فعل التجريب في المسرح العربي: كائن هو أم غير كائن؟

فعل التجريب في المسرح العربي: كائن هو أم غير كائن؟

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

هناك أسماء كبيرة كثيرة رافقت الاحتفالية في مسارها الفكري والإبداعي، وكانت شاهدة على مولد تيار مسرحي مغربي وعربي بطموح واسع جدا، وشهادتهم أساسية ومهمة في مجال التاريخ لهذا المسرح، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على امتداد نصف قرن، ومن بين هؤلاء نجد الأديب والإعلامي والشاهد والمشاهد والمؤرخ الأستاذ عبد الرحيم التوراني، ولأن ما أكتبه اليوم يندرج في إطار عنوان كبير، هو (الاحتفالية في التاريخ والتاريخ في الاحتفالية): فإنه من المنطقي أن أدرج ضمن هذه الكتابات الاحتفالية الجديدة، ما قاله الأستاذ عبد الرحيم في إحدى تغريداته على الفيس بوك ما يلي:

(يعد الدكتور عبد الكريم برشيد شخصية بارزة في المشهد الثقافي المغربي والعربي الحديث. فهو ليس كاتبًا ومخرجًا مسرحيًا فحسب، بل مُنظّرٌ وفيلسوفٌ أيضًا، ومؤسس لحركة مسرحية متكاملة هي “الاحتفالية

وهو مثقف عميق وحامل لمشروعٍ ثقافيٍّ ورؤيةٍ أصيلةٍ للمسرح العربي، يرفض التغريب والاقتباس الأعمى، ليستعيد التراث المحلي كمصدرٍ للإبداع الأصيل

تمتد علاقتي بالكاتب الكبير عبد الكريم برشيد إلى أكثر من أربعة عقود.. علاقة إنسانية تطورت لتتجاوز حدود الجوار ومفهوم الصداقة الشخصية والعائلية، حيث تربطني أيضا صداقة تاريخية متينة بشقيقه نور الدين، الإطار الاقتصادي والمناضل اليساري الصامد

لن أنسى أن عبد الكريم برشيد دعمني باستمرار، وشجعني دائما وبسخاء، فكان اسمه علامة مميزة في رحلتي المهنية وما تلاها من تجارب صحفية، منذ الأعداد الأولى لمجلة “السؤال” التي أصدرتها سنة 1984؛ إدراكا مني أن جاذبية شخصية فكرية من حجم عبد الكريم برشيد ستعزز مصداقية وقوة منشوراتي لدى جمهور ثقافي جاد، فاستمر تعاونه معي إلى اليوم في المنصة الرقمية “السؤال الآن”..

شكرا جزيلا لك أستاذي وصديقي النبيل السي عبد الكريم، مع متمنياتي لك بالصحة والهناء.

(التقطت الصورة في آخر الشهر الماضي، بالمقهى الذي يرتاده الأستاذ برشيد في حي المستشفيات بالدار البيضاء).

                       الاحتفالية بين الاكتمال والكمال

الإنسان حيوان اجتماعي عند أرسطو، والإنسان حيوان سياسي عند أفلاطون، والإنسان حيوان ثقافي ـ احتفالي عند الاحتفاليين؛ من هذا المنطلق النظري تنطلق الرؤية الاحتفالية، وذلك في تأكيدها على العيد والتعييد وعلى فلسفة التعييد الاحتفالي، وذلك في المناخ الاحتفالي وفي الفضاء الاحتفالي، وفي المدينة الاحتفالية وفي التاريخ الاحتفالي.

ومن المؤكد أن أغلب ما في هذه الاحتفالية ليس من عندنا نحن، ولكنه من اقتراحات المناخ الاحتفالي الكوني، ومن وحي الزمن الاحتفالي الصادق، ومن إلهام هذا التاريخ الاحتفالي المتجدد، ونحن في هذه الاحتفالية لا ندعي بأن كل ما فيها هو من عندنا ومن فكرنا واجتهادنا، ولعل أهم وأخطر ما يميزنا نحن عشاق الاحتفالية، هو أننا نجيد الإنصات إلى صوت الحياة وإلى صوت الطبيعة وإلى صوت الجمال وإلى صوت الحكمة، وأننا عشاق الجمال وعشاق الكمال، ونحن نطلبهما في كل الجهات وفي كل الثقافات، وفي كل اللغات وفي كل الأبجديات، وفي كل العلوم وفي الفنون وفي كل الصناعات.

هما جانبان اثنان متكاملتان في روح الاحتفال والاحتفاليين وفي جسدمها معا، الأول معطى وجودي ورثناه عن الثقافات العالمية والكونية، والثاني مكتسب بالجد والاجتهاد، وبالتجديد والتجريب، والجانب الأول ورثناه من الثقافة المغربية، العربية والافريقية والموريسكية والأمازيغية والمتوسطية، وفيها جانب آخر اكتسبناه بالمثاقفة وبالتلقي وبالحوار الثقافي والحضاري.

وهذه الاحتفالية، في جانبها المحلي وفي جوانبها الدولية، تميز دائما بين التجربة والتجريب، وتؤكد أيضا على أن التجربة فعل، وعلى أن التجريب افتعال، وعلى أن أي تجريب، بلا تجربة وجودية، وبلا تجربة فكرية، فإنه لا يمكن أن يكون له أي معنى.

وفي (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) يقول الاحتفالي ما يلي:

(إننا في هذا المسرح الاحتفالي الحي، نعيد نفس الحركات الموجودة في الواقع، ليس تقليدا له، ولكن تحديا لوقائعه، وليس حبا في المظاهر والظواهر الكائنة في هذا الواقع،، ولكن حبا في الممكن، وحبا في المستحيل، وعشقا في المتخيل، وفي هذا المسرح نتمرن من أجل أن ننمي أجسادنا، ومن أجل أن نحرر أرواحنا، ومن أجل أن نعرف أنفسنا بشكل أصدق، ومن أجل اكتشاف الطاقات الإيجابية في داخلنا، ومن أجل أن نكون إنسانيين بشكل حقيقي، ومن أجل أن نكون مدنيين في المدن الجديدة، ومن أجل أن نتفاهم، وأن نتواصل بلغات المسرح الحية، وأن يتم كل ذلك بشكل أشمل وأكمل، ويبقى أن الأصل في هذا المسرح أيضا، هو أنه احتفال الحياة واحتفال الأحياء، وهذا الاحتفال هو (تمرين على الفرح، والفرح تمرين على السعادة الممكنة).

هكذا قال الاحتفالي قديماً، وهكذا يقول اليوم وفي كل يوم..

                         التجريب تمرين الأحياء وتمارين الحياة

وفي البيان الأول من (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) والذي صدر مباشرة بعد جائحة كوفيد، يقول الاحتفالي في البيان الأول في فقرة بعنوان (تمارين الأبدان وتمارين الأرواح) ما يلي:

(وبحسب الاحتفالي، فإنه لا وجود في هذه الاحتفالية إلا لفعل واحد أوحد، والذي هو فعل يتكرر ويتجدد إلى ما لا نهاية؛ هكذا تحدث الاحتفالي، وما يميز هذا الفعل دائما، إضافة إلى صدقه ومصداقيته، أنه لا يقبل أن يلحقه القدم، أو أن يتخلف عن مسايرة الزمن في سرعته وإيقاعه، أو أن يمشي في غير وجهته، وهو بهذا فعل جديد ومجدد ومتجدد دائما، ولهذا الفعل الوجودي اسم بكل تأكيد، والذي هو فعل الحركة والتحرك، والذي له لدى الاحتفاليين معنى التمارين الرياضية، معتبرين أن الحياة، بكل أعمارها مجرد تمارين فقط، وأن أصدق وأجمل وأنبل كل التمارين هي تمارين العقل وتمارين النفس وتمارين الوجدان وتمارين الروح وتمارين الخيال، وبغير هذه التمارين اليومية تتحجر العقول، وتتكلس النفوس، وتفسد المياه الراكدة في نهر الحياة، وهذا الذي نسميه المسرح، ماذا يمكن أن يكون ـ في معناه الحقيقي ـ سوى أنه (تمارين على الحياة).

إننا في هذا المسرح الاحتفالي الحي، نعيد نفس الحركات الموجودة في الواقع، ليس تقليدا له، ولكن تحديا لوقائعه، وليس حبا في المظاهر والظواهر الكائنة في هذا الواقع، ولكن حبا في الممكن، وحبا في المستحيل، وعشقا في المتخيل، وفي هذا المسرح نتمرن من أجل أن ننمي أجسادنا، ومن أجل أن نحرر أرواحنا، ومن أجل أن نعرف أنفسنا بشكل أصدق، ومن أجل اكتشاف الطاقات الإيجابية في داخلنا، ومن أجل أن نكون إنسانيين بشكل حقيقي، ومن أجل أن نكون مدنيين في المدن الجديدة، ومن أجل أن نتفاهم، وأن نتواصل بلغات المسرح الحية، وأن يتم كل ذلك بشكل أشمل وأكمل، ويبقى أن الأصل في هذا المسرح أيضا، هو أنه احتفال الحياة واحتفال الأحياء، وهذا الاحتفال هو (تمرين على الفرح، والفرح تمرين على السعادة الممكنة).

                     كل إبداع تجريب وليس كل تجريب إبداع

نعم، هكذا قال ويقول الاحتفالي دائما (كل ابداع تجريب، وليس كل تجريب إبداع بالضرورة)، وقد يكون مجرد رهان خاسر، وقد يكون مجرد مخاطرة، وقد تكون هذه المخاطرة ناجحة أحيانا، كما قد تكون فاشلة في أغلب الحالات، والإبداع ليس هو التجريب ولكن هو ما بعد فعل التجريب الناجح، وما أكثر عمليات التجريب الفاشلة، والتي قد تسبق الإبداع الحق.

ولهذا فقد جاز لنا أن نقول، بأن من لا يملك فرضيات نظرية هل يمكن أن يكون تجريبيا؟ وبأي معنى هو تجريبي؟

ومن لا يتوفر على نظرية فكرية كاملة ومتكاملة ومحكمة ومتناسقة ومتناغمة، كيف يمكن أن يصبح تجريبيا في فكره وفي فنه وفي علمه وفي إبداعه؟

ومن لا يبعث في مسرحيته رسائل فكرية واضحة، ومن يكتفي بأن يعطينا الأضواء والظلال والأشكال والأشياء والأزياء والحركات الرياضية وحدها، فإنه لا يمكن أن يكون تجريبيا بشكل حقيقي، وقد يكون عرضه عرض أزياء فقط، أو يكون تلاعبا بالأضواء في قاعة كباريه،

وقد يعتقد البعض بأن التجريب موجود في المختلف وحده، وفي الغامض دون غيره، وفي اللامفهوم وفي اللامعنى أيضا، وهذا هو ما لا يمكن أن يستقيم مع المنطق، ولهذا يكون من حقنا أن نتساءل :

ــ هل التجريب في المسرح هو اللامسرح، أو هو الطريق إلى اللامسرح؟

ــ وهل التجريب في الشعر هو اللاشعر، وذلك في تاريخ الشعر وتاريخ الشعراء؟

ــ وهل التجريب في الفن، والذي هو أساسا جمال وجمالية، هو القبح الذي يمكن ان يكون اسمه الحقيقي هو اللافن؟

ــ وهل التخلي عن القواعد الأساسية والحيوية في المسرح، يمكن أن يكون أن يؤدي إلى وجود مسرح آخر؟

ــ وهل هناك فعلا مسرح آخر، موجود أو ممكن الوجود، في تاريخ هذا المسرح، أم أن الأمر يتعلق بمسرح واحد اوحد، وأن هذا المسرح الواحد الأوحد يتعدد في التجارب المتعددة، ويتجدد في التجاذب المتجددة، ويحيا في التجارب المسرحية الحية ويموت في التجارب المسرحية الميتة؟

ـ ومن يجهل أساسيات المسرح، ومن لا يعرف لغات المسرح، وأبجديات المسرح، هل يمكن أن يكون مجددا ومجربا في المسرح؟

بالتأكيد لا يمكن.. ومن حق الفنان المسرحي أن يحلم، ولكن ليس من حقه أن يتوهم النبوغ والعبقرية في الأشياء وفي الأفكار وفي التصورات العادية جدا.

ــ وهل يكفي تقديم مسرحية بلا نص أو بلا لغة أو بلا ازياء أو بلا ديكور، أو بممثل واحد فقط، لكي يكون هذا الفعل فعلا تجريبيا في المسرح؟

ــ وهذا الاحتفالي الذي يسكننا، يؤمن بفعل التجريب، خصوصا عندما يكون هذا التجريب بحثا، ويكون اجتهادا، ويكون تطويرا، ويكون تثويرا للمسرح، وليس قفزا بهلوانيا على ثوابته الأساسية، أو أن يكون مجرد بهلوانيات ومجرد صبيانيات ومجرد خربشات، ولا شيء أكثر من ذلك

ــ هو مسرح ينسب نفسه ـ وبغير وجه حق ـ  إلى التجريب، ويخترل فعل هذا التجريب إلى الرفض، والذي قد يصل أحيانا إلى حد الفوضى وإلى حد العدمية، ولكن، هل فعل هذا الرفض، وفي حد ذاته، وبدون بديل فكري وجمالي وتقني وأخلاقي، هو هو فعلا تجريب، أم هو تخريب؟

ــ وهل التمرد على الكائن، في بحثه عن الممكن، وبشكل فوضوي وعشوائي، هل هو حقا تجريب؟

ــ وهل قتل الكاتب المسرحي، كما يزعم كثير من المسرحيين، أو نفيه، أو تشويه نصه، بالإعداد أو بالاقتباس أو بالتقطيع أو باستعمال المقص، هو تجريب؟

ــ وهل تقديم المسرح الصامت أو المسرح الراقص أو المسرح الغنائي أو المسرح الهجين المطعم بالمشاعد السينمائية على أنه المسرح، هو فعلا تجريب مسرحي، أم إنه خلط بين الأجناس الأدبية والفنية؟

ــ وهل التيه الفكري والفوضى الجمالية والأخلاقية والفقر في الموضوع والمضمون يمكن أن يكون تجريبا؟

ــ وهل الغموض العقيم تجريب؟

ولقد تأسست الحركة التجريبية في أوربا باعتبارها نظام حياة ونظام وجود ونظام تفكير ونظام إبداع، وكانت بذلك دعوات متجددة لأكثر من نظام وجود في الوجود، وفي العمق الفكري والفلسفي لهذه الحركات التجريبية نجد أنها كانت مختلفة ومخالفة، وكانت رفضا للبرجوازية، وكانت رفضا لمسرحها الواقعي والطببعي، ومسرحنا نحن، في عالمنا العربي، المسكون بالتبعية وبالتخلف، أين الرفض فيه؟ وماذا يمكن أن يرفض؟ شكلا معينا من هذا المسرح أم المسرح المسرحي ككل؟

هو مسرح يقدم نفسه على أنه مسرح جديد ضد مسرح قديم، وأين

 الجديد وأين القديم في المسرح العربي؟ وأين يقف يقف حد القديم وأين يبدأ حد الجديد؟

وكما نعلم جميعا فهو مسرح يقدم على نفس المسارح التقليدية، بنفس الأداء المسرحي التقليدي، وبنفس التلقي المسرحي التقليدي، وكيف يمكن أن يكون جديدا ومجددا؟

ومسرح يتبنى نفس النظام التقليدي في العرض والاستعراض وفي التلقين، هل يمكن أن نضعه في خانة المسرح التجريبي، وذلك إلى جانب كبار رواد المسرح التجريبي في العالم؟

ومسرح عربي، الثابت فيه هو التكرار والاجترار وهو الببغائية، ولا يخرج قيد شبر عن ثوابت المسرح التقليدي، أين التجريب فيه؟

ومسرح لا احتفالية فيه، وبلا مناخ احتفالي فيه، وبلا أجواء عيدية فيه،  وبلا مشاركة وجدانية فيه، وبلا اقتسام للحالة المسرحية العامة، ماذا يمكن أن نقول عنه؟ وبأي الأسماء يمكن أن نسميه؟

ولكل من رماه مصيره إلى هذا الفن المركب الذي يسمى المسرح نقول له، حاول أن تعرف نفسك في هذا المسرح، وأن تعرف علوم وفنون وآداب وأخلاقيات هذا المسرح، حتى لا تعيش جاهلا وتموت جاهلا، وتحشر يوم القيامة مع الجاهلين.

إن مسرحا بصريا، يخاطب العين وحدها، ولا يخاطب القلب، ولا يخاطب العقل، ولا يخاطب الوجدان، ولا يخاطب الخيال، أين موقعه في خرائط التجريب؟

ومسرح بصري به أشكال وألوان و أضواء و ظلال ولكن ليس له أفكار، وليس له معاني. ولا يحرص على التفكير أين التجريب فيه؟

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!