ذنبهم الوحيد أنهم طالبوا بحياة لائقة وعيش كريم واعتراف بذواتهم الإنسانية المستقلة. وبعلاقة جديدة بين السلطة والشعب، بعيدا عن لغة التابعين والمقهورين.
والى جانب الخوف والرعب ورهاب تكرار تجربة الاعتقال، وجد الشاب نفسه في وضعية المتهم المشبوه من قبل المجتمع. مما ولد في نفسيته سخطا عارما تجاه الناس، الى درجة ممارسته بوعي لسلوك النفور و التجنب والابتعاد. خانقا نفسه ضمن علاقات ضيقة مع أسرته وعائلته وبعض أصدقائه الذين شاركوه القهر والفقر والتهميش والنبذ، والشفرة الاجتماعية الاجرامية، أبا عن جد في حارة التابعين.
صحيح أن الثورة المصرية فاجأته بأفكار ورؤى ومواقف جديدة على نمط تفكيره المحدود في التحليل والنقد. لكنه في سياق التمرد الداخلي حاول من خلال تعليمه وصقل تجربته الفكرية والثقافية، تعميق الوعي وتوسيع الرؤية، وتحسين اختيار زاوية النظر النقدي. وهذا ما أهله أكثر لخوض غمار تجربة الكتابة الصحفية والبحثية. الشيء الذي أشعره بنوع من الامتياز في الفهم والادراك والتحليل النقدي. وتفكيك الوقائع والاحداث والخطابات، التي لا تنحصر بما هو سلطوي مباشر وضيق. بل وسع الرؤية لتفكيك السلطة المبثوثة في الخطاب اليميني والاسلاموي واليساري، في الجسد واللغة….
وفي بيروت سيهتم أكثر بلعنة الحب والمشاعر الفائضة الجياشة. ومُتع الجسد الهاربة في حالة طوارئ قصوى. كأنه يطارد الاشباح الجاحدة العنيدة التي علّمت بالحديد و نار الهجر والنبذ على نفسيته وجسده وخيالاته دون شفقة ولا رحمة. حيث وجد نفسه في سلسلة تجارب الحب الخائب الفاشل، والمرضي من جانب واحد غالبا.
ثانيا مستوى الخطاب في الرواية
تنقل الرواية هذه القصة بتوسط فني جمالي، تلعب فيه اللغة الذاتية دورا كبيرا في التمثيل لحياة التابعين. وفي رصد البناءات الخفية التي تفرز وتنتج عالم التهميش والاقصاء. لغة مشحونة بالغضب والآلام النفسية والاجتماعية التي خلفتها تجربة السجن. فهذا الاخير احتل الكيان الداخلي للشاب وجعله حزمة من الغضب والقلق النابع من انكسار وخوف دفين. اللغة عارية لا تخشى الاحكام المعيارية في تسميتها للتعهر الاجتماعي والسياسي، وفي تمردها ضد الأخلاقية المجتمعية الزائفة، في وحل حياة يومية يعرف الجميع قذارتها في لقمة العيش والعلاقات الزوجية والاسرية والاجتماعية المطبوعة والقسوة والعنف.
لغة تتألم تتوجع، تحتج تصرخ، وهي تشتغل بعمق على عملية الوصف والتوصيف لحياة الشاب وكل التابعين. من المعلمين الصنايعية، أصحاب الورش والقاصرين العاملين فيها. مرورا بكشف التابوهات والمحرمات والأخلاق البراقة الممسوسة بالعهر والفحش المزين بألوان من الستر الأخلاقي الكاذب.
و الرواية في لغته وبنيتها السردية لا تشتغل بشكل تقليدي على مستوى المبنى تمارس التقطيع لغة ومكانا وزمانا. تمارس نوعا من تكسير الجسور، كما تمليه الذاكرة في ذهابها وإيابها من الطفولة الى الشباب. أو من الفرد الى الجماعة والمجتمع. ومن الميادين والهتاف الى فضاءات الرقص والاستهلاك. ومن وهم الفرح العابر الى سطوة الخسارات والفشل الذريع المزمن في الحب والعلاقات العاطفية. ومن التشبث بالحياة والدفاع عنها الى غلبة الوسواس القهر لموت يرفض التسويات والترضيات والتنازلات
” من الصباح جسدي يلفُّ في هذا القهر، باحثًا عن الموت. سواد الحياة طَبَق على نفَسي، همس في عقلي: «انتحر »، نصحني. زهقتُ من الحياة. الحياة قاهرة، والقاهرة مكان مثالي للخلاص من القهر.
من السجن، تخاف على جسدك، اقتلُه. المسألة بسيطة، اصدمه بالسيارات، حرره من كل السُّلطات، على الأقل السُّلطات الدنيوية.”79
. تبعا لجدليات هذا التشبيك الفني والرمزي تنهض الرواية كتجربة ذاتية فردية، وكشهادة تتجاوز الذات لتمثل كل التابعين، وهي تحاول تعرية أخطبوط السلطة الذي سكن كل مستويات العلاقات والبنى الاجتماعية والقيم الثقافية والأخلاقية، الى درجة شوه الجميع. وصار الانتماء للشعب ذريعة صريحة للخروج على القانون، مما يستوجب الاعتقال والسجن.
بناؤها الفني هذا جعلها سلسة وجذابة، خالقة لمزيد من الفضول والتشويق لدى القارئ النقدي الذي ينتبه لشقوق وطيات النص. كما يجد القارئ النمام ضالته، في ترصد واصطياده لعورات وعثرات الناس، دون أن يسمح له جهله باكتشاف ذاته وفهمها، والانغماس في جمالية الأدب المولدة لحالات من تعافي الذات من الشروخ والآلام والعذابات والسجون الداخلية التي تستنزف الذات وتعيق نهوضها وولادتها من جديد.
” أكتب، حتى أُنظِّف نفْسي من الوساخة” 31
ثالثا: صناعة التابع
” لم ولن يفهموا. هم التابعون، أعضاء حزب الكنبة، الجالسون طيلة حياتهم للمشاهدة دون المشاركة. سُليمان وآباؤه من قبله، أخرسوهم، هددوهم بالقتل، السجن والإخفاء. جعلوا منهم مسوخًا، صراصير،
لا تعرف أهي جبانة أم شجاعة، لماذا تعيش، ولماذا تُداس، تُضرب، وتُقتل؟! يا أولاد سليمان، يا ضباط القحبة، مضتْ كل هذه السنوات، ولم تملُّوا من ضربنا، نحن الصراصير، أولادكم غير الشرعيين، أولاد زناكم مع السُّلطة.”122و123
يمكن للقارئ النقدي أن يلاحظ خلال سيرورة القراءة، بأن الرواية تحاول تعرية وفضح بنى السلطة. والديناميات الاجتماعية التي تنتجها سيطرتها السياسية وهيمنتها الثقافية الأيديولوجية على مجتمع التابعين. والجميل في هذا أن الرواية تفتح عيوننا حول السؤال العريض لوجود التابع اجتماعيا وثقافيا وسياسيا في جدلية لا تسمح بحضوره السياسي. ولا حتى بوجوده الإنساني إذا ما فكر أو قرر تحسين القهر وتلطيف الظلم وليس إسقاط النظام أو المناداة بالتغيير الجذري.
هكذا تنبهنا الرواية الى أن وضع التابع هو ناجم عن صناعة اجتماعية ثقافية سياسية، وليس قدرا طبيعيا أو إلهيا مزعوما ومحتوما. فالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية شكلت البنى الأسرية على مستوى نوع الرؤى الى الذات والأخر والعالم، والأفكار والتصورات والمعتقدات والأحاسيس والعواطف. وهذا ما يظهر في التنشئة الاجتماعية والثقافية القائمة على العنف والقهر والعلاقات العمودية. يتجلى هذا في العلاقات الزوجية الابوية الذكورية، وفي النظر والمعاملة والتواصل مع الأبناء. هذا ما تزخر به الرواية في البيت والورش، وفي الشارع بين التابعين.
هذا النمط من حياة التابعين كما تشير الرواية وهي تحاول توصيفه وتمثيله يدل على الجذور الخفية لسيطرة وهيمنة سليمان كاستعارة رمزية لخطورة السلطة التي لا يمكن اختزالها في الجهاز الأمني المخابراتي والعسكري(فوكو ). أو شيء من هذا القبيل. ويدل أيضا على أن مقاومة بشاعة ودموية السلطة وكسر جدلية التبعية وتحرر التابع هي أكبر من الوصف والتمثيل والتعبير الذاتي المشبع بالسخرية والغضب. أو تبرير الانكفاء على الذات والغرق في دائرة الاستهلاك، بدعوى تحلل وسقوط وزيف الأطر السياسية الاجتماعية المناضلة. وتراجع النخب المثقفة الجذرية. وسيادة النمطية والتكريس في زمن العولمة وسياسات الاستهلاك.
رابعا: التابع بين لغة الوصف والتمثيل
كقارئ ومهتم بالأدب، والرواية بشكل خاص، وليس كناقد محترف. تكون لدي غالبا متطلبات فنية وفكرية، خاصة مع الأعمال التي أراها تكتسب قيمة وجدارة الخلق والإبداع. لذلك رغم إعجابي الكبير برواية التابع وسليمان، فإن لدي بعض الملاحظات النقدية التي تغني الرواية كقطب جمالي، ولا تقلل من شأنها الفني الأدبي.
تنجح الرواية في تقديم وصف وتمثيل كامل لحياة التابعين. في بحثهم المر والمؤلم عن لقمة العيش. وتعري بشكل واضح الأسباب الخفية للتفقير الذي نال منهم. ومسخ وجودهم الاجتماعي في بحثهم عن الوجاهة الاجتماعية والقيمة والمهابة الذاتية، من خلال أفعال وسلوكات ومواقف انحرافية متورطة في عوالم الممنوعات والمخدرات والعنف الأعمى للفتونة والبلطجية. وادعاء النبل والمكانة في وحل المسخ اليومي لقيمتهم الإنسانية وهدر صريح لكرامتهم،. والسقوط في فخاخ السلطة على أن التابعين مجرد جهلة همج. تمضي الرواية في فضح معاودة إنتاج السلطة لغة المستعمر. في تحول رهيب للاستقلال الوطني الى استعمار بالوكالة، أو شكل سياسي جديد للاحتلال المحلي. تنجح الرواية في هذا الوصف والتمثيل دون أن تقوى لغتها الذاتية الأحادية على التحليل والنقد. وانتهاك الوجود السطحي للتابع، بما يسمح له بالولادة الأدبية الاجتماعية القادرة على احتضان وجوده اللغوي والخطابي والسياسي المناهض لسطوة الهيمنة المتجذرة في تجاويف لغة السلطة في هذا الوصف والتمثيل الذي تنجزه الرواية. والتي تتطلب تفكيكا يتجاوز حالات الضحية والخوف واجترار الألم والانكسار والهروب…
خامسا غياب التعبير، والتعدد الصوتي
“ليلتي الأخيرة في مصر، على المَقهى، كنَّا جالسين نلعب الدومينو، ومعنا أصدقاء تابعون لن أذكرهم، ولن يذكرهم أحد، سيعيشون ويموتون بلا ذكرى”15
كان يمكن للسيرة الذاتية أن تستثمر بشكل مبدع خلاق الشكل الروائي. وذلك بما يجعل السيرة تجربة مشتركة لطبقة التابعين. وتحريرهم من سطوة الوصف والتمثيل الذي غيب أصواتهم. وصاروا مجرد ظلال باهتة في محنة بطولية منكسرة خائفة مذعورة هاربة غارقة في استهلاك الذات والمتعة الجسدية، الجوفاء من الرضا العاطفي والجنسي الحقيقي. والمعبر عن شكل بديل لتحرير الجسد من ثقل التابوهات والمحرمات والممنوعات والتقاليد والرؤى والمعتقدات التي خلفتها الهيمنة السليمانية في النفس والجسد والعلاقات والمشاعر والرؤى…
حضور الأسماء كفصول للرواية هو أقرب الى قمع آخر لحق تعبير التابع عن نفسه وذاته. بما يسمح له بفهم ذاته ومتطلباتها، المعيشية والثقافية والمادية والمعنوية والجنسية بشكل أفضل. عوض حشره وحصاره. والبصم على وجود الإنساني بغياب الوعي. في طبقة التافهين الجهلة الفضوليين المناصرين لانقلابات السلطة. كأزلام ومتفرجين يسهمون في تكريس الوضع.
لا صوت يعلو على صوت السارد الذي ألغى ديمقراطية الفن وحوارية الرواية(باختين). ولم يفتح لهم ممرات آمنة لتداول حق التعبير والكلام بصوت مرتفع. يمكن أن ينتهك ويخرق عملية الوصف والتمثيل المعاودة لإنتاج القهر والظلم . وللشروط الاجتماعية السياسية والاقتصادية المولدة لبشر صنفوا طبقيا في دائرة التابعين، رغم عنها.
لا أحد يفهم مسارات ومجرى التاريخ بكل تعقيداته، والتناقضات المجتمعية غير السارد الذي بدل مجهودا في تنمية واثراء فكره، وقدرته على الفهم والرؤية والتحليل النقدي النافذ الى عمق الحقيقة. لا الأم بتجربتها كانت حاضرة في هذا الاستبداد اللغوي، وفي عملية إنتاج نظام الخطاب. المسكون بلغة السلطة في الفزع والغضب والظلم والضحية والخيبة و الشبهة والخوف والهروب من الاعتداءات التي يمكن أن تطاله من طرف سليمان وزبانيته.
” عام يجرّ آخر، وأنا مُصرٌّ على الخوف، والملل، على اختيار طريق سري أذهب وأعود منه إلى البيت. اغتراب عاشَني، وتكيَّفتُ معه، على الرغم مني. لم تعد نفْسي أبدًا تطيق السلام على أهل الحارة، عشتُ
سنوات ما بعد السجن في اغتراب عنهم. هم لكَاكون، يتحدثون في الفاضي والمليان، يسألونني عن السياسة والإخوان والسجن والكرة والأشعة. يحذرونني من المُخبرين، وهم منهم المُخبرون. لتْ وعَجن
كنتُ في غنى عنه”54.
لا صوت للاب للإخوة للأصدقاء. الى درجة بقي السارد أسيرة وصفه وتمثيله لنفسه وللآخرين. الشيء الذي حال دون قدرته على امتلاك لغته الخاصة المعبرة عن ذاته الحقيقية في صراع يتميز فيه موقعه اللغوي والخطابي والجمالي عن موقع السلطة، لغة وخطابا ووعيا…
سادسا: غياب اللغة والخطاب السياسي البديل
تطغى في الرواية لغة السلطة التي تجعل السارد يتجسد بلغة الضحية المظلومة المقهورة المنبوذة. والمحكوم عليها بالقسر والقمع السياسي. ولا خيار لها إلا أن تتآكل في الداخل أو تفر بجلدها هروبا الى المنفى. لغة انفعالية غارقة في النظر الى نفسها كاستثناء وسط تابعين عيونهم مجهزة للاتهام والقدح الخبيث الشرير. والقصف بأبشع النعوت والشبهة في حق امتلاك البراءة، فيما ينسب إليها من وقائع وحشية إرهابية. عجز اللغة في نقض المعجم السلطوي وامتلاك التركيب والدلالة المعبرة عن البطولة التي خاضها السارد. عوض تأطير وجوده السياسي والإنساني والبطولي في دائرة الوصف والتمثيل السلطوي. فامتلاك لغة التمرد والمقاومة والبطولة في وجه سليمان، كنظام سياسي يسمح له بتجاوز لغة الضحية والمظلومية، والخوف ورهاب الاعتقال. وبالتالي امتلاك خطاب سياسي يحرر الذات من هيمنة السلطة على لسانها، لغتها، تعبيرها، رؤيتها لنفسها والآخرين والعالم. بعيدا عن لغة سليمان المولدة لحالات من الموت المجاني، في طغيان نفسي كبير لوسواس الانتحار. وفي هذا تكريس لحالة الهروب من الوطن، بالهروب من نزوة الحياة. فالسارد عاجز عن بناء خطاب فني فكري سياسي، حر إرادي مستقل. وحتى علاقاته العاطفية والجنسية عاجزة عن تفجير المكبوتات المحنطة باليأس والإحباط وتآكل الذات.
سابعا: إعادة إنتاج السيطرة والهيمنة
“أنا ابن عائلة كبيرة في البلطجة، وقبل أشهر بسيطة خرجتُ من السجن. مَن أنتم حتى تُعلِّموا عليَ! أساسًا أنا لا أهتم بحوارات مُحدَثي المشكلات. هم أيضًا شباب طيب، وُضِع في بيئة تمجد شأن مَن يحترفون مسك السلاح، وشرب المُخدرات، وخرِّيجي السجون، ونايِكي النسوان. هؤلاء، هؤلاء العيال الحمقى، لم ينالوا أي شيء مُترم، ولم تقل لهم السُّلطة والمُجتمع والأُسرة إن التعليم والأخلاق شيء
مهم، ومن الأساس ما مفاهيم التعليم والأخلاق، بل هم مثل أسماك احترفت العوم وسط مُستنقعات الخراء. حتى أنا، الكاتب، الباحث والأديب، مُروِّج ومُدعي الوعي، لم أحاول أن أعطي لهم أي نصيحة
عن الأخلاق، تحديدًا حول إبطال فعل الفردَنة، الفتونة على خلق الله، بل تماهيتُ مع قانونهم، فقط حاولتُ النجاة، وأعلمتُهم أنني مثلهم، بل أقوى منهم. حتى وأنا أسرد، قلت أسماك في مستنقعات الخراء. تشبيه سخيف، مثلي، ومثل كل شيء حولي، ابن ركاكة.”56
تؤكد الكتابات النقدية ما بعد كولونيالية من غرامشي، فرانز فانون، ألتوسير، فوكو، سبيفاك، بودريار وآخرين دون أن ننسى أعمال إدوارد سعيد، على ضرورة اليقظة النقدية في تحليل وتفكيك البنى اللغوية والمعرفية والخطابية والفلسفية والسياسية للسيطرة والهيمنة. لأن جعل لغة السلطة أداة لامتلاك اللغة والتعبير، وبناء المعرفة و الخطاب، وتكوين الرؤى النقدية والنقضية، أو جعلها فضاء دلاليا للإبداع ورؤية العالم والذات والآخرين، يؤدي الى إعادة الإنتاج وليس الى التغيير وتأسيس البديل.
اعتماد لغة الرواية على معجم ودلالات السلطة المشحونة بمعاني المظلومية والضحية و الخوف والرعب، والهروب من الذات والمجتمع ومن المكان الوطن. خنق الرواية في لغة غارقة في الصرخة الذاتية والألم النفسي جراء الأثر الرهيب لتجربة القمع والسجن. ومسجونة بأدوات ورؤى الوصف والتمثيل القاتل لوجود التابع. فكان طبيعيا في ظل هذا الوعي الفني الفكري أن تطغى الذات وتغيب أصوات ولغة وخطاب التابع. الشيء الذي منح لسيطرة وهيمنة سليمان أفقا فنيا وفكريا لتكريس وجوده السياسي، من خلال العمل الأدبي. وإعادة إنتاج البنى المادية والرمزية الثقافية لاستمرار هيمنته وتغلبه على التابعين. ليس فقط من موقعه السياسي الاجتماعي، بل من الموقع النقيض لكن بلغة ووعي وخطاب السلطة.
_________________________________________
أحمد عبد الحليم، رواية “التابع وسليمان” عن الحب والجسد والمنفى- (دار مرفأ للثقافة والنشر 2024)