مفهوم الإدارة بين غازي القصيبي وبيتر دراكر
إبراهيم أبو عواد
غازي القُصَيْبي (1940 – 2010) أديب وسفير ووزير سُعودي. يُعتبَر أحدَ أبرزِ المُفكرين والقِياديين السُّعوديين الذينَ تَركوا بَصْمةً مُميَّزة في الفِكْرِ الإداريِّ العربيِّ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التَّنظيرِ والمُمارَسة، وَلَمْ يَكُنْ مُجرَّد كاتب أو شاعر، بَلْ كانَ إداريًّا ناجحًا تَوَلَّى مَناصب قِيادية عديدة في مَجالات مُختلفة، مِمَّا جَعَلَ رُؤْيَتَه في الإدارةِ مَزيجًا فريدًا مِنَ الفِكْرِ والتَّجْرِبة.
كانَ يَرى أنَّ الإدارةَ لَيْسَتْ عِلْمًا جامدًا أوْ مَجموعة مِنَ القوانين الصارمة، بَلْ هِيَ فَن يَقُوم على التعامل مع الإنسانِ قبل التعاملِ معَ الأرقامِ والأنظمة. والقائدُ الإداريُّ في نَظَرِه هُوَ مَنْ يَسْتطيع فَهْمَ دوافعِ الأفراد، وتَحفيزَهم، واستثمارَ قُدراتهم لِخِدمةِ الأهدافِ المُشترَكة. وَقَدْ عَرَّفَ الإدارةَ بأنَّها القُدرة على تَحريكِ الناسِ نَحْوَ هدفٍ مُحدَّد، مُؤكِّدًا على أنَّ الجانبِ الإنسانيِّ هُوَ جَوهر العملية الإدارية الناجحة.
رَكَّزَ على مَبدأ الكَفاءةِ بِوَصْفِه الأساس الذي تُبنَى عَلَيه الإدارة السليمة، فَهُوَ يَنْتقد البيروقراطيةَ وَالمَحْسوبية، ويَدْعو إلى تَمكينِ الكَفاءاتِ بِغَضِّ النظرِ عَن الانتماءاتِ أو المَصالحِ الشَّخصية.
وَمِنْ خِلال تَجْرِبته الطويلةِ في الوِزاراتِ والسَّفَاراتِ، شَدَّدَ على أنَّ المُدير الناجح هُوَ مَنْ يَخْتار الأكفأ لا الأقرب، لأنَّ العَدالة في التَّعْيين تَخْلُق بِيئةَ عَمَلٍ مُنتِجة ومُخلِصة.
وَآمَنَ بأنَّ القائدَ الإداريَّ الحقيقي يجب أنْ يَكُون قُدوةً في الالتزامِ والانضباطِ والأخلاق. فَهُوَ لا يَطلُب مِنْ مُوظَّفيه مَا لا يُطبِّقه على نَفْسِه. وَيَرى أنَّ القُدْوةَ هِيَ أبلغُ وَسيلةٍ للقِيادة. وَقَدْ كانَ مِثَالًا على ذلك في حياته العملية، حَيْثُ اشْتُهِرَ بانضباطِه وتَواضعِه وَقُرْبِه مِن مُوظَّفيه، مِمَّا أكْسَبَه احترامَ الجميع.
يَجْمَع مَفهومُ الإدارةِ عِندَه بَيْنَ الصَّرَامةِ في التَّنظيمِ والمُرونةِ في التَّفكير، فَهُوَ يَرفُض الجُمودَ الإداريَّ، وَيَدْعُو إلى فتحِ المَجالِ أمامَ المُبادَراتِ الفرديةِ والإبداعِ المُؤسَّسِي. والمُؤسَّسةُ الناجحةُ في رأيه، هِيَ التي تَجْمَع بَين التَّخطيطِ المُحكَمِ والقُدرةِ على التَّكَيُّفِ معَ المُتغيِّرات.
لَمْ تَغِب القِيَمُ الأخلاقيةُ عَنْ فِكْرِه الإداريِّ، فَقَدْ رَأى أنَّ النجاح الإداريَّ لا قِيمة له إذا جاءَ على حِسابِ القِيَمِ والمَبادئ. وكانَ يُؤَكِّد على أنَّ الأمانة والإخلاص في العمل هُما الرَّكيزتان الأسَاسِيَّتَان لأيَّة إدارة ناجحة، وأنَّ غِياب الأخلاق يُؤَدِّي إلى الفَسادِ الإداريِّ مَهما بَلَغَت الأنظمةُ مِنَ الدِّقَّة.
وَيُمكِن القَوْل إنَّ مَفهوم الإدارة عِنده هُوَ مَفهوم شامل يَجْمَع بَيْنَ العقلِ والإنسانِ، وبَيْنَ النِّظامِ والإبداعِ، وبَيْنَ الكَفاءةِ والأخلاقِ.
بيتر دراكر (1909- 2005) كاتب اقتصادي أمريكي مِنْ أصلِ نَمْساوي، يُعتبَر الأبَ الرُّوحي للإدارة. قَدَّمَ خِلال مسيرته الفِكرية الطويلة رُؤى ثَوْرية غَيَّرَتْ طريقةَ فهمِ المُؤسَّسات لِمَفهومِ القِيادةِ، والتنظيمِ، واتخاذِ القَرار. وأثرِ الإدارةِ في التَّنمية الاقتصادية والاجتماعية.
كانَ يَرى أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مُجرَّد مَجموعة مِنَ القواعدِ أو التِّقْنيات، بَلْ هِيَ فَن وعِلْم في آنٍ معًا. والإدارةُ في نظره، تَعتمد على مَهارةِ المُديرِ في فهمِ الناسِ وتَحفيزِهم، مِثْلما تَعتمد على القُدرةِ على التحليلِ والتخطيطِ والتنظيم. وَهِيَ عملية دِيناميكية تتفاعل فيها المَعرفة العِلْمِيَّة معَ الخِبْرَةِ الإنسانية. لذلك، فإنَّ المُدير الناجح لَيْسَ فقط مَنْ يَعرِف “ماذا يَفْعَل”، بَلْ أيضًا مَنْ يُدرِك “كيف” و”لماذا” يَفْعَل ذلك.
ويُؤَكِّد على أنَّ الإدارة لَيْسَتْ مَحصورةً في قِطاعِ الأعمال فقط، بَلْ أيضًا تَشْمَل جَميعَ مَجالاتِ النَّشَاطِ الإنسانيِّ المُنظَّم: المدارس، المُستشفيات، الجَمْعيات، وحتى المُؤسَّسات الحُكومية. فالإدارةُ هي الأداة التي تَجْعَل الناسَ قادرين على العملِ معًا لتحقيق هدف مُشترَك بِكَفاءةٍ وفَعَالِيَّة.
مِنْ أبرزِ أفكارِه أنَّه جَعَلَ الإنسانَ في قلبِ العملية الإدارية. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيه بعضُ النظريات الإدارية الكلاسيكية تُركِّز على الآلَةِ أو الإنتاجِ الماديِّ، جاءَ لِيُؤَكِّد على أنَّ الناسَ هُمْ أعظمُ مَوْرِدٍ تَمْتلكه أيَّة مُؤسَّسة. ورأى أنَّ مُهِمَّة الإدارة هي تَمْكين الإنسانِ مِنَ الأداءِ الأفضل، وَجَعْلُ نِقَاطِ قُوَّتِه مُثمِرة، وتقليلُ أثرِ نِقَاطِ ضَعْفِه.
وَهُوَ يَعْتقد أنَّ المُدير الناجح هُوَ الذي يَعرِف كيفَ يَستثمر طاقاتِ الأفراد، وَيُحوِّلها إلى إنجازات مَلْموسة. فالإدارةُ عِندَه لا تَتعلَّق بالسَّيطرةِ على الآخَرين، بَلْ بِتَوْجيههم، وتَحفيزِهم، وَتَوفيرِ البيئة التي تُتيح لَهُم الإبداعَ. ولهذا السبب، كانَ مِنْ أوائل مَنْ تَحَدَّثوا عَنْ مَفهوم “الإدارة بالتَّحفيز” و “القِيادة بالخِدْمة”، أي إنَّ القائدَ الحقيقي يَخدِم فَريقَه لا العَكْس.
وكانَ مِنْ أوائل مَنْ صاغَ مَفهومَ “الإدارة بالأهداف”، وَهُوَ مَبْدأ أصبحَ حَجَرَ الأساسِ في الفِكْرِ الإداريِّ الحديث. وَيَقُوم هَذا المَفهومُ على أنَّ النَّجَاح الإداريَّ لا يُقَاس بالأنشطة، بَلْ بالنتائج المُحَقَّقَة، فالمُديرُ الفَعَّال هُوَ الذي يَضَع أهدافًا واضحة، وقابلة للقِيَاس، ثُمَّ يَعْمل على تحقيقها مِنْ خِلالِ التعاون معَ فريقه.
رَغْمَ اختلافِ السِّياقِ الاجتماعيِّ والثَّقَافيِّ، إلا أنَّ بَيْنَ القُصَيْبي ودراكر جُسورًا فِكرية عميقة، فَكِلاهُما يَرى أنَّ الإدارة الحقيقية تبدأ مِنَ الإنسانِ، وتَنتهي بِه. وكِلاهُما رَفَضَ فِكْرةَ الإدارةِ السُّلْطوية، وَدَعَا إلى التَّمكينِ بَدَل السَّيطرة، والتَّحفيزِ بَدَل التَّهديد. لكنَّ القُصَيْبي رَكَّزَ على القِيَمِ والمَشاعرِ والضَّميرِ، بَيْنما دراكر رَكَّزَ على النِّظامِ والكَفاءةِ والمُؤشِّرات.
