من مات اليوم؟

رضا الأعرجي
في اليوم الذي مات فيه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر، كنت والصديق الكاتب والروائي المغربي أحمد المديني نقضي عطلة قصيرة بمدينة مراكش المغربية. أذاع راديو مقهى الرصيف الخبر.. كان ذلك مساء يوم 15 نيسان- أبريل 1980.
قال المديني: غداً ستصدر صحيفة “لوموند” عدداً خاصاً بالمناسبة.
في صباح اليوم التالي، ولم تمض سوى ساعات قليلة على إذاعة الخبر، حتى كان عدد الصحيفة الفرنسي

ة الضخم يتصدر أكشاك بيع الصحف والمجلات في المدينة.
والأمر ليس لغزاً يحتاج إلى تفسير ذلك أن الصحف الكبرى في العالم توظف محررين مهمتهم كتابة “نعي” المشاهير من سياسيين وقادة وزعماء وأدباء وفنانين عند رحليهم عن دنيانا..
لا يوجد مثل هذا التقليد الصحفي في العراق وغيره من الدول العربية، وقد جرت العادة، حين تموت شخصية شهيرة، الاتصال بأصدقاء أو زملاء ومعارف لها للحديث عنها.
أتذكر يوم مات الجواهري، الشاعر العراقي الكبير، طلبت مني الصحيفة الخليجية التي كنت أراسلها من الرباط مساهمة بعض الأقلام المغربية في الملف الذي تعده عن الشاعر. كان الوقت الممنوح ضيقاً للغاية، وقد تعذر عليّ تلبية الطلب خلال هذا الوقت، فكان أن اتصلت بصديق سبق أن أصدر كتاباً مرجعياً عن الشاعر، واستأذنته في الاستفادة من بعض ما جاء في كتابه على شكل حوار، مع ما تتطلبه المناسبة من إضافات وتعديلات.
النعي بمفهومه الشامل يتطلب حساسية خاصة، وأعصاباً متوترة، وأيضاً الانتظار والصبر وعدم الاندفاع للتأكد من صحة أخبار الموت من كذبها، كخبر موت الروائي الأمريكي إرنست همنغواي الذي تكرر مرات عدة، حتى قال ذات مرة: استمتعت تماماً بنبأ موتي (بعد تحطم الطائرة التي كان يستقلها في أفريقيا). وعلق ساخراً: في ذلك اليوم، بدأت بممارسة طقوس الصباح المعتادة: كأس من الشمبانيا الباردة، مع حفنة من الأخبار التي تنعاني.
عندما أعلنت مارجاليت فوكس عن توقفها عن العمل الصحفي لتكريس جهودها للأدب، كانت قد كتبت 1400 نعي لـ “نيويورك تايمز”، كبرى الصحف الأمريكية.
قالت موضحة: لم أخطط قط لكتابة نعي إذ لا يولد طفل ليقول: عندما أكبر أريد أن أصبح كاتب نعي. لكن في حالتي انتهى الأمر بي إلى كتابة المئات منها نتيجة لفرص العمل المتاحة، ومع ذلك، كانت لدي الأسباب الكافية للعمل في قسم الوفيات رغم أنه ليس أفضل قسم في الصحافة، لأنك من خلاله تتابع الشخصيات المهمة من المهد إلى اللحد، وهذا يجعل “النعي” النوع الأكثر سردية في أية صحيفة.
تنشر الصحف الكبرى في العالم “النعي” في اليوم التالي لموت الشخصية الشهيرة، والذي يتراوح بين مائتي كلمة إلى ألف، أو حتى أكثر أحياناً. وعندما يتجاوز “النعي” هذه الحدود بكثير، فهذا يعني أن “النعي” مكتوب مقدماً. بالنسبة لهذه الحالات، تتعاون هذه الصحف مع كتاب خارجيين لإغناء ملفاتها. وقد قرأت مرة أن إحدى الصحف تحتفظ بحوالي 1200 ملف نعي بانتظار موت أصحابها لتفتحها أمام القراء، كذلك تقوم بتجديد وتحديث تلك الملفات طوال الوقت، حيث لا يمكن إنتاج سيرة ذاتية كاملة ومدروسة جيداً، ومُصممة جيداً، لرئيس دولة أو لعملاق أدبي في يوم واحد، فأحرى في ساعات قليلة.
بدون مثل هذه الملفات، ستكتفي صحفنا بالقليل القليل الذي تحتفظ به عن موت الشخصيات التي تستحق النعي، أما على هذه المنصة الزرقاء وأضرابها من منصات، فلا نملك سوى الكليشهات الجاهزة، أو اخراج الصور التي تجمعنا معها من أرشيفنا ونشرها للتدليل على علاقتنا بها، كما أفعل الآن.