عندما يخرج النص عن النص!.. أو وقفة أمام امتحان إشهادي غير موفق

الصادق بنعلال
(…فالحدث السياسي حدث شائك ومركب تتداخل في (أحداثه) إحداثه شبكات من المؤثرات والمحددات الاقتصادية والاجتماعية والسيكولوجية والقانونية، و تؤطره العديد من السياقات المحلية والدولية … وصورته الواضحة في وعي الفاعل لا تنفي وجود طبقات دلالية وفواعل كثيفة متضافرة، ناهيك عن المقاصد الخفية، والحسابات السياسية المضمرة أو الصريحة، فالحدث كان هذا الوعي الإبستمولوجي التلقائي، وهو أساس هذا الحدث التأويلي والتفسيري، وسند هذه النزعة (الحديثة) الحدثية الوصفية والسردية المراعاة من طرف الفاعل السارد …)
1 – ورد هذا المقطع (الفقرة) في الكلمة التقديمية للكاتب والمفكر المغربي الراحل محمد سبيلا (1942-2021)، كان قد خصصها لمؤلَّف “نصف قرن في السياسة” للسياسي والدبلوماسي المغربي المتميز عبد الهادي بوطالب (1923-2009). حيث أبرز من خلالها مظهرا من مظاهر قصور الفعل السياسي المغربي، ألا وهو شبه انتفاء/غياب لما أسماه “تدوين التجربة السياسية” وعزوف شخصيات النخب المغربية عن توثيق تجاربها ذات الصلة بالمهام الدبلوماسية والسياسية بعموم اللفظ، مما حرم الأجيال المتعاقبة من الاستفادة من نجاحاتها ومنجزاتها، واجتناب السقوط في اجترار أخطائها وزلاتها، خاصة وأن تدوين التجارب السياسية من شأنه أن يسعفنا ليس فقط في الحصول على ما فاتنا من معطيات ووقائع تاريخية محلية أو عالمية، بل أيضا في استقراء معالم الصراعات الحزبية والأيديولوجية، التي تحكمت في المنجز السياسي لدى نخبنا الوطنية، عبر مؤشرات وإيحاءات وفراغات بالغة القيمة والدلالة في التوثيق السياسي النوعي.
2 – لا بل إن مثل هذا “التدوين” كفيل بأن يعمق وعينا بمحددات التاريخ الوطني وتجلياته المختلفة. وما من شك في أن عديد السياسيين والدبلوماسيين المغاربة الكبار رفضوا أن “يموتوا فارغين”، وأبوا إلا أن يرحلوا عن الحياة الدنيوية ممتلئين علما وفكرا وتجربة، ولعل كتاب “نصف قرن في السياسة” لعبد الهادي بوطالب يعد نافذة ضمن نوافذ أخرى قليلة، نظرنا من خلالها على بطولات وزعامات وإخفاقات، طبعت المسار السياسي الوطني منذ عهد الحماية ومواجهة الاستعمار الأجنبي إلى يوم الناس هذا. كما أن النزعة الشفوية الشائعة في مجتمعنا، فضلا عن ضعف المستوى الثقافي للفاعلين السياسيين، وضمور قيمة الحرية وضيق مسؤوليتهم السياسية، كل ذلك حدا بهم إلى الاختفاء والانسحاب الهادي تفاديا لأي شكل من أشكال التورط.
3 – إلى هنا يمكن القول دون تردد، إن المحتوى الدلالي العام لهذا النص، الذي يندرج في إطار الخطاب السياسي، له أهمية قصوي بفضل رسائله النبيلة وقيمه الرفيعة، لكن ماذا لو أخبرت القارئ الكريم أنه لم يقترح في اختبار جامعي أو أكاديمي، حيث الطلبة يتوفرون على جهاز مفاهيمي فلسفي وسياسي دقيق ومحكم، يمكنهم من فك شفراته والغوص في حيثياته وتفاصيله المتشعبة، بل اقترح على تلاميذ صغار (ست عشرة سنة) في اختبار جهوي الدورة العادية (26 -5-2025)، الخاص بالسنة الأولى من سلك البكالوريا (الشعب العلمية والتقنية) – جهة طنجة تطوان الحسيمة !
4 – أكاد أجزم بأن عديد المدرسين المحترمين قد لا ينجحون في استكناه مضامينه و”استنطاق” بنيته المعجمية والتركيبية والتداولية. فهل من رجاحة العقل أن ننتظر من تلاميذ صغار ذوي توجه علمي، سيدركون معنى: (الحدث السياسي حدث شائك ومركب تتداخل في إحداثه – وليس أحداثه كما ورد في نص الامتحان – شبكات من المؤثرات والمحددات …) وهل يمكنهم أن يفهموا أن الحدث السياسي (صورته الواضحة في وعي الفاعل لا تنفي وجود طبقات دلالية وفواعل كثيفة متضافرة..) و(أن الحدث كان هذا الوعي الإبستمولوجي التلقائي، هو أساس هذا الحذر التأويلي)؟ وأن (سند هذه النزعة الحدثية – وليس الحديثة كما ذكر في النص – الوصفية والسردية المراعاة من طرف الفاعل السارد)!؟ فأين هي المعايير البيداغوجية التي يستلزمها سياق الاختبار التربوي، من قبيل المواءمة والوضوح واستحضار قدرات المتمدرسين المعرفية والوجدانية والبيداغوجية؟ قليلا من الارتجالية، كثيرا من الوعي السليم!