منطق التحرير ومزالق الانفعال: قراءة في الشعبوية الترابية وسيمياء الغرور السياسي

منطق التحرير ومزالق الانفعال: قراءة في الشعبوية الترابية وسيمياء الغرور السياسي

مصطفى المنوزي

        هل يُعقَل أن يثير اليسار، الذي يقرر مصير الغير، ويتضامن مع الضحايا الآخرين دون ذاته، إشكاليات مجتمعية كبرى دون أن يمتلك أدوات التشخيص الموضوعي ولا قدرة التأطير الذاتي ولا هندسة البدائل الممكنة؟ إن هذا التناقض لم يعد مجرد خلل في الأداء السياسي، بل غدا علامة على أزمة أعمق: أزمة عجز الفاعل عن المواءمة بين النقد والمسؤولية، وبين إثارة الإشكاليات واستيعاب شروط إنتاجها. وهو مرض خطابي يعيد إنتاج نفسه داخل النقاش الوطني حول القضية الترابية.

فما إن بدأ الوطن يرسّخ ملامح الحكم الذاتي على الأرض، كخيار تاريخي عقلاني ومطابق لموازين الواقع، حتى برزت أصوات غير واضحة المرجعية تطالب بربط هذا المسار باسترجاع ما تُسمّيه “الصحراء الشرقية”. هذا الخطاب لا ينبع من قراءة جيواستراتيجية ولا من تحليل تاريخي متماسك، بل من فائض انفعالات قوموية تتغذى على الرغبة أكثر من تغذّيها على المعرفة. وهنا تبرز الشعبوية الترابية بوصفها توظيفًا للوجدان الوطني في اتجاه توسّعي رمزي لا سند له، حيث تتحول الجغرافيا إلى مادة تعبئة، لا إطارًا للعقلنة والتفاوض الفعّال. ويتقاطع هذا المنحى مع الشوفينية الشعوبية التي تدفع جزءًا من الفاعلين إلى استبدال الواقعية الاستراتيجية بثقافة التضخيم الهوياتي، وكأن مجرد إعلان الإرادة يكفي لتغيير خرائط التاريخ والجغرافيا.

في عمق هذا الخطاب تعمل سيميائية الأهواء: تحويل الرغبات الجماعية غير المنضبطة إلى “حتميات” تُلبس لبوس الوطنية، وإنتاج شعور زائف بالقوة يستعيض عن التخطيط بالهتاف، وعن التفكير بالمزايدة. فتضخم الأهواء هنا لا يعبر عن ثقة بالذات الوطنية، بل عن هشاشة تبحث عن تعويض رمزي لتجاوزات الواقع، فيتحول النقاش من “كيف نُحسن شروط الحكم الذاتي؟” إلى “كيف نوسع الخريطة؟”. وما يزيد الظاهرة تعقيدًا هو التعسّف في التفكير الزائد: ذلك النوع من التحليل المُفرِط الذي ينسج سيناريوهات لا تستند إلى معطيات، ويصنع “وهم الفهم”، ويقود إلى مسارات وهمية تُربك أفق الدولة وتشوّش أولويات المجتمع.

وفي هذا السياق، يصبح من الضروري مساءلة حدود مسؤولية الدولة في نقد ذاتها وافتحاص حكامتها السياسية والأمنية. فالدولة التي تعتمد منطق التحرير – في بعده الترابي والاستراتيجي – تدرك أن تعبئة المجتمع لا يمكن أن تقوم على النداء الخطابي وحده، بل تستلزم تأهيل الأجواء السياسية، وتقوية بنيات التواصل، وفتح قنوات استقبال متدرجة تُشرك المواطن في الفهم قبل الإنجاز. إن مأسسة النقد الذاتي ليست ترفًا إداريًا، بل شرطًا لحماية المشروع الوطني من الانحرافات الشعبوية، وضمان التحصين الداخلي عبر توضيح مسارات القرار، وتجديد مقاربات الأمن، وتصفية البيئة الحقوقية من الأعطاب التي تضعف الثقة وتعيق المشاركة الوازنة. فبدون هذا التمكين المؤسسي، يصبح الخطاب الوطني عرضة للاختطاف من قبل موجات الانفعال الهوياتي.

إن تضخيم خطاب “الصحراء الشرقية” ليس مجرد سوء تقدير، بل هو غرور سياسي غير منتج، ينازع السردية الوطنية الرصينة، ويستنزف طاقة المجتمع في معارك رمزية لا تخدم لا الحكم الذاتي ولا الأمن الترابي. والحاجة اليوم ليست إلى توسيع الخيال الجغرافي، بل إلى ترشيد الخيال السياسي: سردية وطنية متوازنة تستحضر التوقع العقلاني، تضبط الأهواء دون قمعها، تكبح الشوفينية دون إضعاف الاعتزاز الوطني، وتضع الشعبوية الترابية في حجمها الطبيعي باعتبارها انفعالًا لا رؤية. فالسياسة الرشيدة ليست فن المزايدة، بل فن بناء الممكن، واستباق المستقبل بمعرفة لا بغرور، وبحكمة لا بانفعال.

وإن الرهان في آخر التحليل معلق على التوفق في بناء تسوية على مستوى رفع التوتر مع الجوار ، وبلورة مقترحات مؤسسة على أن الشقيقة الجزائر جزء من الحل ليس إلا؛ على أمل تجاوز مقتضيات سيناريو فرض الأمر الواقع أمميا بطي ملف الصحراء بحذف نقطته من جدول الأعمال ، وهو سيناريو قد يفيد تكتيكيا،  لكن استراتيجيا سيجهض فكرة الأيادي الممدودة ، وسيدخل المغرب الكبير في نفق بلا أفق، وبكلفة أعظم.

شارك هذا الموضوع

مصطفى المنوزي

منسق ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!