محمد مخلص “الطاهر” السوسي.. رحيل بوصلة الوفاء

محمد مخلص “الطاهر” السوسي.. رحيل بوصلة الوفاء

 حكاية عبور من أزقة العكاري إلى قسوة المنفى

 ابراهيم أوشلح  

                     في الخامس من نوفمبر عام 2025، رحل الطاهر عن دنيانا… لكن حكايته ولدت قبل سبعة عقود في أزقة الرباط الصاخبة.

كان اسمه محمد مخلص، لكن الجميع عرفوه بلقب “الطاهر”.. نشأ بين جدران حي العكاري القديم، حيث تتشابك ظلال البيوت مع حكايات المقاومة الموشومة على الجدران.

في ربيعه الخامس عشر، عام 1954، لم يكن يفكر في المدارس، لذلك لم ينحدر من مدرسة أيديولوجية، بل كان يترقب حركة المحتلين.

كانت نقطة التحول مع رفيقه بولهرود.. عاملان بسيطان في كراج متواضع في حي العكاري الرباطي. لم تكن ثورتهما نظرية، بل قسمًا غليظا تم أداؤه على كتاب الله، المصحف.. لا فوق منبر، بل بين زيوت المحركات وغبار المرأب.. قسمٌ على تكريس الحياة لتحرير وطن أنهكه القيد الاستعماري.

 لم يكن “الطاهر” السوسي ورفيقه مقاتلين بالفطرة، بل كانا مجرد عَاملين دفعتهما الحقيقة العارية للكفاح نحو خوض مخاطر ملموسة. افتقرت بداياتهما إلى الخبرة، وكانت خرقاء ككل ميلاد عفوي، كشأن تلك المحاولة السريعة لاغتيال شرطي قرب سينما فوكس.

عملية لم تنجح في تحقيق هدفها، لكنها نجحت في إرسال صدمة هزّت المحتلين وتصدرت عناوين الصحف.

حينها، أدرك رب عملهما – الذي كان يراقب حركاتهما في المرآب من زاوية عين خبير – أن هذين الشابين ليسا مجرد عمال ميكانيك يلطخون أيديهم بزيوت التشحيم وأوساخ الغبار، بل هما غضبٌ حيّ وعزيمة صلبة تتجسد في حي العكاري.. وعلى الفور، ودون تردد، تم سحبهما من أضواء المرآب الصريحة إلى خفاء الشبكة السرية للمقاومة.

 

في عتمة غابة المعمورة الكثيفة، بعيدًا عن ضجيج المرآب، وُلد المقاتل السري. هناك، بين الأشجار والظلال، تعلم الطاهر كيف يُحكِم قبضته على مسدسه، ليتحول من مجرد عامل إلى مقاتل في الظل.

كان عنف الاحتلال وضغط عيون الاستعمارالتي تتربص في كل زقاق بالرباط كافيا لكسر حاجز الخوف، وإجباره على خيار وحيد، الفعل المباشر بدلا من الخضوع الصامت.

شارك الطاهر في عمليات طبعت المدينة بدم المقاومة، بعضها كان مأساويا، والبعض الآخر كان يهدف إلى تعطيل الشرايين الحيوية لقوات الاحتلال، مثل حرق سيارات، نصب الكمائن، وأعمال تخريب دقيقة… كل زاوية في الرباط أصبحت مسرحًا لتمرد هذا الشاب الكَتُوم.

لم تقتصر عمليات الطاهر على المضايقات، بل وصلت إلى القلب النابض للقيادة الفرنسية. كان الطاهر ورفيقه بولهرود هما العقل المدبر والذراع المنفذة لعملية تصفية العسكري ابن الجنرال ريموند دوفال..  Raymon Duval.. لما كان الضابط الابن يغادر ماخورا في المدينة القديمة بالرباط، تمت تصفيته الانتقامية، في مشهد يمزج بين دنس المحتل وبسالة المقاوم.

لم تكن العملية ضد الابن شخصية، بل كانت ضد رمز القمع، فوالده، الجنرال دوفال، كان يتولى منصب القائد العام للقوات الفرنسية في المغرب، وكانت يداه ملطختان بدماء جرائم الحرب التي ارتكبها أثناء قمعه لانتفاضة سطيف في الجزائر في ماي 1945. لقد كانت تلك العملية ثأرا مغربيا جزائريا مشتركا.

ومن سخرية القدر، أن الجنرال دوفال نفسه لقي حتفه لاحقا في عملية إسقاط طائرته خلال انتفاضة وادزم المجيدة. لقد كان الطاهر وبولهرود جزءًا من سلسلة طويلة من الأفعال التي استهدفت قادة الاحتلال، مؤكدين أن المقاومة تصل إلى أعلى الرؤوس.

لم تستمر نيران البدايات طويلا. حلّت المأساة عندما أُلقي القبض على رفيقه بولهرود وحُكم عليه، فكان ذلك جرحا عميقا في جسد المقاومة. أدرك الطاهر أن دوره في الرباط قد انتهى، كان عليه أن يختفي.

 وجد الطاهر ملاذه مؤقتًا عند رفاق السلاح، كالدكتور عبد الهادي مسواك، قبل أن يشد الرحال شمالًا نحو مدينة تطوان. هناك، كانت تنتظره جبهة جديدة: الالتحام بقوى التحرير الوطني التي كانت تعمل على وصل نضال المغرب بـثورة الجزائر الشقيقة. لقد بدأ الطاهر حينها طريقا طويلا من المنفى والكفاح السري العابر للحدود.

بعد بزوغ شمس الاستقلال، لم يجد الطاهر الاستقرار. مفارقة القدر قادته إلى العمل في قلب السلطة، فقد تم اختياره هو وبولهرود من طرف الدكتور عبد الكريم الخطيب لمهمة حساسة، حماية ولي العهد المولى الحسن (الملك الحسن الثاني لاحقا) في قصره. وكانا يتلقيان كلمة السر اليومية كل فجر من الملك محمد الخامس شخصيا.

مرّ الطاهر بفترة عمل كحارس شخصي، وخدم لفترة قصيرة كضابط صف، لكن هذه الواجهة اللامعة لم ترضِ جوعه الروحي ورغبته في الاتصال الحقيقي.

رغم عمله كحلقة وصل في مستودع إصلاح السيارات بقيادة الأركان للجيش الملكي، تحت إمرة الضابط أوفقير مباشرة، واكتسابه سلطة معنوية على باقي الضباط، إلا أن نداء الجذور كان أقوى. آثر الطاهر أن يغادر بلاط القصر والقيادة ليعود إلى نبض الشعب. هكذا، انضم إلى مرآب القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية (FAR) قرب محطة القامرةبالرباط، ليجد مكانا يمزج فيه بين الواجب الرسمي والولاء السري.

 لم يكن هذا الموقع في مرآب القيادة العامة مجرد مكان عمل، بل كان بالنسبة للطاهر نقطة استراتيجية شديدة الحساسية، ساحة لقاء بارعة بين العسكرية النافذة والعمل السري المضمر.

هناك، احتك بكبار الضباط الذين يحركون خيوط السلطة: الجنرال الشلواطي، والجنرال المريب أوفقير، والكولونيل الغامض بوفوس (رئيس المكتب الثاني). لكن الطاهر لم ينسَ قط القسم الغليظ الذي أداه داخل كراج.

عمل بـذكاء بالغ وحذر مطلق ليُحافظ على خيط ولائه العملياتي لشبكات المقاومة. وبمهارة وإخلاص، حرص على صيانة صلاته بالخلايا التي انحدر منها، والتي انتقلت إلى صفوف المعارضة الثورية. كان يمشي فوق حبل رفيع بين الواجب المفروض والعهد المقدس.

بلغ هذا التناقض ذروته المشتعلة في عام 1972. كشف “الطاهر” عن تورطه، وإن كان بشكل غير مباشر، في “انقلاب الطيران” الشهير. كان المسؤول عن الطاهر في التنظيم هو محمود بنونة، الذي زاره مرارا في الرباط لترتيب الاتصالات وتأمين التحركات.

لم يكن الطاهر مجرد مشاهد، لقد كان خيطا جوهريا في قلب العملية التي عرفت باسم “عملية بوراق إف 5″، رجل المعارضة الذي يعمل تحت أنف القيادة، شاهدا وشريكا في أخطر محاولة لقلب نظام الحسن الثاني، وهو يعلم أن ثمن هذا الولاء هو رأسه.

 لذلك، كانت حياة “الطاهر” السوسي بأكملها عبارة عن تأرجح دائم بين الشرعية الكاذبة والسرية المطلقة. كانت رقصة خطيرة مبنية على توازن دقيق، قوامه الاحتراس، التضامن، والكتمان.

بقي الطاهر قريبا من النجوم الثائرة للمقاومة، الحسين خضار، والفقيه البصري، والمرابط… الذين شكّلوا قيادة المعارضة الثورية ضد نظام الملك الحسن الثاني. وحافظ على هذه الروابط الروحية والعملية عبر مبعوثين سريين كانوا يقطعون الحدود، كخيوط حرير لا تنقطع في نسيج المؤامرة.

مع حلول عام 1974، ارتفعت حمى التوتر السياسي، وانبعث فحيح الخطر يهدد وجود “الطاهر”. أدرك أن عليه التضحية مجددا، ولكن هذه المرة كان الثمن هو مغادرة الوطن.

كان عبوره للحدود الجزائرية المغربية قرارا مصيريا، تم في ظروف بالغة الصعوبة، وكأنه يقتلع جذوره بنفسه. ترك الطاهر خلفه كل شيء، حاملا عهده فقط.

وعندما اكتشفه عسكري على الحدود، لم يتردد الطاهر لحظة، أشهر مسدسه، ببرود محارب يعي أن لا عودة ممكنة، حتى أمَّن تسلله ومروره القسري إلى داخل التراب الجزائري.

وجد الطاهر ملاذه الأول كلاجئ في الجزائر، قبل أن يستقر به المقام في ليبيا كعامل في شركة بناء. رجلٌ يعرف معنى الطين ومعنى الكدح. وهناك، أثبت الطاهر أن قدرته على القيادة لا تنفصل عن قناعاته، فتحوّل من قائد ميداني سري إلى مدير للخدمات اللوجستية.

أعاد بناء حياته في المنفى بمهارة وتنظيم صلبين، بعيدا عن ضوضاء المجد الزائف، ليؤكد أن الوفاء بالعهد لا يحتاج إلى أرض ولا إلى سيف، بل يحتاج إلى إرادة لا تنكسر.

 لم يُمحِ المنفى يوما إحساس “الطاهر” بالواقع القاسي. لم تكن حياته في الاغتراب مجرد صدى لبطولات الماضي، بل كانت تجسيدا لـكرامة العمل الملموس.

في طرابلس، كسب عيشه بشرف، وجنى رزقه بعرق جبينه. لكن الاختبار الأصعب كان في باريس، تلك المدينة التي تُغري بالضوء في البيانات السياحية، لكنها تُبقي المنفيين الحقيقيين في الظل البارد. هناك، اختبر الطاهر قسوة ملاجئ المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية OFPRA  (أوفبرا).

عمل في بيع الشطائر والسندويتشات بين محطتي la Gare du Nord et la Gare de l’Est (غار دو نور وغار دو ليست) الصاخبين، لكنه لم يعتبرها يوما إذلالاً

كان هذا النزول من ذروة النضال السري إلى قاع العمل المادي بالنسبة له ليس سقطة تروى، بل كان تثبيتا لمبدأ بأنَّ قيمة الإنسان كامنة في روحه لا في جيبه. لقد أدرك الطاهر السوسي أن ثمن الوفاء قد يُدفع أحيانا بـالعرق السخي لا بالدم وحده.

فبالنسبة للطاهر، إن العمل هو الكرامة الوحيدة الباقية. وفي النهاية، استطاع شراء شقة متواضعة في أميان (Amiens)، حيث قضى آخر أيامه بسلام، قبل أن يرحل في صمت، يوم الأربعاء 5  نوفمبر 2025.

 ما يجب أن يتسلل إلى ذاكرتكم وتستقر حقيقته في الوجدان هو أن “الطاهر” لم يكن يوما أسطورة مُنمَّقة أو بطلا من ورق. بل كان رجلا ذا قناعات صلبة كالفولاذ، صبورا وكتوما كأكثر الأسرار عمقًا…

كان يبتعد عن أي خلاف شخصي أو ضجيج عابر، لكنه كان يتحول إلى سيف حاد لا يُرد بمجرد أن يمسّ أحدهم سلامة تنظيمه أو كرامة رفاقه.

لم يكن يبحث عن الأضواء الزائفة، بل كان ينتظر فقط أن يُحترم العهد المقدس الذي قطعه على المصحف في ذلك المرآب القديم.

كان الطاهر رجلا يعرف بعمق أن البطولة الحقيقية ليست في اللحظة العابرة، بل هي أن تبقى وفيًَّا حين يهرب الجميع.

***

لا تُختزل حياة السي الطاهر في سجلات رسمية أو سرد طويل.. بل تُروى عبر صور أيقونية محفورة في ذاكرة الأوفياء:

– صورة الكراج القديم في الحي الشعبي، حيث أُجري القسم بين غبار المعدن وزيت الآلات، مُعلنا ميلاد روح المقاومة.

– صورة غابة المعمورة الكثيفة، حيث تدرب لأول مرة، تحت ستار الأشجار، وحيث تعلم كيف يُمسك بالمسدس ويُمسك بزمام مصيره.

– صورة محل السندويتشات الباريسي في المنفى القاسي، حيث تعلم أن يُدير حركة البيع والإقبال كما يُدير الوفاء بـوعده الأول، بجسارة وكرامة.

 هذه ليست مجرد مشاهد.. إنها وجوه وعبق وإيماءات تختزل حياة رجل عاش متخفياً، لكنه بقي إنسانيا حتى النخاع.

لقراءة مسار حياة الطاهر وفهم ممارسته النضالية، يجب أن نغوص في المزيج الفريد الذي صاغه: المأثرة البطولية والشجاعة الممزوجة بالعوز المادي والشقاء اليومي، والشجاعة الأخلاقية التي ترفض الاستسلام والانكسار أمام الحاجة المادية.. هذا الخليط المتناقض هو ما صقل شجاعته.

 ما الذي يكمن خلف ستار الحياة السرية؟

لم يكن بريقا، بل انضباطا كالحديد، صمتا كالقبر، انقطاعات قسرية عن الأهل والوطن، منفى باردا، وقبل كل شيء، ولاءات مُحكمة النسيج بُنيت بعناد في وجه الخوف.

في الختام، لا نحتاج إلى خطابات.. بل إلى همس نبرة الشعارات التي كانت تتردد في التجمعات المتواضعة، ويحرص الطاهر على حضورها:

 شعارات تلخص عهده من أجل الحرية، من أجل الكرامة..

لنعيش مرفوعي الرأس.. لنبقى أوفياء.. ذاكرة الغائبين.. شرف الأوفياء المؤمنين..

 لم تكن عيناه تلاحقان وهج المجد أو بريق الشهرة.. بل كانت كل آماله تتعلق بـقداسة العهد، أن يرى الوعد الذي قطعه في غبار ذلك الكراج الصغير قد أُنجِز بالكامل. كان يكتفي بالوفاء الصامت، مُنَزِّها نفسه عن ضوضاء الأبطال الزائفة.. 

لم يكن “الطاهر” مجرد فرد من كوكبة “أبطال قضوا بلا مجد”… بل كان هو المجد نفسه يتنفس ويمشي واثقًا على قدمي الثبات والوفاء. لم تكن البطولة لقبًا يُمنح له، بل كانت جوهر روحه الصامدة.

لقد ترك الطاهر إرثًا من الصدق والوفاء، يذكّرنا بأن البطولة الحقيقية تكمن في الاستمرارية والصمت.

وداعاً أيها الطاهر… يا رجل السرية والكتمان…

نحفظ وفاءك كبوصلة لا تضل، تشير دائمًا نحو قبلة الحقيقة والالتزام…

حياتك، كما عرفناها، تُظهر المعنى العميق للشجاعة الحقيقية.. ليست اللمعان العابر أو الضجيج الفارغ، بل هي الاستمرارية الثابتة في الوفاء للوعد حتى آخر نفس.

شارك هذا الموضوع

ابراهيم أوشلح

إبراهيم أوشلح مناضل ثوري، انتمى في السبعينيات إلى تنظيم يساري معارض للحسن الثاني، إلى جانب شخصيات مثل الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي. أصدر حديثا مذكراته تحت عنوان: "المغرب: التزام جيل"، عن دار النشر الفرنسية "لي تروا كولون"، وصدرت الترجمة العربية عن منشورات "توبقال" بالدار البيضاء، وفيها يروي أوشلح عنف سنوات الرصاص، وتصميم رفاقه آنذاك على الإطاحة بالنظام الملكي، والحزم الذي تعاملت به الحكومة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!