“كونشرتو دي أرانخويث” تهويدة لطفل لم يولد

“كونشرتو دي أرانخويث” تهويدة لطفل لم يولد

نضال آل رشي

“الموسيقى هي ما يُقال عندما تفشل الكلمات”.  هانس أندرسن

     في مساءٍ خريفي هادئ من عام 1939، في 159 شارع سان جاك في العاصمة الفرنسية باريس، وفي إحدى زوايا غرفةٍ صغيرة، وضع رجُلٌ إسبانيٌّ أعمى حُزنهُ على البيانو وتركهُ ليتنفّس قليلاً. لم يكن يُفتّش عن لحن، بل عن قلبٍ توقّف عن الخفقان. ذلك الرجل كان خواكين رودريغو. وتلك اللحظة، كانت لحظة ولادة واحدة من أعظم المقطوعات الموسيقيّة التي عرفها القرن العشرين “كونشرتو دي أرانخويث” (Concierto de Aranjuez).

 (الحركة الأولى) – ظلامٌ يُنبتُ نوراً

     وُلد خواكين رودريغو في مدينة ساكونتو عام 1901، وفي سن الثالثة اختفى النور من عينيه إلى الأبد بسبب التهاب سحائي. لم يرَ البحر ولا الأشجار ولا وجوه الناس. لكنّهُ سمع كُلَّ شيء، سمعهُ أفضل من الجميع، فكان لهُ بصراً آخر.

تعلّم العزف على البيانو والكمان، دون أن يقرأ النوتة الموسيقية. لم يستخدم طريقة “بريل”(نظام كتابة لمُساعدة المكفوفين على القراءة والكتابة)، بل ابتكر نظاماً خاصّاً يُدوّن به مؤلّفاته اعتماداً على ذاكرةٍ سمعيّةٍ خارقة. وفي باريس، درس على يد “بول دوكا” واكتشف هُناك أنَّ ما يسكُنُهُ لم يكن مُجرّد موهبة، بل لغةً من نوعٍ آخر.

وفي عام 1933، تزوّج من فيكتوريا كامهي، عازفة بيانو من أصول تركيّة. فصارت شريكته في الحياة والموسيقى. امرأة رافقت كُلَّ ما شعر به وأمٌّ لطفلٍ توقف قلبُهُ قبل أن تحمِلهُ بين ذراعيها.

(الحركة الثانية) – أداجيو – أغنية لطفل لم يُولد

     لم تكن “كونشرتو دي أرانخويث” تكريماً لقصر ملكيٍّ في ضواحي مدريد، كما قد يوحي العنوان. بل كانت مرثيّةً شخصيّةً حزينةً وهادئة، كتبها رودريغو بعد أن فقد وزوجته جنينهما الأوّل، خلال أشهر الحمل الأخيرة.

في الحركة الثانية، يدخل الغيتار بلحنٍ يتردّدُ كأنّه أنينٌ داخلي، يرافقهُ إيقاعٌ ثابت يشبهُ دقّات قلبٍ بطيئة ومنتظمة، صوت خافت ينبض في الخلفيّة، لا يعلو ولا يختفي. صوتٌ قالت عنه زوجتهُ فيكتوريا لاحقاً، إنّ هذا الإيقاع لم يكن مُجرّد ترتيبٍ موسيقي، بل محاولةً لالتقاط نبض الحياة الذي اختفى من رحمها. النبض الذي اعتاد خواكين سماعهُ عند زيارتهما للطبيب.

واحدة من السمات اللافتة في هذه الحركة، هو ذلك التبادل بين صوت الغيتار المُنفرد وطبقات الأوركسترا، فيما يشبهُ حواراً داخليّاً بين الذات والقدر. الغيتار يطرح السؤال، والأوركسترا تحيطُه بالحزن لتحتويه.

فيما قال بعض النقّاد لاحقاً بأنّ هذا الجُزء تحديداً ليس مُجرّد مرثيّةٍ لطفل، بل اعترافٌ خفيّ بألم العالم كُلهِ، في لحظةٍ لا يصلحُ فيها الكلام. ربّما لهذا السبب، أصبحت هذه الحركة بالذّات من أكثر الأجزاء استخداماً في الأفلام والاقتباسات الموسيقيّة، والأكثر استحضاراً على المسارح العالميّة، لأنّها تُمسك بجوهرٍ إنسانيٍّ عميق “الخسارة التي لم نعرف كيف نحزنُ لها كما يجب”.

وبرأيي أنَّ ما يجعل هذه الحركة خالدة هو أنّها لا تستعطِفُك ولا تفرض عليك الحزن. بل تجلسُ قربك لتقول: “أنا أشعرُ بك”.

(التحويرة) –  مِن أرانخويث إلى صخرة الروشة

     لم تبق الحركة الثانية من الكونشرتو حِكراً على المسارح الكلاسيكيّة في أوروبا. فقد وجدت طريقها إلى الشرق. وفي عام 1984 استخدم الأخوين رحباني اللحن الرئيسي من هذه الحركة وجعلوا منهُ قالباً لحنيّاً لأغنيةٍ تحكي عن الحنين والانكسار.

لم يكن اللحنُ مُقتبساً فقط، بل مُعاداً إلى الحياة بصوت فيروز، بصوتٍ شرقيٍّ يعرف تماماً كيف يُمسك الحُزن من يده ويمشي به إلينا بكلِّ نُبل. ولأنَّ النغمة الأصليّة كُتبت بلغةٍ باكية، فإنّها انسجمت بانسيابيّة مع كلمات جوزيف حرب، الشاعر الذي يعرف (مثل خواكين رودريغو) كيف يُحوّل الفقد إلى غناء. فخرجت لنا أغنية:

لبيروت …

من قلبي سلامٌ لبيروت ….

 (الحركة الثالثة) – أن تؤلّف لآلةٍ لا تُتقن العزف عليها

     رغم شهرتها كواحدة من أعظم الأعمال التي كُتبت لآلة الغيتار الكلاسيكي، فإنّ رودريغو لم يكن يعزف الغيتار، ولا يعرفُ قواعد العزف عليه. فألّف “كونشرتو دي أرانخويث” بالكامل على آلة البيانو، بينما كان يسمع في مُخيّلتهِ صوت الغيتار، ومن ثمَّ يقارن ما يعزفهُ على البيانو بما يتصوّره في مُخيّلته. وبعد انتهائه من التأليف، استعان بعازف الغيتار الإسباني الشهير “ريغينو دي لا مازا” ليضمن أن يكون اللحن مُمكناً عزفه فعليّاً، وكان لهُ ذلك بالفعل.

 (الفيرماتا) – أن تقولَ بصوت مُنطفئ ” كُنت هُنا … وسأبقى ”

ليلٌ لا يؤنسُهُ سوى صوت الريح. جلس خواكين قرب البيانو، مدّ يديه على المفاتيح وكأنّهُما تتحسسان قلباً غائباً. جلس هُناك طويلاً، لا يعزف ولا يبكي، فقط يصغي، يُصغي إلى نبضٍ خافِتٍ يتكرّر في ذاكرته، مُنتظماً، ثم أبطأ، ثُمَّ أبطأ … ثُمَّ غاب. كان ذلك النبض هو كلُّ ما تبقّى من طِفله. ثُمَّ كمن يطلبُ الخلاص، عزف النغمة الأولى، ارتفعت بهدوء كأنّها دُعاء، وتحرك خلفها لحنٌ يشبه تنهيدة أُمّ، ثم دخل صوت الغيتار مثل طفلٍ يهمس خلف الباب: “كُنت هُنا … وسأبقى”

 (الكودا) – ما تبقّى

     في عام 1999، رحل خواكين رودريغو عن العالم، رحل خواكين رودريغو بصمتٍ يُشبه صمت موسيقاه، لا ضجيج، لا وداع صاخب، بل انحناءة أخيرة لرجلٍ ترك خلفهُ مقطوعة تُعزَف كلَّ يومٍ في مكانٍ ما من هذا الكوكب. مقطوعة لم تعد مُجرّد عمل موسيقي، بل مرثيّةً لمن فقدوا شيئاً لا يُعوّض، وصوتاً لمن لم يعرفوا كيف يعبّرون عن الحزن إلّا بالصمت.

رُبّما لم يكن رودريغو يعلم أنَّ مقطوعته ستعيش كُلَّ هذا. لكنّهُ من حيثُ لم يدرِ، كتب أعمق ما كُتب في الغياب. لم يكن يريدُنا أن نقول لهُ شيئاً، أرادنا فقط أن نسمَع.

وها نحنُ بعد عُقود، لا نزال نُنصت …

للاستماع للحركة الثانية من الكونشرتو اضغط هُنا

 هوامش وشروح مصطلحات

الكونشرتو: نوع من التأليف الموسيقي يُبرز آلة منفردة بمرافقة أوركسترا. يتكوّن عادةً من ثلاث حركات، ويُظهِر الحوار والتباين بين العازف الفردي والجماعة.

الحركة: قسم مُستقل داخل العمل الموسيقي الكامل (مثل الكونشرتو أو السوناتا). لِكُلِّ حركةٍ طابعها الزمني والعاطفي الخاص وغالباً ما تُوزّع على ثلاثة أو أربعة أقسام (سريع – بطيء – راقص – ختامي).

أداجيو: مُصطلح إيطالي يُستخدم للدلالة على الإيقاع البطيء، وغالِباً ما يُعبّر عن الحُزن أو التأمُّل. الحركة الثانية في “كونشرتو دي أرانخويث” تُعد من أشهر الأمثلة على هذا الإيقاع.

التحويرة: مُصطلح موسيقي يُشير إلى الانتقال من مقام موسيقي إلى آخر ضمن نفس العمل، لإحداث تنويع شعوري أو تعبير درامي.

الفيرماتا: رمز موسيقي يدل على توقُّف مؤقّت أو مُمتد في الأداء، غالباً في نهاية جُملة موسيقيّة. تُستخدم للتعبير عن التأمُّل أو الثبات العاطفي، وتضفي طابَعاً دراميّاً في الخِتام.

الكودا: كلمة إيطاليّة تعني “الذيل”، وتُستخدم في الموسيقى للإشارة إلى القسم الختامي من العمل، حيثُ يُقدَّم تلخيص أو تأكيد للّحن بطريقة مُميّزة. تُعد بمثابة نهاية مُركّزة للمقطوعة.

مُلاحظة: استخدام الأخوين رحباني لهذا اللحن لم يتم عبر قنواتٍ رسميّة أو بإذن مُباشر مِن المؤلِّف.  

Visited 2 times, 2 visit(s) today
شارك هذا الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!