فعل الانتظار وحالات الانتظار في الرؤية الاحتفالية

د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول الاحتفالي، المفكر المشاء، لا شيء يقلقني ويتعبني ويزعجني أكثر من الانتظار، والذي هو والذي هو عندي شيء يشبه الاحتظار، ذلك الاحتضار الذي هو منطقة وسطى بين الحياة والموت، وبين الحضور والغياب، وبين الصحو والسكر، وبين الوجود والعدم، والذي هو (الفعل) الذي ليس فعلا، والذي قد يكون درجة بين الفعل واللافعل، وكذلك هو الانتظار، إنه حضور نعم، ولكن بدرجة غياب أو تغييب أو غيبوبة، ومن الغريب المريب أن تجد طائرا له أجنحة ولا يطير، وأن تجد مشاء بقدمين وساقين ولا يمشي، ويؤلمني أن أجد نفسي، في حالات كثيرة، جالسا أو واقفا في صالة الانتظار، ودائما في نفس هذا المكان الواقف، ومع نفس هذا الزمان الذي لا يتوقف أبدا، والذي يمشي بسرعة جنونية ولا ينتظر أحدا، وكيف يستقيم أن أظل ساكنا وساكتا وجامدا، وكل العالم من حولي يتحرك وينطق ويمشي، وعندما أنظر إلى الساعة التي في يدي، أجد أنها تدور.. تدور هي وأنا واقف ..وهذا لا يصح، وفي سياق الدراجات الهوائية هناك سباق اسمه (السباق ضد الساعة) وفيه لا يمكن أن تسابق أي أحد آخر من المتسابقين، ولكن فقط تسابق الساعة.
والكاتب المسرحي الإيرلندي صمويل بيكيت انتظر غودو، ولم يلتفت إلى الساعة، ولقد تعتبر أن (فعل) الانتظار قدر محتوم، في حين أنه مجرد اختيار خاطئ، وأظن أن بيكيت، من خلال شخصيتبه، استراجون وفلازيمير، مازال لحد الآن ينتظر، ولقد جعل كل العالم ينتظر معه ذلك الذي لا نعرف إلا اسمه، ولكن غودو هذا لم يأت، وقد يكون أتى من غير أن يشعر به أي أحد، أما الاحتفالي فهو لا ينتظر، وهو يقول مع الأغنية المغربية: (إلى ما جاني أنا نميشي له)..
أما أن نبقى نحن أمام شجرة ميتة، في مكان ميت، وفي زمان ميت، وأن لا نفعل شيئا، سوى أن نقتل الوقت، وأن يقتلنا الوقت، فذلك هو العبث بعينه، وأعتقد أن المسرح المغربي قد عاش على الانتظار .. انتظار المخلص الذي لا يأتي، ونفس الشيء عشناه في السياسة، وانتظرنا الزعيم الملهم، وانتظرنا المعجزات السحرية في زمن العلم والعمل.
من ينتظر، من يكون؟ ومن تنتظره من قد يكون؟
أما ذلك الذي يمكن أن ينتظره المنتظرون اليوم، وفي غير زمن المعجزات هذا، فمن تراه يمكن أن يكون؟
هل هو المهدي المنتظر؟ أم أن الأمر يتعلق بنهاية التاريخ وانتظار اليوم الأخير في الوجود وفي الحياة الحياة، وأن تقوم القيامة، وأن يظهر الدجال، كما في المعتقد الشعبي؟
ام إن الأمر يتعلق بانتظار (سيدنا قدر) كما كتب أخونا السي محمد قاوتي في مسرحيته التي تحمل نفس العنوان، والتي لامس فيها الوجدان الشعبي فكريا وجماليا، والتي تقاطع فيها مسرحيا مع المخيال الشعبي المغربي.
وهل يتعلق بالانتظار الأيديولوجي، كما تمثل ذلك في مسرحية (في انتظار ليفتي) أو (في انتظار اليسار) للكاتب المسرحي الأمريكي كليفورد اوديتس 1935، ولقد شكلت النبوءة المسرحية اليسارية بداية لكتابات أخرى مختلفة في المسرح البروليتاري في أمريكا، ولكن فعل ذلك الانتظار، وبالنسبة لهذا الكاتب اليساري، سينقلب مائة وثمانين درجة، عندما سيتم طرده من الحزب الشيوعي، مما يؤكد أن الحلم الأيديولوجي لا مستقبل له في حياة الإبداع وفي حياة المبدعين الصادقين والحقيقيين، والذين لا يحق لهم أن يبيعوا الوهم للقراء وللمتفرجبن المفترضين.
وهل يتعلق الأمر بانتظار مسرح مغربي وعربي آخر ممكن الوجود؟ مسرح يفترض التجريبيون أنه سوف يأتي غدا أو بعد غد أو في يوم من الأيام، والتي قد تأتي فعلا، والتي قد لا تأتي..
وفي مثل هذا الانتظار، يغيب المسرحي المنتظر، ولا يحضر إلا شبح من ننتظره، أي ذلك الآخر القادم من وراء الأنهار والبحار، والذي يمكنه وحده أن يجدد لنا فكرنا، وأن يجدد لنا مسرحنا، وأن يجدد لنا حياتنا، وأن يجدز لنا آدابنا و فنوننا، وأن يكون علينا بعد ذلك هو أن نترجم فقط، وأن نقتبس فقط، وأن نختلس، وأن نسمي هذا اللافعل فعلا، وأن نقول هو التجديد وهو التجريب.
لحظة الانتظار لحظة ميتة
وهذا الذي نسميه الغد، لا يمكن أن يأتي اليوم، ولكن نتوقع أنه سوف يأتي غدا، ولكن الغد لا يمكن أن يأتي، وحتما لن يأتي، لأنه الغائب والغياب، أو إنه هو الغيب، وهو عندما (يأتي) أو نتخيل أنه قد أتى، فإنه لا يمكن أن يكون اسمه غدا، ولكن يكون اسمه اليوم، أما عندما يمضي هذا اليوم، فإنه لابد أن يتحول إلى مجرد صور متحركة في الذاكرة، وأن يصبح اسمه هو .. الأمس..
ومن المفارقات الغريبة والعجيبة أن الكاتب المسرحي الكبير أوجين يونسكو، والذي آمن بعبثية الكلام، وبعجز اللغة عن التواصل، قد أقنعنا، وبالكلام وحده فقط، بأنه لا جدوى من الكلام.. حلل وناقش .. وهذا هو العبث بكل تأكيد، أي أن تكفر باللغة، وأن تخاطب الناس باللغة مع ذلك..
و لحظة الانتظار، هي بالتأكيد لحظة ميتة أو شبه ميتة، وفيها تصبح كثير من الأجساد مقيدة بلا قيد، وتصبح سجينة بلا سجن، وبخصوص كل العبيد الذين تكبلهم قيود الساعة يقول لهم مولانا جلال الدين الرومي:
(مزق القيد تحرر يا فتى
كم ستبقى مرهقا حتى متى؟)
أما عمر الخيام، فإنه يقول في إحدى رباعياته:
(غد بظهر الغيب واليوم لي
وكم يخيب الظن في المقبل)…
وأنت الكائن الحي لك الساعة التي أنت فيها فقط، وأن خسرتها خسرت حياتك، أما الآتي فقد يكون حلما، أو يكون وهما، أو يكون سرابا في صحراء الأيام والأعوام، أما الماضي فهو حياة منتهية الصلاحية، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يؤكد على النحن الإنسانية، وعلى الآن الزمنية، وعلى الهنا المكانية، وخارج هذا الهنا وهذا الآن، فإنه لا وجود لحياة والحيوية في الفراغ في الفراغ المطلق.
والحياة سفر، هكذا يقول الاحتفالي، ومن يحيا حياة حقيقية يسافر، في الزمان وفي المكان، ويمكن أن بسفارة في ذاته ونفسه وعقبه وروحه ايضا، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يطرح على نفسه السؤال التالي:
ــ ما الصحيح في التعبير التاليين، أن نقول نحن والسفر، أم أن نقول نحن السفر؟
وهل هذا العمر، بكل أيامه ولياليه، وبكل لحظاته وساعاته، إلا سفر باتجاه الأجمل والأكمل والأصدق، والسعيد السعيد في هذه الحياة هو من يعرف أنه مسافر، ويعرف وجهته في السفر، ويعرف مع من يسافر، ويعرف إلى أين يسافر، ويعرف لماذا يسافر، وفي الاحتفالية مسرحية عنوانها (يا مسافر وحدك).
نحن نسافر لنحيا حياة حقيقية، ونحن نحيا حياتنا الحقيقية في السفر ومن خلال السفر ، ومن أجل أن نكتشف المناطق المجهولة في نفوسنا وفي عقولنا وفي ذاكرتنا وفي علمنا الداخلية والبرانية.
انتظار رحمة الله وانتظار العاشقين
ويقول لك الاحتفالي، إن كنت لا تحب أن تنتظر، فإن عليك أن تبادر، وأن تبدأ بأن تفكر، وأن يكون تفكيرك بصور وليس بحروف وكلمات وعبارات فقط، وأن نختار طريقك، وأن تختار مصيرك، وأن تختار حياتك، وأن تختار معركتك، من أجل أن تكون أنت هو أنت..
وهذا هو ما فعله الاحتفالي، عندما شعر بأنه في حاجة إلى مسرح آخر، فكان أن فكر، وتأمل واقع وتاريخ هذا المسرح الكائن، والذي يجعل أنه تاريخ احتفالي في جوهره الحقيقي، والذي كان بحاجة فقط إلى لمسة سحرية، وكان بحاجة إلى تحيين، وكان بحاجة إلى تقوير، وكان بحاجة إلى تنوير فكري، وهذا ما فعله الاحتفاليون ابتداءا من 1976.
ولكن، ماذا كان يمكن أن يكون رد فعلنا، لو أن هذا (الغودو) الافتراضي قد جاء فعلا في يوم يوم من الأيام، وأنه قد جاء بغير الوجه الذي تصورنا، وجاءنا بعكس ما انتظرناه وتوقعناه؟ هل نقول فيه نفس ما قاله المثل العربي (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)؟
ومن ننتظره لا يمكن أن يكون شخصية عادية، كما أنه لا يمكن أن يأتي من هذا قشور هذا الواقع، ولكن من روحه وجوهره، والمطلوب منه أن يأتي من عالم سحري، ومن عالم فوق طبيعي وماورائي، كما لا يمكن أن يأتي من مكان قريب، ويبقى السؤال، وهذا الذي تنتظره، هل له فعلا وجود في الوجود، أم إنه فقط حلم حالمين ووهم واهمين وامل محرومين؟
هل هو المهدي المنتظر، أو هو غودو الذي هو تصغير غود god، وهل غياب هذا الغودو، أو عدم وجوده يمكن أن يجرد هذا الوجود من معناه، وأن تصبح هذه الحياة عبثا، وأن يكون حضورنا فقط قتلا للوقت، وذلك في انتظار الذي لا يمكن أن يأتي.
انتظار ماذا؟ انتظار رحمة الله، أو انتظار الخلاص أو انتظار من يمكن أن يفسر هذا الوجود ومن يعطيه معنى؟
وعادة، وفي حالة الانتظار، فإن الزمن يصبح ثقيلا وبطيئا، ويصبح كل ما نفعله نعيده، ويصبح كل ما نقوله هو نفسه الذي نعيد قوله.. ويصبح وجودنا اليومي قائما على التكرار وعلى الاجترار.
ومن يمكن أن ننتظر؟ إذا كان من ننتظره هو الله،، وهو رحمة الله، وكان الله في قلبك (أيها المشتكي وما بك داء)، وكان الله قريبا منك وأنت لا تدري؟
وذلك الحكواتي نور الدين في احتفالية (الحكواتي الأخير) هو الذي نجده في نفس المسرحية يكلم شابا في حلقته، شاب جاء إلى الحلقة في انتظار موعد مع الحبيبة يقول له الحكواتي الشعبي (وانت.. ( مكلما شخصا وهميا آخر) ها .. ها .. أنت في كامل أناقتك وأبهتك، هكذا تكون (الشياكة) يا أخي وإلا فلا (شياكة) ( ولا هم يحزنون) شاب وسيم يفيض صحة وعافية، زادك الله من نعمائه.. آه وآه.. والشباب يا صاحبي يغري بارتكاب العشق، والعشق جنون، والجنون فنون. والفنون لو تدري، ملح الدنيا وملح الكون..رايتك يا ولدي لا ترحم ساعتك التي بيدك، فانت لا تنقطع عن النظر إليها..إنك على موعد، أليس كذلك؟ ومن كان على موعد مثلك فإنه لايمكن إلا أن يكون واقفا على الجمر ..كان الله في عونك وفي عون كل العشاق، ابق معي، واجلس بجانبي، وتأكد بأن الوقت سيمر سريعا..لن تخسر إلا وقد حلت الساعة الموعودة، ولكنه ـ مع ذلك ـ لابد أن أخبرك من شيء، احذر جيدا أن يسرقك حديثي، ويفوت عليك الموعد، انتبه، إن الكلام غدار، والوقت سيف بتار ..).
مما يدل على أن انتظار رحمة الله، وانتظار العاشقين الصادقين، هما وحدها الحقيقية، وكل ما عداهما باطل..