في نقد أوهام العالم الافتراضي: بين وهم المكانة ووهم المقاومة ووهم القطيعة
محمد امباركي
تتعدد الانتقادات الموجّهة للعالم الافتراضي، باعتباره بات يشكّل بديلًا عن العالم الحقيقي، بل وأضحى يفرض حضوره بشكل جنوني، يتّجه نحو هيمنة المجتمع الشبكي وتلاشي الروابط الاجتماعية، والتواصل المباشر، ودفء التفاعلات البشرية، ما يفضي إلى فقدانها للمعنى والدلالة.
وفي هذا السياق، تصاعدت أصوات نقدية في مختلف حقول المعرفة والمجتمع، تدعو إلى الحذر من طغيان الزمن الافتراضي وتقلّص دائرة الزمن الاجتماعي، في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك الجماهيري، بوصفها أحد مرتكزات المدّ النيوليبرالي المتوحش، وصعود الفردانية “المُسلعنة”، على نحو قد يؤدي إلى اغتراب جماعي، وإنتاج ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”عالم الأحاسيس العابرة” و”الاستعراض المفرط للذات” عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بحثًا عن موارد رمزية تمنح الذات تثمينا وقيمة، في وقتٍ تفتقر فيه هذه الذات إلى مقومات الاعتراف والعيش الكريم في الواقع المادي المحسوس، وتعاني من خصاص سوسيونفسي مركّب، فتلجأ إلى آليات “غير مكلفة” و”سائلة” لمقاومة هذا الواقع.
إنه وهم المكانة، ووهم المقاومة!
ولا شكّ أن عنوان الكتاب الذي ترجمه الناقد الأدبي سعيد بنكراد “أنا أُسَلْفِي، إذن أنا موجود: تحوّلات الذات في العصر الافتراضي”، لمؤلفته إلزا غودار، قد وُفّق في التعبير عن هذا التحوّل العميق الذي يعصف بالمجتمع البشري؛ تحوّلٌ بلغ حدًّا دفع ببعض المفكرين إلى إطلاق حملات مناهضة لـ”غوغل”، للحد من جبروته التجسّسي، تحت مسمّى: “اللاغوغلة” (Anti-Googlisme).
وأمام هذه الوقائع التي تُشير إلى التوسّع السريع للاستعمالات الاجتماعية المتعددة للرقمنة والتواصل الافتراضي، يُطرح السؤال: هل من المعقول الدعوة إلى التحرر من إكراهات هذا العالم، عبر القطيعة معه، والعودة إلى الأصول وآليات العمران البشري التقليدي؟
لا شك أن دعوة كهذه أقرب إلى اليوتوبيا، أو إلى “ماضوية” لا تختلف كثيرًا عن ذهنية مناهضة الحداثة و”التكفير” بمنجزاتها الفلسفية والعلمية والإنسانية. إنه وهم القطيعة، الذي لا يختلف في جوهره عن وهم المكانة ووهم المقاومة!
في رأيي المتواضع، ومن منطلق تمثّل هذا العالم الافتراضي بوصفه جزءًا من إبداعات العقل البشري، بل ووفقًا لتعبير “توماس كوهن” جزءًا من بنية الثورات العلمية، فإن هذا العالم، بمكوناته وتفاعلاته، يظل براديغمًا مركزيًا في فهم وتدبير الحياة البشرية المعاصرة عمومًا، والمعيش الافتراضي خصوصًا. أليس هناك اليوم حديث عن ثورة افتراضية؟!
لذلك، يبقى السؤال الجوهري هو: كيف يمكن أنسنة هذا العالم الافتراضي، ودمقرطته، وتحويله إلى مورد للتعبئة الجماعية المناهضة للمدّ النيوليبرالي المتوحش، من أجل عولمة بديلة أكثر إنسانية، يتجسّد فيها الاعتراف، ويُستعاد فيها الشعور الجماعي الواقعي بالكرامة البشرية؟
من الممكن أن يُشكّل تحقق هذا الاعتراف الاجتماعي مدخلًا لتحول العالم الافتراضي إلى جزء طبيعي من الزمن الاجتماعي الواقعي، طالما أن هذا الأخير يوفّر مرتكزات العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والحريات الفردية والجماعية.
