لعنة بنبركة وثمن السر… علاقة الدليمي بناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب
عبد الرحيم التوراني
لم تكن حادثة اختفاء واغتيال المهدي بنبركة في باريس عام 1965 مجرد جريمة سياسية عابرة. لقد كانت فصلاً افتتاحيًا لـ “لعنة” سريّة طاردت كل من تورط في السر. كان الثمن الوحيد لحفظ ذلك السر هو الموت، وقبل الموت، كان الهروب إلى الجنون واللامبالاة المطلقة.
منذ ارتكاب الجريمة المدوية، لم يستطع أي واحد من الجناة والقتلة العيش بهدوء وتذوق النوم الهادئ. لقد ظل شبح بنبركة يطارد كل واحد منهم ويقض مضاجعهم، لذلك كان إدمان الكحول والدوخة هما الملاذ الوحيد للهرب مما ابتُلوا به من لعنة قاتلة. كان هذا الهروب إلى الكأس هو السمة الأبرز لحياة العقلين المدبرين، محمد أوفقير وأحمد الدليمي.
محمد أوفقير، الجنرال الدموي واليد اليمنى للملك، والعقل المدبر لعملية باريس، عُرف عنه أنه كان يكاد لا يصحو من سكر. كان يقضي أوقاتًا طويلة في مشرب تملكه سيدة فرنسية بضواحي مدينة القنيطرة، يستهلك روحه في الكحول محاولاً إغراق صورة بنبركة التي تقض مضجعه بغير هوادة.
أما شريكه أحمد الدليمي، الذي ورث القوة بعد سقوط أوفقير، فكان هروبه أكثر قسوة وارتباطًا بالطرب. حيث عُرف عن الدليمي حبه الشديد للفن الشعبي، فكان مجلسه بمدينة أكادير سهرات مستمرة، يستجلب إليها الفنانين للترويح عنه، من بينهم الثنائي الفكاهي بزيز وباز (أحمد السنوسي وحسين بنياز)، وعازف العود الحاج يونس، ونعيمة سميح. ورغم أنه دندن ببعض كلمات أغاني ناس الغيوان الاحتجاجية، إلا أن قلب الجنرال مال أكثر لأغاني مجموعة جيل جيلالة، وإلى رفيقتهم سكينة الصفدي عضو هذه الفرقة الغنائية الرائدة.
سهرات أخرى للجنرال الدليمي كانت تُقام في فيرمة استولى عليها خارج القانون، حيث بلغت قسوته ذروتها، فقد ارتكب جريمته الشخصية بدفن مالكها الفرنسي المقتول في بهو بيت المزرعة. وفوق مدفن القتيل، بنى مصطبة تحولت إلى خشبة مسرح لجبروت الدم، كان يقف عليها أجواق المغنين والشيخات…
أحيانا، وفي ذروة السكر والجنون، كان الجنرال يرقص مع الشيخات فوق المصطبة – القبر، محوّلاً العنف إلى احتفال صاخب، في مشهد سوريالي يمزج بين نشوة السلطة وقسوة القتل.
هناك أيضاً مصادفة درامية عجيبة تربط بين عالم القتل والفن، فزوجة نجم مجموعة جيل جيلالة، الفنان محمد الدرهم، السيدة بشرى الشنا، تجمعها رابطة العمومة مع مدام فاطمة الشنا زوجة الجنرال الدموي محمد أوفقير. كأن القدر شاء أن ينسج خيوطًا خفية تربط عائلات الجلادين بموسيقى الهروب التي يرددها الجلادون أنفسهم.
لن يطول الهروب، إذ لم يفلت أحد من الحساب الأخير للعنة بنبركة…
أوفقير سقط قتيلاً بزخات من الرصاص في 1972 (بدل مزاعم انتحار)، بعد فشل الانقلاب العسكري. ولحق به صاحبه الدليمي في 1983، بمصرع غامض في “حادث سير مدبر” بمدينة مراكش… نهايتان مأساويتان لم تفلتا من بصمات العنف السياسي.
كما طالت اللعنة جميع المتورطين الأصغر، جميع المساعدين قتلوا في حوادث مدبرة، والجناة الفرنسيون الأربعة أُعدموا في زنازنهم بالرباط، بعد أن استُخدموا وكوفئوا ثم صُفّوا.
لقد دفعت كل هذه الشخصيات ثمناً باهظًا لحفظ السر، تاركين وراءهم تاريخاً دراميًا اختلط بدماء الضحايا، وبأنغام وأصوات العيطة وأغنيات جيل جيلالة الصارخة التي ما زالت تُسمع.
في زمن كان فيه الحديث عن العنف السياسي انتحارًا، كان الفن هو الشاهد الوحيد القادر على اختراق حاجز الرعب.
***
كنتُ غيوانياً، ولم أتحمس كثيراً لمجموعة جيل جيلالة الناشئة. لكن لما ظهرت أغنيتهم “الأيام تنادي”، أحببتها واقتنيت أسطوانتها ذات الـ 45 لفة قبل انتشار الكاسيت. في تلك الأغنية، كان الرمز يكسر حاجز الصمت.
في ذلك الزمن.. شرح لي صديقي الأديب مصطفى المسناوي ما خلف الكلمات الموجعة:
واللي خدا الطعنة بسيف وافي / على فراق لحباب روحو عوالة البكا دارو منو دوا يشافي / واش زاد البكا اللي مات وسالا وإدا بكيت أنا على سلافي / غدا العين تبياض وتدير جلالة… را أيام الظلم تفوت وناسها يغيبو…
أكد لي المسناوي، أن هذه الأغنية تتحدث بمرارة مُشفرة عن المعتقلين العسكريين المتورطين في الانقلابين المتتاليين. حينها، لم يكن اسم معتقل تازمامارت قد عُرِف وفُضِح، وكانت هذه الأغاني بمثابة صوت الحقيقة الوحيد المتاح.
كذلك، سيشرح لي المسناوي أغنية ناس الغيوان “يوم ملقاك”، مؤكداً أنها رثاء مُشفر للمهدي بنبركة نفسه.
كلمات الأغنية التي كتبها مولاي عبد العزيز الطاهري كانت تستحضر غيابًا أبديًا:
آه يا وين. يا وين.. / غبتي مع غروب الشمس / هي اليوم شرقات وفين أنوارك أنت…
هذه الأغنية هي التي سيسمي الطاهري ديوانه لاحقًا باسم مقطعها، (آه يا وين)، والذي نشرته له وزارة الثقافة في عهد الممثلة ثريا جبران.
إنه زمن توسعت فيه شبكة الأغاني المرموزة. غير أنه قبل أيام توصلت من الصديق ابراهيم برابط لأغنية “أمانة” لمجموعة “لمشاهب”. والتعليق الذي وصلني مع الرابط أشار إلى أن “الأغنية كُتبت سراً بواسطة محمد باطما عام 1973، وهو من فرض على الفرقة غناءها”.
تبدأ الأغنية بموال لا يحتمل الخطأ في تأويله السياسي المأساوي:
بين الكديات كان الميعاد / يستنى الليل و قدر الله.. وسط الواد آ بابا / حّسِّينا بالخديعة.. وما منَّا هرَّاب آبابا / وتم كانت لفجيعة…
هذه الكلمات: “وسط الواد آ بابا / حسِّينا بالخديعة” لم تكن مجرد شعر أو نظم.. كانت صرخة مُشفّرة تؤرخ لزمن الخيانة والموت المفاجئ الذي طال بنبركة ورفاقه.
في النهاية، أثبتت لعنة بنبركة نفسها: الجلادون دفعوا حياتهم ثمناً للسر، والمجتمع دفع ندمه وغضبه في أغاني سُمح لها بالمرور. أغاني تحولت إلى أرشيف شعبي يحفظ حقيقة “الأيام تنادي”، و”يوم ملقاك”، و”أمانة” المُشفرة.
السر دُفن مع القتلة، لكن اللحن بقي ليروي الحقيقة.
كيف تم الاغتيال؟
بعد ستة عقود من الصمت والألغاز التي لفت قضية اختطاف المعارض اليساري البارز المهدي بنبركة عام 1965 في باريس، يُؤكد التاريخ قاعدة واحدة، إنه لا توجد “جريمة كاملة”. فلا بد للحقائق من أن تتسرب وتنقض ستار الكتمان، وهذا تحديدًا ما وعدنا به التحقيق الصحفي الجديد.
الصحفيان المرموقان ستيفن سميث ورونين بيرغمان، اختارا عنوان “قضية بن بركة: نهاية الأسرار” لعملهما الضخم (576 صفحة، عن دار “غراسيه”)، الذي يصدر في 29 أكتوبر 2025، مُتزامناً مع ذكرى اختطاف المهدي بنبركة. مع التركيز على الإجابة عن سؤال: كيف تم الاغتيال؟
فبعد كل هذه السنوات، يبدو أن الأسرار التي تسبب حِفظُها في “لعنة” طالت كل من تورط في الجريمة (من أوفقير والدليمي حتى الجناة الفرنسيين)، على وشك أن تُكشف بالكامل.
